الجــــزء الثاني : التعددية بين التأصيل والفعالية وراحة الضمير!
د. خــالد الطراولي
توطــــئة
عندما تشرئب أعناقنا من وراء البحار لتلمس الواقع التونسي، تبدو فسيفساء المعارضة متنوعة في مرجعياتها، في تصوراتها وفي أطروحاتها. وإذا اعتبرنا التقسيم الذي كثيرا ما تبناه البعض – والذي لنا على تسمياته بعضا من التحفظ – من وجود قطب ديمقراطي وآخر إسلامي، فإن الملاحظ يبهره الاختلاف النوعي وتعدد المشارب وتنوع الألوان داخل ماصطلح على تسميته بالقطب الديمقراطي، من حزب المؤتمر إلى حزب التجديد، ومن الحزب التقدمي إلى حزب العمال، ومن حزب التكتل إلى الحزب الليبرالي، وغيرها من القوميين والتقدميين واليساريين. وفي المقابل فإن القطب الإسلامي لا يكاد يحمل إلا يافطة وحيدة، ظلت تظله منذ عقود وتحمل رايته، وهي حركة الاتجاه الإسلامي سابقا، أو حركة النهضة حاليا.
وحين تأخذ بتلابيبنا ذاكرة الماضي القريب والبعيد، وإشراقات الحاضر المحيط في دنيا الجغرافيا، تظهر التعددية داخل المشروع الإسلامي وافرة الظلال. ففي إيران خرج من جعبة الإمام الخميني فصيل محافظ وآخر إصلاحي، لكل منهما آراؤه وتصوراته ورجاله وقياداته ومشروعه السياسي والثقافي. وفي السودان انفصل التلاميذ عن الأستاذ وبنوا مشروعهم وأقاموا دولتهم، وأصبح الشيخ معارضا والمريدون حكاما وسلطة، وتزعّم الترابي فصيله وطرح مبادرات تناقضت مع أطروحات رفاق الأمس. وفي تركيا ظهرت الخنادق أكثر وضوحا بين مشروعين للمعارضة والحكم، ووصل التلميذ إلى قمة السلطة وبقي الأستاذ والمعلم في المعارضة، ونجح مشروع أردوغان في التمكين، وعجز إلى حين مشروع أربكان.
أما في مصر فقد هيمن الإخوان على الساحة، لكن مع وجود مجموعة حزب العمل ومجموعة حزب الوسط غير المعترف بها، وتعددت مشاريع العمل ومنهجيات التغيير. وفي الجزائر غاب الإنقاذ عن الساحة السياسية لكن المشروع الإسلامي لم يغب، وحملت أطرافه طوعا أو كرها، حزب مجتمع السلم وحزب النهضة. وفي المغرب دخل حزب العدالة والتنمية إلى المجالس النيابية والبلدية، في ظل تناغم مع مشاريع إسلامية أخرى حملها العدل والإحسان وغيرها من الأطراف على صغر حجمها. وفي الكويت زيادة على اختلاف المشاريع لارتباطاتها الطائفية، فإن التعدد والتنوع داخل المشروع الإسلامي تبدو صفة غالبة وظهرت حتى في المجلس النيابي.
فهل يكون غياب التعددية داخل المشروع الإسلامي التونسي عنوانا لوحدته، وبرهانا على توحده، وشرطا لنجاح مساره؟ أم أنّ التعددية سبيل لتأكيد منحاه الديمقراطي، ومنفذ نجاة من المطبات والعراقيل التي أحاطت بتاريخه وحاضره ولا نخالها تكون غائبة في مستقبله؟ وهل وجود المشروع الإسلامي الواحد هو خيار عانقه أصحابه في ظل واقع خصب تعددت اتجاهاته وأطروحاته ورجاله، فمالوا إليه واختاروه عن قناعة واعتقدوا في أفضليته على من سواه؟ أم أن ظروفا محيطة وأوضاعا خاصة، و ضرورات ودوافع موضوعية ولعلها شرعية أفرزت الأحادية، فلم يكن خيارا أو اضطرارا ولكن بين هذا وذاك، نتيجة دفعات الواقع الذي حبذ الوحدة ابتداء، موضوعا وشرعا، وتواصل بعد ذلك لغياب الحاجة للتنوع، ولدخول المشروع ذاته في حلبة الصراع والمواجهة فكان ضمان البقاء سابقا على ضمان التعدد؟
الاختلاف والخلاف
لن نأتي بجديد إذا أردنا أن نؤصل للتنوع والتعدد والاختلاف، فقد تعرضت عديد الأقلام قديما وحديثا لهذا البعد، ولا نخالنا إلا مرددين للكثير منه، ولن نطيل الوقوف عليه، فالإجماع يكاد يكون نموذجيا في هذا الباب. فالمقدس الذي نحمله حافل بهذا المبدأ البشري والكوني، ويعتبره ظاهرة فطرية وإيجابية للتفاعل والتفعيل (ومِن آياتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ والأرضِ واختلافُ ألسِنَتِكُمْ وأَلْوَاِنكمْ، إنَّ في ذَلكَ لآيات للعَالَمين )[الروم 22]، ( ولَوْ شاءَ رَبُّك لَجَعلَ الناسَ أمَّة واحِدة ولا يَزَالُون مُخْتلِفين)[هود 118](واختلفت الملائكة واختلف الرسل ولم ينزع عنهم فضلهم واصطفائهم ولا مراتبهم العُلى ومكانتهم العالية، (ما كان لي من علم بالملأِ الأعلى إذ يختصمون) [ص 69]، وفي قول موسى لأخيه (يا هارون ما منعك إذ رأيتهم ضلوا ألاّ تتبعنِ أفعصيت أمري)[طه 92-93]
ولقد اختلف أصحاب الرسول الكريم (ص) في حضرته، فقبل الاختلاف ولم يجرح أحدا من الأطراف[ ] وفي هذا يقول عمر بن عبد العزيز :” ما أحب أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يختلفوا, لأنه لو كان قولاً واحداً كان الناس في ضيق, وإنهم أئمة يقتدى بهم, فلو أخذ رجل بقول أحدهم كان سعة ” واختلف التابعون في اللغة والرواية والفقهيات، وحدث الاجتهاد فنشأت المذاهب، واختلف المفسرون في التأويل وفي العقديات فتكونت الفرق، واختلف المفكرون في الفهم والتنزيل، فنشأ الرأي وخلافه، وكثر التناظر، وبرزت المدارس الفكرية. وهكذا تنوعت المدارك والأفهام فتعددت الرؤى والتصورات داخل المحراب وخارجه، حتى رأينا عند أهل الاختصاص نشأة علم الخلاف قديما وفقه الاختلاف حديثا[ ].
والحركة الإسلامية المعاصرة ليست إلا فهما معينا لواقعها وتأويلا واجتهادا لمقدسها، فلا عصمة لرجالها، ولا قدسية لأفكارها، ولا صوابية مطلقة في آرائها ومواقفها، ولا تعصب لجماعتها، وإنما هي اجتهادات فيها الصائب الذي يُدَعَّم ويُدفَع به، ومنه الخائب الذي يُلغَى ويُتَجَنَّب، ، فهي جماعة آمنت بربها وأرادت إصلاح مجتمعاتها ما استطاعت، فهي ليست الفرقة الناجية وما سواها قابع في النار! فلا محاكم التفتيش شأنها، ولا منابر التجهيل شغلها!
و لعل من مظاهر الغلو المقيت الذي يزحزح الاختلاف، ويرمي به من مناطق القبول والتسامح والعدل والتعاون، إلى منازل العداء والمواجهة العقيمة: التعصب للفرقة أو الحزب، والخلط المربك والخطير بين الانتماء للتنظيم من جهة، والانتماء للثقافة الإسلامية وإلى الدين عموما من جهة أخرى، حتى أضحى التنظيم عند البعض صنما تعبديا وغاية في حد ذاته، وكأن الخارج عن التنظيم خارج عن ربقة الإسلام!
حول إيجابيات التعدد
إن التعدد داخل الصف الإسلامي التونسي يستجيب لعدة عوامل ومتطلبات نحسبها دليل أولوية وصحة للمشروع السياسي ذو المرجعية الإسلامية وعنصر حماية ودفع نحو الاجتهاد والبذل والعطاء والبناء، وتثويرا لعقلية السكون والانسحاب واللامبالاة:
1/ إن سعينا ليس اكتشافا نوعيا ولا توليدا جذريا، بل هو كشف الغطاء عن المستور حتى يظهر، والحائر حتى يطمئن، والوليد حتى يشتد عوده. فهو اعتراف بوجود التعدد داخل المشروع الإسلامي، يهدف إلى الدفع به خارج سراديب الممارسة، وكهوف المناظرة، ليكون تعبيرا صادقا مرئيا وملموسا لا تشوبه المناورة ولا الغش ولا الخوف ولا المراء.
2/ إن التعدد يمثل صمام أمان للظاهرة، فتعرض طرف لمحنة ما في طريقه الإصلاحي ومشواره المعارض، لا يلغي المشروع و لا يدخله في متاهات المواجهة وردات الفعل والتشتت والموت البطيء. وهو ما يعيشه المشروع الإسلامي الإصلاحي منذ التسعينات، ولا يزال يحاول بكل عناء ونصب، الخروج من شباكه وقد ترك الديار لأهلها، بعد سياسة تجفيف لمنابعه طالت الأخضر واليابس. ولولا ألطاف الغيب التي حفظت الدين ومنعت الخلط المتعمد بين الدين كعقيدة جامعة، وبين الطرح السياسي، وجعلت للسماء شأنا بعد أن أغلقت على الأرض الأبواب والمنافذ، لكانت المصيبة عامة، ولا انتهى المشروع السياسي وأخذ معه في تلابيبه الدين وقيمه وفضائله وطقوسه.
3/ إن من شأن التعدد أن يدفع عن المشروع السياسي تهمة التمثيل الأوحد والوحيد للتصور الإسلامي وأن ينحي أغطية القدسية والعصمة التي كثيرا ما لامست بعض أقواله وممارساته عن وعي أو عدم وعي ويدفع به مجددا في رحاب الاجتهاد والمجاهدة والتنافس البريء والجاد من أجل الصالح العام بعيدا عن رايات التجهيل والتكفير ومحاكم التفتيش.
4/ يعطي التعدد مصداقية كبرى للمشروع، عند أصحابه وعند منافسيه وعند الجماهير. فلا يعقل أن يدع الخطاب الإسلامي إلى التعدد والتنوع، وإلى قبوله كطرف له حقوقه وواجباته داخل الفسيفساء الديمقراطية، وهو عاجز أن يشكل تعددا داخله! ولا يعقل أن ينادي أصحاب المشروع بالتزام التعدد من طرف السلطة الحاكمة، وهو لا يلتزم بالسماح بالتعدد داخله! وكيف للمعارضة أن تقتنع بديمقراطية القطب الإسلامي، وهو لم يستطع أن يمهد الطريق للتعددية بين أطرافه ويحترم ديمقراطية بنائه؟ وكيف لهذه الجماهير الحائرة حينا، والمندفعة حينا آخر، وهي الوسيلة والهدف، أن تقتنع وتطمئن إلى هذا المشروع، في صدق ديمقراطيته ومصداقية قبوله بالتعدد والتداول على السلطة إن وصل إلى مرحلة التمكين، وهو غير قادر على قبولها وهو خارجها ؟
ملاحظة : لمراسلة “”اللقــاء الإصلاحي الديمقراطي” في انتظار إنشاء الموقع الخاص للحركة الذي لن يتأخر ظهوره بإذن الله، يستطيع الإخوة والأخوات استعمال البريد الكتروني التالي :
iThere are no comments
Add yours