شريط أرخ للعدم وفعّـل الصمت

بقلم نورالدين ختروشي

لما قرأت معلقة فيلم “في بطن الحوت” للمخرج ميغال شنساز ولاحظت انه هدية لمعاناة الشعب التونسي من الدكتاتورية، تخيلت أن الأمر يتعلق بعرض دراما سينمائية لأحد حكايات الليل الطويل الذي يخيم على تونس السياسة منذ بداية التسعينات

قبل بداية العرض تفضل المخرج وأكد على مقصوده النبيل من وراء الفيلم، ومنيت النفس أن أراها تلعب دور البطولة على الشاشة الكبيرة… بدأ الفيلم ومضت الدقائق بسرعة ولم أرى ما ترقبت، رأيت تونس العميقة في بطن صحراءها صماء بكماء وقليل كلامها الذي تسمعه تتمنى إن لم تقله….. فأحداث الشريط تدور في مكان ما بعيدا عن المدينة بدون لغة و بدون تواصل أي بدون سياسة… والمجال يكاد يتحول ألى أنتروبولجيا تلعب فيها غريزة الحياة لعبة التشبث باللحظة دون الاكتراث بالزمن … سيولة الوقت الجاف والمرمل تحتوي الوجود في صمت مقبرة.. يقطعه لغلغة لغة مغلولة بغل يمنع التواصل.. يسخر من المعقول.. رسالة تفيد بوجود الكائن ولكن من دون ذات، فالكل يؤممه صمت هو الفاعل الوحيد الذي ينتج معنى يفيد باستحالة فهمه.

الشريط بدون موضوع.. بدون سيناريو ..بدون أبطال بل وبدون سينما، يستدعيك المخرج دون أذن أن تشاركه حيرته أمام الصمت والفراغ… يسال ويبحث عن رأس خيط ليبدأ عملا توثيقيا.. يصاحبه مهندس صوت كسول لا يتكلم بل يقطع الكلمات… يركب جملا الفعل فيها والمفعول دون فاعل.. يقتحم المشاهد الجافة وجه عجوز أسمر هدته سنوات الريح ينطق بنصف كلمة شاردة تعمق تراجيديا حوار ينتهي قبل أن يبدأ…. تنتقل عدسة المخرج لتنقل تجمع بشري، وتنتظر ان يبدأ الفيلم ولكن تسخر منك العدسة حيث الجمع يتجمع ليلعب “لعبة الديمينو” وينتهي مشهد الحياة على لعبة وينام الرجل طفلا … ويعقب الليل صباح أرمل يتعاون فيه فلاح وفلاحون على قطع ن! خلة بجانبها نخيل محايد وبعيدا عنها كلب يعوي …وعجوز هناك تغزل صوفها في حركة باهتة و شرود طيب…. يعود ليل ويجتمع الجمع على نغم عود، ونقرات طبل، وغياب العازف والطبال، وحضور طفل أسمر بشوارب سوداء، يغني لليل موال حزن بصوت رخيم وكلمات يلحسها فلا تكتمل، وكأس شاي أحمر أو اسود يرتشفه أويأكله وأسنانه صفراء، وحزين الحزن يغني نصفه مسموع ونصفه لايفهم….. بعد الليل أو قبله تعود العدسة إلى صاحبها الجالس أمام مبنى خرب، لم يغادره.. يتأمل … يفكر ..يترقب ولا يفعل شيئا سوى محاولات يائسة لقطع زمن الصمت بلحظة لصالح الكلمة التي تخرج لتختفي بل لتذوب في محيط من الفراغ الرهيب ومهمهمات العجوز الأسمر الذي يغير مكانه ولا يغادر صمته ، وفي غفلة من فوضى المكان وعبث الزمن، ينطلق مهندس الصوت يبحث عن تسجيل صوت لتبدأ رحلة بحث عن فراغ يتكلم ..! .. يتيه باحث الصوت بعيدا في محيط رمل… وقليل نخيل وزهير نوق هزيلة…. وفحيح ريح لاسع ينسيك عادة فتح الفم… يؤنس فيك الصمت وطأطأة الرأس والمشي أنحناءا والنظر بعينين مغمضتين والنوم انبطاحا …. وفي بطن حوت الصحراء حكيم صيني يهمس [انك إن كنت في حاجة لسنتين لتتعلم الكلام، فقد تحتاج عمرك كاملا كي تتعلم الصمت] …

لتونس الخضراء فرح أصفر وارض قاحلة وتاريخ لغريزة بقاء….. الكلام رفاهة غني… والحركة بدون اتجاه.. والصبر لم يكن جميلا لأنه يفتح على صبر أطول وانتظار بدون موعد .

وعلى امتداد تجاعيد وجه العجوز الطيب الأسمر أثار مخلب لدكتاتورية بدون أسم…

شكرا ميغال فقد نبهتنا أن عفوية البادية هي نفسها جريمة المدينة .

نورالدين ختروشي

Noureddine_khatrouchi@yahoo.fr