يعد كتاب* المشهد الثقافي في إيران للكاتب العراقي عبد الجبار الرفاعي من أهم ما صدر لرصد الحركة الثقافية والفكرية في إيران، ورغم أهميته فلم ينل ما يستحقه من قراءة واهتمام… وفي هذا المقال مراجعة للكتاب

JPEG
منذ لحظة التكوين الأولى للفكر العربي الإسلامي وانطلاقا من ظهور الإسلام والنص النازل في القرن الأول الهجري، راحت تطرح الأسئلة الكلامية والفلسفية لتتبلور في عصر الترجمة والانفتاح على الميراث الفكري الإنساني ويتحقق التفاعل ثم الازدهار المعرفي في الفلسفة وعلوم الشريعة واللغة والعلوم الطبيعية وغيرها.

وفي ظل سياق التردي السياسي والاجتماعي دخل الفكر في حقبة الغزالي وارتبك موقف الإنسان المسلم من المعرفة كما تجلى في “تهافت الفلاسفة”، وراج لون طافح من التصوف فانحسرت الرؤية العقلانية وخاصة مع صعود تيار المدرسة النصوصية متمثلة بالاتجاه الأشعري- الحنبلي في مرحلة سابقة شهدت نهاية المعتزلة. ولا يزال هذا الفكر يشهد تحولات مهمة، رغم التفاوت بين درجاتها ودوائرها ومدياتها الزمنية وطبيعة البنى الجدلية التي أفرزتها، ورغم التيارات السكونية التي ظلت تستعصي على التحول وتعتبر مظاهره لونا من الردة والانحراف، وهي تيارات لا يستهان بشأنها ونفوذها والمساحات التي تغطيها إلى درجة ربما يغيب خلالها أثر التطورات تلك وتكتسب في وجهة نظر البعض طابعا شكليا لا يلج إلى بنية الخطاب أو إستراتيجيته.

مع عصر النهضة و”تخليص الإبريز في تلخيص باريز” لرفاعة الطهطاوي وما قام به الأفغاني وغيره من جهود، طرأ تحول جديد اقترن بحالة ذهول حيال وافد فكري رافق الغزاة الشماليين، معبرا عن عصر العلم الحديث في الغرب من جهة ومؤذنا بتحديات جديدة سيواجهها العقل المسلم من جهة أخرى.

فوجدنا أنفسنا أمام الوضعية العلمية والتيار المادي الماركسي بكل ما في جعبتهما من تساؤلات وإثارات وأنماط لم نألفها من التفكير، وبدأت مرحلة التعرف والاستيعاب لمعطيات الوعي الإنساني الحديث. وبعيدا عن لغة الإسراف في التحقيب نلاحظ أن حرب الخليج الثانية عام 1991 التي مثلت نكسة أخرى لعلها مثلت انتكاسة أشد من هزيمة حزيران، راحت تعلن بنحو أوضح عن فوضى مستشرية في العالمين العربي والإسلامي كانت قد عبرت عن نفسها بشكل أقل وضوحا في حرب الخليج الأولى 1980-1988. كما عملت بعض التجارب الحديثة كالثورة الإسلامية في إيران على اختبار مقولات فكرية سائدة والتوقف عند بعضها وإعادة النظر وتقديم مقاربات جديدة فيما يتصل بها. وقد لعبت المتغيرات هذه دورا في صياغة شتى الصدمات السابقة على شكل جرح نرجسي كبير (حسب التعبير المفضل لدى فرويد) يستجمع في نسيجه سائر جراحنا التاريخية؛ وهو ما أدى إلى ظهور اتجاه أخذ يعيد النظر بجدية في نظامه الثقافي ويحاول أن يأخذ الدرس من كبوات العقل في الماضي، فاقترن العقد الماضي بتكوين ملامح لنظام ثقافي جديد ألقى بظلاله على ما ينتجه الفكر العربي والإسلامي. ويمكن القول بأننا ما فتئنا نلمح في العقدين الأخيرين شواخص لمرحلة فكرية جديدة تتباين مع سابقاتها؛ إذ تبلورت جهود عديدة حاولت إعادة النظر في موقفنا الفكري الراهن على مستوى مرجعياته ومناهجه وما تطرحه علينا هموم التجديد من أسئلة.

تحولات المشهد الثقافي

ي المشهد الفكري والثقافي في إيران يطالعنا جانب خصب من مظاهر التحول في الفكر الإسلامي المعاصر، يستلهم محفزاته من متغيرات سياسية واجتماعية مهمة في الداخل، ونماذج فكرية مشابهة في البلاد العربية والإسلامية الأخرى. وهذا ما يناظره تيار تحولات آخر في العالم العربي، ولا تقوم أسس شراكته للحالة الإيرانية على صدفة من نمط تاريخي أو ارتجالي بل تتأسس الشراكة على حقيقة خضوع الدائرتين لسلطة سياقات متشابهة أو متطابقة. فبمعزل عن الشراكة في الدائرة الإقليمية سياسيا وإستراتيجيا ثمة سلطة مشتركة للمناهج المعرفية السائدة التي تهيمن على الحالتين (العقل الثقافي السائد) والأهم من كل ذلك الإشكالية التي يدور حولها هذا العقل وتمثل هاجسه التاريخي.

وثمة تجربة الدولة الحديثة التي تقوم على أنقاض نموذجين متشابهين للغاية (العثماني، الصفوي، إضافة إلى ظاهرة المماليك الأتراك). وعلى مقربة من ذلك نجد انتكاسة حضارية منيت بها الحالتان تتمثل في العوامل التي صاغت ثوابت العلاقة مع الغرب. وإضافة إلى مستويات الشراكة الأخرى تمثل أمامنا تحديات متشابهة يواجهها تيار التحولات المنوه إليه آنفا، على مستوى طبيعة إطار الحركة، وحداثة التجربة، والنمط المميز من ردود الفعل تجاهه مما لا نجده في النطاقات الإقليمية والحضارية الأخرى. ورغم التنوع والتباين القائم بين الاتجاهات الفكرية التي ظهرت في الدائرة العربية وما يناظرها في إيران، فإن إشكالية التعامل مع التركة المعرفية ظلت هاجسا يحركها جميعا… لكن المائز الواضح بين الدائرتين العربية والإيرانية خلال العقود الثلاثة الماضية فرضه المتغير الاجتماعي السياسي.

فحين راحت معظم المعالجات العربية تسعى إلى التحرر من قيود التراث ولا ترى بأسا في مناهضة مناهجه، برز في إيران منهج يسوغ لنا إلى حد كبير وصفه بالتوفيقية التي تحاول المصالحة بين التراث والمناهج الحديثة، كما نرى في أفكار عبد الكريم سروش الذي استلهم المنهج الكانطي في التمييز بين الشيء في ذاته والشيء لذاتنا(2) لكي يميز بين الدين والمعرفة الدينية كي لا يكون الدين محورا لما يسجله من ملاحظات نقدية بل تتجه الأخيرة إلى المعرفة الدينية بوصفها فهما بشريا للدين. وهكذا نجد أن معظم الجهود الفكرية في إيران حاولت توجيه ملاحظاتها نحو القراءة السائدة للدين استجابة للحالة الإسلامية الثورية سياسيا واجتماعيا، وطبعا فإن الخط البياني لهذا المائز لا يكاد يستقر في دوائر الموضوعات المختلفة وطبيعة الأشخاص الذين تناولوها. فيما يرتبط بالإشكاليات التي تناولها الفكر الإسلامي المعاصر نجد أن ما يميز جهود الإسلاميين في إيران هو النـزعة الفلسفية الصوفية التي افتقدها الكثير من الإسلاميين العرب مع استثناءات مهمة طبعا، حيث يشهد التيار الإسلامي العربي غيابا ليس بالهامشي لمنهج المعتزلة (كمثال) وتكريسا للمدرسة الحنبلية النصوصية أو الأشعرية التي تتحسس من الفلسفة؛ الأمر الذي جعل الاهتمام بالرشدية والسينوية والتراث الفلسفي بعامة من حصة الأكاديميين العرب خارج دائرة الإسلاميين.

حقول وميادين التحولات

JPEG
هكذا يدرك المتابع للمشهد الإيراني أهمية استيعاب طبيعة ما يتحرك خلاله من اتجاهات ومستويات ونماذج فكرية لا بد من أخذها في الحسبان في أي قراءة للحالة الإسلامية في بعديها الفكري والثقافي، وفي ميادين أصول الفقه والفقه والفقه السياسي وعلم الكلام والعديد مما يرتبط بذلك من مقولات.

وفي هذا السياق يقول عبد الجبار الرفاعي(3) في مقدمته الطويلة لكتاب “المشهد الثقافي في إيران…”: “ليس بوسعنا رصد كافة الاتجاهات والتحولات الكلامية والفقهية والمعرفية والفكرية في إيران في العشرين سنة المنصرمة؛ لأن وتيرة التغيير الاجتماعي والثقافي تسارعت في هذه الحقبة بنحو أفرز العديد من الظواهر والآراء والاتجاهات الفكرية المتنوعة، تبعا لما انبثق في فضاء تجربة تطبيق الشريعة ومحاولة أسلمة مؤسسات الدولة والمجتمع. ويبدو أن العقد الأخير 1989-1999 كان الأشد كثافة في حجم التغيرات وعمقها”، وذلك في ضوء ما عايشه فيها من قراءات من منظور مختلف لعلم الكلام وفلسفة الدين، ومناهج الاجتهاد، والفقه السياسي, وغيرها. ويضيف: “تلك أبرز الحقول التي تبلورت فيها مكاسب مميزة للفكر الإسلامي في إيران بعد انتصار الثورة الإسلامية. وبغية مواكبة هذه المكاسب، والتعرف على ما اكتنف مسار الفكر الإسلامي في العقدين الأخيرين 1979-1999، أعددنا سلسلة كتب تصدر تباعا، تحكي معالم “المشهد الثقافي في إيران” وتكشف لقراء العربية الأبعاد المهمة للتحولات المعرفية والثقافية لدى قطاع واسع من النخبة في الحوزة العلمية والجامعات. وحرصنا على انتقاء كتابات تعرض مختلف وجهات النظر في القضية الواحدة، من دون أن نشفع هذه الكتابات بمراجعات تقويمية أو إصدار أحكام لصالح رؤية خاصة. وتمت عملية الانتقاء بعد رصد تواصل لمدة تناهز العقدين لما ينشر في الصحف والدوريات والندوات والمؤتمرات، فضلا عما يصدر من كتب في الجمهورية الإسلامية الإيرانية، ومطالعتها، وفرز ما هو جيد منها للترجمة إلى العربية، ثم مراجعتها وتحريرها بعد الترجمة”. كما ينص معد الكتاب بصراحة أن ما يقدمه هو “أفكار للمناقشة” لا يعني نشرها تبنيها والحماس لها بالضرورة, بقدر ما يعني مواكبة القارئ العربي لأداء الفكر الإسلامي في إيران.

فلسفة الفقه

من ملامح التحول المشار إليه بداية المقال، الدعوة التي طرحها عدة من الباحثين لتدشين حقل علمي أطلقوا عليه “فلسفة الفقه”، يراد له أن يرفد الممارسة الفقهية بما يؤهلها لأداء أفضل. لكن الملاحظ باعتراف أصحاب الدعوة أنفسهم أن مفهوم فلسفة الفقه ما زال محفوفا بالغموض من نواح عدة، وذلك خاضع لجملة أسباب ليس أهمها جدة هذا المفهوم وحداثته، فضلا عن تساؤلات عديدة تطرح حول مبرر فصل هذا المبحث عن علم أصول الفقه، وغير ذلك، ومع هذا فإن الجهود التي بذلت حاولت إيضاح الإطار العام لفلسفة الفقه، وبما يوفر أرضية تنطلق عنها بحوث تسبغ على هذا الحقل تماسكا أكثر.

لم يطرح في واقع الأمر تصور واحد حول مفهوم “فلسفة الفقه”، وإنما طرحت وجهات نظر متعددة(4)، فنجد أن مهدي مهريزي في واحدة من المحاولات المبلورة والواضحة ضمن هذا الاتجاه(5) يعتقد أن فلسفة الفقه علم يبحث في فرضيات الفقه والاجتهاد الفقهي(6)، بمعنى أنه يقدم معالجات نقدية للمسلمات الثابتة في الفقه بل وفي علم الأصول والرجال أيضا(7)، وذلك عبر طرحه أسئلة لم تكن معروفة في السابق، أو أنها لم تكن مطروحة بالشكل الذي يراد طرحه في فلسفة الفقه.

لكن مجتهد شبستري(8) يأخذنا إلى محاولة توغل أبعد وهو يرى أن ثمة معيارا في القضايا الفلسفية يمكن بواسطته التمييز بين المسائل الفلسفية وغيرها، وبخاصة فيما لو شئنا التحدث عن الفلسفة كعلم. المسألة الفلسفية هي المسألة المراد منها الإجابة عن سؤال “ما هو؟” ففلسفة العلم مثلا هدفها تقديم الإجابة عن سؤال “ما هو العلم؟”. ومن الطبيعي أن البحث والنقد يعتبران جزءا من هذه الإجابات. وعلى هذا الأساس يجب القول: إن فلسفة الفقه ترمي إلى تقديم إجابة عن السؤال القائل: “ما هو علم الفقه؟”. إن سؤالنا عن ماهية علم ما، يحمل شيئا جديدا بالنسبة لنا. وهذا النمط من السؤال لا يختص بعلم الفقه وحده وإنما يصدق على كل العلوم.

ويضيف شبستري أن فلسفة الفقه تلعب دورا في تحديد الأسس التي يقوم عليها علم الفقه خارج إطاره الذاتي.

ولعل هذه أكبر فائدة تقدمها فلسفة الفقه؛ فيتضح لنا من خلال فلسفة الفقه أن الفقيه وإن كان يتفقه في سياق نظام معين، فإنه لا بد أن يعتمد أولا معنى خاصا للكتاب والسنة، وبمعنى خاص للكلمات (المقصود هنا هو المعنى الفلسفي والكلامي). يبدي شبستري اهتماما متميزا لهذه النقطة حيث يتضمن كتاب “المشهد الثقافي…” دراسة خاصة له حول “قبليات الفقيه”، أي المنطلقات والمرجعيات الأعم من المعرفية في عملية الاستنباط، مما سنتعرض له لاحقا.

إن ملاحظة أبرز الآراء المطروحة في فلسفة الفقه حتى الآن ومحاولة قراءتها بمنهج يبرر لنفسه كشف ما سكتت عنه النصوص، تعكس لنا رغبة لدى أولئك الباحثين في تخطي المحددات التقليدية العتيدة التي تمسك بدفة البحث الفقهي، ولعل من خيارات هذا التخطي والتحرر إبداع أو بلورة حقل مستقل عن الفقه يهتم بمعالجة إشكاليات باتت عصية على الحل في إطار علم الفقه ذاته، وهذا هدف يتوارى كما يبدو خلف المبررات المعلنة لتأسيس حقل فلسفة الفقه. إن المبررات المعلنة هذه تواجه تحديا كبيرا يسلبها صلاحية التبرير؛ لأنها تظل أسيرة للضوابط المقررة في أبحاث أصول الفقه مثلا فيما يتصل بتحديد العلم وموضوعه وغايته، وقد وجدنا في دراسة سابقة أن أبرز المسائل المطروحة في فلسفة الفقه في حدود متابعتنا، تندرج في مسائل أصول الفقه في ضوء التعريف السائد لهذا العلم خلال نصف القرن الماضي(9). لا يعني ضعف هذه المبررات تشكيكا في أهمية فلسفة الفقه وما ينطوي عليه من جرأة علمية كحقل يضم مسائل مهمة، كما أن ذلك لا يعني نفي المبررات الأخرى التي تذكر أحيانا ويمكن الاعتماد عليها في بناء الحقل الجديد، ولا يهدف كاتب السطور من هذه الملاحظة سوى إلى تحديد جملة من المؤشرات التي تحف بظروف التأسيس، وأحسب أن التفسير الذي ذكرته بعينه يكفي في التبرير أو أنه يمثل على الأقل جزءا من الدواعي اللاشعورية لتأسيس فلسفة الفقه.

لاحظت لاحقا أن مصطفى ملكيان يعترف بجزء من هذه الحقيقة بسجيته العفوية وتواضعه العلمي وجرأته: “الموضوعات التي نتناولها بالدراسة تحت عنوان فلسفة الفقه يتعلق قسم منها بعلم الأصول، وقسم آخر بفلسفة الدين، بينما يبحث القسم الآخر منها في إطار علم الكلام.

وهناك قسم آخر من قضايا فلسفة الفقه لم يدون حتى الآن”(10). وهكذا يأخذ ملكيان بصفته محورا للحلقة النقاشية المنشورة في الكتاب، بطرح مجموعة من الإثارات ذات الصلة بما تمثله فلسفة الفقه من رهانات هي في الحقيقة مجموعة الهواجس والتساؤلات التي بدأت تظهر في سياق مميز رغم أنه ينتمي إلى مسار تاريخي بدأ منذ عصر النهضة، وهو إنما يتميز من خلال أفقه الواسع وأدواته الجديدة ومواكبته الأكثر واقعية لما يشهده العالم من متغيرات.

يخصص الكتاب لموضوع فلسفة الفقه عددا آخر من الدراسات إضافة إلى ندوة موسعة شارك فيها أربعة خبراء في الفقه هم: مصطفى محقق داماد، مصطفى ملكيان، صادق لاريجاني، عابدي شاهرودي. ويتولى فيها محقق داماد إشكالية تعريف فلسفة الفقه كحقل جديد وعلاقته بالحقول الأخرى ذات الصلة بمحوره. كما يخوض الآخرون في جوانب أخرى تتصل بالموضوع ذاته كالبحث في أن فلسفة الفقه علم وصفي أم معياري، ونحو ذلك من القضايا المثارة في فلسفة العلم وهو العنوان الأوسع الذي يجمع الفلسفات المضافة إلى مختلف العلوم.

مرجعيات الفقه

يتضمن الكتاب فصلا بالغ الأهمية حول القبليات والمصادرات التي تخضع لها عملية الاستنباط الفقهي، أي مرجعيات الفتوى. وفي مقال للشيخ مرتضى مطهري “تأثير منظور الفقيه في الفتوى” يتجلى البعد الأكثر تنويرية في هذا الرجل، وهو يمثل سمة معروفة فيه غير أنها نادرا ما تجلت بهذا المستوى.

نلاحظ أن مطهري لا يخرج عن دائرة الصياغات والأدوات التقليدية في البحث، غير أنه يوظف ذلك في تحليل عملية الاستنباط بطريقة جريئة تقصي قداسة غير مبررة أحاطت بالآراء الفقهية، فيتولى التدليل على بشرية الرأي الفقهي ويمارس أنسنته وإرجاعه إلى مبادئه أو مرجعياته البشرية. إن ما يطرحه مطهري يذكرنا بموضوع العنصر الذاتي في الاستنباط الذي يتناوله الشهيد الصدر في كتاب اقتصادنا(11)، والنتائج التي انتهى إليها عبد الكريم سروش في نظرية القبض والبسط(12)، إلى غير ذلك من معطيات فلسفة العلم الحديث بالغة الأهمية. يقول مطهري: “لنفرض أن شخصا ترعرع في طهران حيث تكثر المياه الجارية والأحواض ومخازن الماء والأنهر، ولنفرض أن هذا الشخص نفسه فقيه ويريد أن يصدر فتوى في أحكام الطهارة والنجاسة، فبالنظر إلى المحيط الذي عاش فيه، يرجع إلى الأحاديث والروايات، ويسعى إلى استنباط أحكامه مقرونة بالكثير من موارد الاحتياط ولزوم تجنب الكثير من الأمور. ولكن هذا الشخص نفسه إذا ما ذهب إلى حج بيت الله الحرام, ورأى هناك حالة الطهارة والنجاسة وندرة الماء، فإن نظرته إلى باب الطهارة والنجاسة تختلف، أي أنه بعد عودته من الحج ورجوعه مرة أخرى إلى الأحاديث والروايات فإنه سوف يجد لها مفهوما آخر”. (الكتاب، ص335).

وفي السياق ذاته نجد محمد مجتهد شبستري يتوغل في موضوع المرجعيات والقبليات ليمارس تحليل الفتوى ويحاول مقاربة جانب من مرجعياتها والمبادئ التي تقوم عليها منطقيا، ويعالج بضعة أمثلة كالقول بأبدية الأحكام التي تمثل نتيجة لعدد من المقولات في الفلسفة وعلم الكلام وعلم الاجتماع والأنثروبولوجيا، مضيفا أن “الفقيه لا يستنبط الأحكام مستعينا بعلم الأصول فقط، وإنما تتدخل أيديولوجيا الفقيه ورؤيته لقضايا الإنسان والمجتمع والحق والعدالة والسياسة والاقتصاد والصناعة والعلوم والحضارة والقيم والأخلاق، في صياغة آرائه واستنباطاته الفقهية.

وعملية الاجتهاد والإفتاء تتحرك بتوجيه لازم من كل هذه المقدمات، وتسير في طريق معين لتتمخض عن نتائج خاصة”. (ص 346). كما يستوعب البحث الذي قدمه شبستري جوانب تطبيقية كالموقف الفقهي حيال النظام الدستوري ومفهوم الجمهورية الإسلامية، بالإضافة إلى أبحاث أخرى تمس صلب الموضوع من قبيل: قبليات الفقيه وتغير موضوعات الأحكام، وظيفة الفقه: تأسيس نظم أم إجابة عن أسئلة؟، قضايا الحكومة والمجتمع، نتائج الانفتاح على العلوم العصرية في الممارسة الفقهية.

وكما تشي هذه العناوين فإن ما يطرحه شبستري ينطوي على خطورة بالغة وأهمية مميزة في آنٍ واحد، وذلك لما يتركه من تأثير على الرؤية الفقهية وإعادة نظر في العديد من مسلمات الفقه. وتتأكد الأهمية العلمية للموضوع حين نجد الباحث يمارس ذلك في إطار قراءته المستجدة لعلم الفقه وتحليل النظم والمناهج الفقهية في محاولة ترمي أيضا إلى فهم آلية التشريع والهدف التشريعي العام الذي جاء به الدين. ورغم أن البحث يطرق إشكاليات طرحت منذ أمد ليس بالقصير فإنه يتولى زحزحتها لوضعها في أفق جديد يمتلك منطقه الخاص ويتيح إعادة بنائها وصياغتها بشكل مغاير للطرح المألوف.

والنقطة الأكثر إثارة هي أننا لا نكاد نجد إجابات نهائية بل تظل القضايا مفتوحة على مصراعيها للبحث، وهذا ما يسجل لصالحه في نهاية الأمر. يتمثل المعطى الأبرز في بحث شبستري بدعوته إلى التوفيق بين القبليات تلك والمعارف البشرية الحديثة، بحيث يعاد النظر في القبليات باستمرار على أساس العلم الحديث. وفي غير هذه الصورة لن يتمتع الاجتهاد بالأساس العلمي اللازم. وهذا راجع إلى اعتقاده بأن التنظير الديني والاجتهاد الفقهي لا يمكن أن ينفصلا عن سائر المعارف البشرية، وأن الفقيه أو المتكلم إنما يجتهد في ضوء قبلياته الفكرية.

ثمة فصلان آخران في الكتاب يقعان في سياق واحد، الأول هو “المصلحة” والآخر “مقاصد الشريعة”؛ إذ يحاول كلا البحثين أن يكتشفا مدى إمكانية توظيف المصلحة بشتى مستوياتها في الاجتهاد الفقهي. وفي هذا المجال تطالعنا دراسة مهدي مهريزي “مقاصد الشريعة في مدرسة أهل البيت” التي تسعى إلى تحديد ما يتاح لهذا المنهج من فرصة للتوظيف في المذهب الشيعي والتجارب الشيعية السابقة في مجال المصلحة والمقاصد؛ إذ من الواضح أن الموضوع قد تبلور في مدارس الفقه السني وخاصة المذهب المالكي، كما أن هنالك حساسية متزايدة حيال ذلك في المدرسة الإمامية؛ لأنه يتضمن عنصر المصلحة المستخدم في اتجاه الرأي والقياس.

إن دراسة مهريزي فريدة في بابها وهي على الأقل من المحاولات النادرة التي طرحت في العقد الأخير لتناول الموضوع إيجابيا من وجهة نظر شيعية، بعد أن راح الفقه الشيعي مؤخرا يستخدم مفاهيم فلسفة الفقه والمقاصد ونحوها، ورحنا نشاهد مبادرات نقد جذري للمنهج الفقهي السائد ساهم فيها فقهاء بارزون كالمرحوم الشيخ محمد مهدي شمس الدين(13)، وهي جهود تتباين بشدة مع المحاولات الخجلى المتواضعة التي ظلت تكرر نفسها حتى اليوم.

………………………………

* عنوان المقال الأصلي هو : تحولات المشهد الفكري في ايران تساؤلات في الفقه ومرجعيات الفقيه. نشر في مجلة التوحيد
الإيرانية عدد 107 و التي تصدر في طهران

2 الـ (Noumenon) تعني مفهوم الشيء كما هو في ذاته واقعا، أو كما يبدو للعقل المحض في عالم النومينات على حد تعبير كانت، بينما تعني (Phenomenone) الشيء كما يبدو أو يظهر لنا، وهو التقسيم المعروف عن عمانوئيل كانت (ومن هذا اللفظ تشتق فلسفة الظاهريات (Phenomenology. لاحظ فيما يتصل بذلك مثلا: بدوي، عبد الرحمن، موسوعة الفلسفة، بيروت، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ط1، 1984، ج2 ص270 فما بعد.

3 تنصب جهود عبد الجبار الرفاعي منذ عقد تقريبا على دراسة الثقافة الايرانية والراهن الفكري في ايران، وقد اصدر في اطار ذلك العديد من الاعمال اضافة الى مجلتين هما (قضايا اسلامية 1995-1999) و(قضايا اسلامية معاصرة 1999-…) وتضمنا ملفات عديدة كان للثقافة الايرانية فيها حصة مميزة وحضور واسع.

4 لاحظ، فصلية، نقد ونظر، ايران، قم. بالفارسية، العدد الاول، 1994

5 وذلك في كتابه، مدخل إلى فلسفة الفقه، الصادر عن سلسلة كتاب قضايا اسلامية معاصرة، الكتاب الخامس، 1998

6 المصدر نفسه، ص 12

7 المصدر نفسه، ص 10

8 المشهد الثقافي في ايران…، مصدر سابق، ص 44

9 لاحظ، الطائي، سرمد. تحولات الفكر الاسلامي المعاصر: المرجعيات، المناهج، اسئلة التجديد. ص212 فما بعد. (كتاب قيد النشر).

10 ص81، المشهد الثقافي في ايران…، مصدر سابق

11 لاحظ: الصدر، آية الله الشهيد محمد باقر، اقتصادنا. مشهد: مكتب الاعلام الاسلامي، 1417 هـ. تحت عنوان (عملية الاجتهاد والذاتية) ص 382

12 لاحظ فيما يتصل بذلك، قضايا اسلامية معاصرة، العدد الخامس عشر. وأيضا: الطائي، سرمد، نظرية تكامل المعرفة الدينية: هزيمة السفسطة مقابل هجوم اليقين، صحيفة الزمان (لندن) العدد1004، 25-26 آب، 2001

13 حول الشيخ شمس الدين لاحظ مثلا مقال كاتب السطور: إشكاليات معاصرة في الاجتهاد والتجديد، مجلة التوحيد، العدد101، 1999

سرمد الطائي : باحث وكاتب من العراق.