يمثل الإسلامويون جزءا هاما من مجتمعات بلادهم. إبعادهم عن المشاركة في الحياة السياسية سيكون على المدى البعيد وخيم العواقب، حيث سينجم عن ذلك جمود إصلاحي وما يترتب عليه من ظهور طاقات نزاعية، كما تبين إزابيل فيرينفيلس في تحليلها التالي.
تملك الأحزاب الإسلاموية في كل من الجزائر والمغرب منذ عدة سنوات إمكانية المشاركة في العملية السياسية، وهذا الأمر أكسبها مزيدا من البرغماتية والقدرة على اعتماد حلول الوسط. الحال في تونس على عكس ذلك إذ أدت استراتيجية عدم التسامح المطلق المتبعة حيال الإسلاميين إلى تعزيز أواصل الطابع الاستبدادي للدولة على نحو فائق.
عمدت أجهزة الإعلام الغربية بعد فوز حماس في الانتخابات البرلمانية التي جرت في فلسطين مرارا إلى مقارنة ذلك بالنجاح الساحق التي كانت جبهة الإنقاذ الإسلامية قد أحرزته في الانتخابات التي جرت الجزائر عام 1991.
لكن مثل هذه المقارنات تتسم بطابع إشكالي، لا سيما وأن الضرورة تقتضي فهم النجاح الذي حققته حماس في سياق وضع الاحتلال الإسرائيلي. هذا وإن كان هناك ما يبرر الإشارة إلى المثال الجزائري ولكن لسبب آخر تماما. حيث يمكن اتخاذ الجزائر عبرة لوقائع وخيمة العواقب نجمت عن استراتيجية فاشلة قوامها قمع حركة شعبية إسلاموية.
فبعد أن حاز الإسلاميون في الجزائر في ذلك الحين على نجاح ساحق في الانتخابات عمد الجيش إلى إبطال مفعول الانتخابات ومنع جبهة الإنقاذ الإسلامية. وقد اندلعت نتيجة لذلك حرب أهلية أودت بأرواح قرابة 150000 شخص.
في هذه الأثناء تعلمت القيادة الجزائرية من أخطاء الماضي وأخذت ابتداء من عام 1997 تعمل موازاة لمحاربتها للإسلاميين المتطرفين على انتقاء أحزاب إسلاموية معينة بغرض المشاركة في العملية السياسية طالما التزمت تلك الأحزاب بالقواعد التي سنها النظام الحاكم.
استراتيجيات في منتهى الاختلاف
لو ألقينا نظرة على الدولتين المجاورتين للجزائر، تونس والمغرب، للاحظنا مدى الاختلاف القائم إزاء تعامل النخب الحاكمة في دول المغرب العربي مع التحديات النابعة من الحركات الإسلاموية التي بدأت في تعزيز مراكزها منذ الثمانينيات.
جاء خيار الملك الحسن الثاني في عام 1997 بالموافقة على مشاركة الإسلاميين في العملية السياسية وإن على أسس انتقائية لأسباب عدة أهمها تفاقم حالة العنف في الجزائر. وكان الملك قد وضع في حسابه تكريس التجزئة في صفوف الحركة الإسلاموية و”ترويض” التيار الإسلاموي الذي أسبغ عليه لتوه الصفة الشرعية.
منحت الصفة الشرعية للأحزاب الإسلاموية التي اعترفت بالدور المزدوج الذي سن عليه الدستور بشأن الملك أي بكونه زعيما دينيا من جهة وصانعا للقرار السياسي من جهة أخرى. وقد شمل ذلك حتى الآن حزبين اثنين هما حزب العدالة والتنمية الذي بات منذ عام 2002 ثالث أقوى الأحزاب الممثلة في البرلمان، وحزب البديل الحضاري الذي اكسب السمة الشرعية في عام 2005.
لكن قرار الحظر ما زال يسري على حركة إسلامية قوية هي حركة العدل والإحسان لسبب رئيسي هو رفضها للملكية في كيانها الآني، هذا وإن تعاطت الدولة مع نشاطات تلك الحركة في الأغلب بروح التسامح.
تجزئة المعسكر الإسلاموي
اختار صانعو القرار السياسي في الجزائر ( علما بأنهم كانوا كلهم تابعين للجيش إلى أن انتخب بوتفليقة رئيسا للدولة في عام 1999) على مر سنين الحرب الأهلية نمطا من التعامل مع الأحزاب الإسلاموية شبيها بالخيار المغربي.
فانطلاقا من مساعيهم الرامية إلى تجزئة المعسكر الإسلاموي وتهميش جبهة الإنقاذ الإسلامية والنهوض بمشروعيتهم الواهية عمدوا منذ عام 1997 إلى السماح لثلاثة أحزاب إسلاموية بالمشاركة في الانتخابات وهي حزب النهضة وحركة الإصلاح الوطني الذي يتبوأ حاليا المرتبة الثالثة بين الأحزاب الممثلة في البرلمان وحركة المجتمع من أجل السلام.
هذا وقد أدخلت حركة المجتمع من أجل السلام عام 1997 في الائتلاف الحكومي لتحتل فيه خمسة مقاعد وزارية من مجموع 41 مقعدا. وكانت هذه الحركة وحزب النهضة قد فشلا في منافسة جبهة الإنقاذ الإسلامية في انتخابات عام 1991.
عادة يمنع بعض الأفراد والجماعات القادرة على تعبئة الجماهير على نحو كبير من المشاركة في العملية السياسية. هذا يشمل على نحو خاص الفعاليات السابقة لجبهة الإنقاذ بمن فيهم حتى من أصبح يدين اليوم صراحة بالنهج الديموقراطي.
انزلاق تونس نحو النزعة الاستبدادية
سلكت تونس في عهد الرئيس بن على في واقع الأمر طريقا معاكسا لذلك. فبعد انقضاء فترة وجيزة من إشراك الإسلامويين ولو جزئيا بالعملية السياسية في نهاية عقد الثمانينيات بدأ بن على يلجأ منذ عام 1990 إلى استخدام استراتيجية عدم التسامح المطلق تجاههم.
سبب ذلك النجاح الكبير الذي حققه في انتخابات 1989 البرلمانية مرشحون مستقلون ينتمون إلى حزب النهضة الإسلاموي غير المعترف به من قبل الدولة. أفرز ذلك موجات من القمع ما زالت قائمة حتى هذا اليوم. هذا ولا يوجد في تونس أي حزب إسلاموي معترف به من الدولة كما أنه لا يسمح لذوي النزعات الإسلاموية بالقيام بنشاط سياسي ولا حتى بتنظيم صفوفهم بهدف القيام بالأعمال الخيرية.
لو اقتصر مقياس نجاح الاستراتيجيات المختلفة الصادرة عن تلك الدول تجاه الإسلامويين فقط على تحقيق الأهداف المرسومة من الدولة لا سيما الهدف المتعلق بإضعاف الإسلامويين لاتضح لنا بأن سياسة القمع التي تنتهجها الحكومة التونسية في هذا السياق هي الاستراتيجية الأكثر نجاحا.
ففي تونس لا يوجد للإسلامويين على الصعيد العلني العام أي وجود على الإطلاق، كما أنه يصعب عليهم إعادة تنظيم صفوفهم في ظل مناخ الحظر المفروض عليهم. أما في المغرب فقد أفلح الناشطون الإسلامويون في تكريس المزيد من المكاسب. وربما كان بوسع حزب العدالة والتنمية أن يحقق نجاحا باهرا في الانتخابات البرلمانية التي ستجري في عام 2007.
بالنسبة للإسلامويين الجزائريين فهم يرزحون الآن تحت وطأة التجزئة مما أضعف بالتالي مركزهم السياسي مقارنة بأعوام قليلة مضت. لهذا فإنه حتى في حالة إجراء انتخابات نزيهة وحرة لن يكون بمقدور أحد هذه الأحزاب الإسلاموية القائمة في الجزائر إحراز النجاح. هذا وإن كان بوسعها أن تحقق نجاحا فائقا فيما لو دخلت الانتخابات لا كأحزاب متفرقة بل كجبهة موحدة.
النموذج التونسي يعيق الديموقراطية
في حالة اعتمادنا لمقياس تفريقي لتقييم نجاح سواء الاستراتيجيات القائمة على إشراك الإسلامويين بالعملية السياسية أو تلك المبنية على القمع ولو طرحنا بعد ذلك السؤال على كيفية انعكاس كافة هذه الاستراتيجيات على الطاقات الإصلاحية لكل من هذه الأنظمة السياسية على حدة وعلى النوايا التي يحملها الناشطون الإسلامويون في نفوسهم لتبين لنا بأن الصورة النابعة من ذلك ذات طابع معقد.
في هذا السياق يتضح لنا أيضا الجانب الآخر السلبي لتجربة تونس “الناجحة”، ففي إطار مكافحة التيار الإسلاموي تحوّلت تونس في غضون السنوات الخمس عشرة الماضية من دولة قائمة مبدئيا على الديموقراطية إلى دولة أصبحت أكثر الأنظمة العربية استبدادا.
إذ تزامن اضطهاد الدولة للإسلامويين مع مساس عام للحريات السياسية والحقوق المدنية شمل كل المواطنين التونسيين. فقد كاد المعارضون العلمانيون أيضا لا يملكون إمكانيات تذكر لتنظيم أنفسهم وأصبحوا دوريا عرضة للاعتقال ولحملات غوغائية موجهة ضدهم من قبل أجهزة الإعلام المسيّرة من الدولة.
إذن فإن المثال التونسي يبرر الاستنتاج بكون حظر نشاط الإسلامويين يعيق التطور الديموقراطي نفسه، نظرا لكون مثل هذه السياسة تؤدي بالضرورة إلى نشوء هياكل استبدادية وتجميد ميكانيكية المنافسة السياسية. بالإضافة إلى ذلك فإن التجربة الجزائرية في بداية تسعينيات القرن الماضي تدل على أن أنماط الحظر الشبيهة بالوضع في تونس والتي يرافقها انفجار في الأوضاع الاجتماعية والسياسية تفرز مواجهات مبنية على العنف.
نحو سياسة برغماتية
على عكس الحال في تونس نجمت بصورة مزدوجة نتائج إيجابية عن إشراك الإسلامويين في الجزائر والمغرب في العملية السياسية. فمن خلال ذلك تغيرت أولا النوايا والأهداف التي تتبناها الأحزاب الإسلاموية في هذين البلدين. صحيح أن هذه الأحزاب ما زالت تنطلق في أعمالها بلاغيا من علوم الدين، لكن الأحزاب الإسلاموية المعترف بها من الدولة تتعامل على أرض الواقع على نحو لا يكاد يختلف عن الأحزاب الأخرى أي غير الإسلاموية.
فهي تتصرف في الحياة السياسية اليومية في المقام الأول على قاعدة المعايير التي يحددها الصراع من أجل النفوذ السياسي. كما أنها أصبحت على استعداد للتنازل بصورة متزايدة عن بعض تصوراتها الاجتماعية والسياسية النابعة من القيم الدينية طالما كان ذلك في خدمة المصالح الوطنية أو في خدمة مصالحها الذاتية.
من خلال مشاركة الإسلامويين بالعملية السياسية أصبح برلمانا المغرب والجزائر أشمل تمثيلا لتوجهات الشعب من السابق. يأتي بالإضافة إلى ذلك أن للأحزاب الإسلاموية مصلحة ذاتية حيال المنهج الديموقراطي تفوق الحال لدى غيرها من الأحزاب الأخرى لكونها تدرك بأنها قادرة على إحراز نتائج طيبة في الانتخابات طالما كانت نزيهة حرة.
لهذا فقد بادرت حركة الإصلاح الوطني في طرح مشروع لإصلاح قوانين الانتخابات يهدف إلى تكريس مقدار أكبر من الشفافية. لعل جانبا من الإسلامويين ما زالوا يحبذون في السر خيار التعبئة الكاملة بهدف تحقيق الفوز المطلق للنهج الإسلاموي، هذا وإن أصبح النواب الإسلامويون يتحسسون على نحو متزايد ضرورة التعاطي مع الجماعات الأخرى القوية والمنطلقة من أرضية فكرية مغايرة لهم وباتوا على قناعة بأنه ليس بوسعهم إخضاع تلك الجماعات ببساطة لسيطرتهم. هذا التحول يتضح من خلال المحادثات التي يجريها المرء مع نواب إسلامويين.
موقف محافظ من المسائل الاجتماعية
الغريب في الأمر أن هناك تقاربا كبيرا في الرؤى إزاء أجندة الإصلاح السياسي بين الإسلامويين وبين أطراف خارجية مثل الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة ومؤسسات بريتون وود فيما يتعلق بالمطالبة في ممارسة نهج حكومي نزيه وفي تكريس دولة القانون ومكافحة الرشوة وضمان الشفافية ومحاسبة المسؤولين.
أما في القطاع السوسيولوجي فما زال الإسلامويون يتعاملون بروح بعيدة عن التقدم. ففي المغرب عمد حزب العدالة والتنمية على سبيل المثال إلى اعتماد قانون العائلة التقدمي الجديد في عام 2003 لسبب وحيد فقط هو أن اتخاذه لأي موقف آخر تجاه هذا القانون كان سيعني انتحاره السياسي وذلك على ضوء وقوع الاعتداءات في الدار البيضاء حينذاك. ينبغي علينا أن نلاحظ أيضا بأن حزب العدالة والتنمية يقترب في سياق التصورات الأخلاقية التي يدين بها من صلب القيم المحافظة للمجتمع أكثر من الحال لدى النخب المغربية ذات النزعة الغربية.
بغض النظر عن كون الإسلامويين يشكلون مفتاحا للإصلاح أم لا فإن هذا في حد ذاته غير ذي أهمية بالنسبة للسؤال عما إذا كانت الضرورة تقتضي مشاركتهم في العملية السياسية. لكن هناك حقيقة ثابتة هي أن الإسلامويين يمثلون جزءا كبيرا هاما من مجتمعات بلادهم. لهذا فإن إبعادهم عن المشاركة في الحياة السياسية سيكون على المدى البعيد وخيم العواقب من الناحية السياسية، حيث سينجم عن ذلك جمود إصلاحي وما يترتب عليه من ظهور طاقات نزاعية لا سيما في حالة اندلاع الأزمات ذات الطابع الاقتصادي.
بقلم إيزابيل فيرينفيلز
ترجمة عارف حجاج
صدر المقال في جريدة نويي تسورخر تسايتونغ
إزابيل فيرينفيلز باحثة لدى مؤسسة العلم والسياسة في برلين.
iThere are no comments
Add yours