Uncategorized
GIF


ما الذي يحدث اليوم على الساحة الأيديولوجية العالمية ؟ هل هي بداية “صدام حضارات” تستمر لعقود تضع الغرب في مواجهة الإسلام وهي المواجهة التي تمتد بوحشية من المستنقع الأفغاني لتصل تدريجيا إلى مناطق أوسع من العالم؟ هل ستتحول التكنولوجيا ذاتها التي بدت وكأنها تعزز الحرية كالطائرات وناطحات السحاب ومختبرات الأحياء ضد العالم الإسلامي بأساليب لن يستطيع في النهاية وقفها؟ أم أن المواجهة الحالية ستتراجع ويعود العالم القديم ذو الاقتصاد العالمي المتداخل إلى وضعه فور الانتهاء من
أسامة بن لادن وطالبان وطي صفحة شبكة الإرهاب؟

نشر فوكاياما مقالاً يراجع فيه طروحاته بعد الحادي عشر من
أيلول ـ سبتمبر يقول فيه :”قبل 1. سنوات جادلت بأننا بلغنا “نهاية التاريخ” ولم أعن بذلك أن الأحداث التاريخية قد تتوقف لكن ما عنيته هو أن التاريخ الذي يفهم على أنه تطور المجتمعات الإنسانية من خلال أشكال مختلفة من الحكومات قد بلغ ذروته في الديمقراطية الليبرالية المعاصرة ورأسمالية اقتصاد السوق . إن وجهة نظري هي أن هذه الفرضية ما زالت صحيحة رغم الأحداث التي تلت 11 سبتمبر فالحداثة التي تمثلها الولايات المتحدة وغيرها من الديمقراطية المتطورة ستبقى القوة المسيطرة في السياسة الدولية والمؤسسات التي تجسد مباديء الغرب الأساسية في الحرية والمساواة ستستمر في الانتشار عبر العالم إن هجمات 11 سبتمبر تمثل حركة إرتجاعية عنيفة يائسة ضد العالم الحديث الذي يبدو وكأنه قطار شحن سريع لمن لا يريد ركوبه.لكننا بحاجة لأن ننظر بجدية إلى التحدي الذي نواجهه . وذلك لأن وجود حركة تملك القوة الإحداث خراب هائل في العالم الحديث حتى وإن مثلت عددا قليلا من الناس فحسب يطرح أسئلة حقيقية حول قدرة حضارتنا على البقاء . والأسئلة الأساسية التي يواجهها الأمريكيون وهم يزحفون باتجاه هذه “الحرب” على الإرهاب هي ما مدى عمق هذا التحدي الأساسي وما نوع الحلفاء الذين ينبغي للغرب تجنيدهم؟ وما الذي ينبغي عليه عمله للتصدي له .فالعالم الإسلامي يموج اليوم بالعديد من التيارات المتمردة والساخطة والمتشددة ذات النزعة الأصولية . ولكن لماذا ظهر هذا النوع من الأصولية الإسلامية فجأة من الناحية الاجتماعية ؟ قد لا تكون الأسباب مختلفة عن تلك التي حركت الفاشية الأوربية في وقت مبكر من القرن الـ 2. فقد شهد العالم الإسلامي اجتثاث أعداد كبيرة من السكان من قراها التقليدية أو حياتها القبلية خلال الجيل الماضي وقد تم تمدين الكثير منهم وتعرض هؤلاء لشكل أدبي آخر من الإسلام أكثر يدعوهم للعودة إلى شكل آخر أكثر نقاء من الدين تماما كما حاول متطرفو القومية الألمانية أن يعيدوا إحياء هوية عنصرية خرافية منذ زمن بعيد ولهذا الشكل الجديد من الأصولية الإسلامية جاذبية هائلة لأنه يزعم أنه يشرح فحوى خسارة القيم والارتباك الحضاري اللذين ولدتهما عملية التحديث ذاتها .

وعليه فإنه قد يمكن توضيح الأمور بالقول إن الصراع الحالي ليس ببساطة معركة ضد الإرهاب ولا ضد الإسلام كدين أو حضارة ولكنه صراع ضد الفاشية الإسلامية أي العقيدة الأصولية غير المتسامحة التي تقف ضد الحداثة والتي انبثق حديثا في أجزاء عديدة من العالم الإسلامي كما يعتقد الغربيون الذين يوجهون أصابع الإتهام بقوة ، ” بخصوص نشأة و صعود النزعة الإسلاموية ” ، نحو المملكة العربية السعودية فثروات العائلة السعودية المالكة اختلطت بمصالح الطائفة السلفية الوهابية منذ سنوات عديدة فقد سعت الأولى للحصول على الشرعية والحماية من رجال الدين عن طريق ترويج الحركة الوهابية لكن الحكام السعوديين قدموا استثمارات جديدة هائلة لترويج مفهومهم الخاص للإسلام في الثمانينات والتسعينات خاصة بعد محاولة الاستيلاء على الحرم المكي الشريف عام 1979 التي تم إجهاضها. ويمكن تصنيف الفكر الوهابي بسهولة على أنه “إسلامية فاشية” ، حسب تعبير فوكاياما. هناك كتاب دراسي في المملكة العربية السعودية مقرر للصف الـ 1. يشرح أنه “يجب على المسلمين أن يخلصوا لبعضهم بعضا وأن يعتبروا الكفار أعداءهم ” ولم يروج السعوديون هذه العقيدة في الشرق الأوسط فحسب بل في الولايات المتحدة أيضا حيث قيل إنهم أنفقوا مئات ملايين الدولارات على بناء المدارس والمساجد لنشر مفهومهم الخاص عن الإسلام، وقد سمحت كل هذه الأموال القادمة من الخليج لأسامة بن لادن وأتباعه فعليا بشراء بلد أفغانستان لأنفسهم واستخدامها كقاعدة لتدريب جيل كامل من المتعصبين العرب وفي هذا المجال فإن الولايات المتحدة تلام أيضا لأنها هجرت (أفغانستان) بعد انسحاب الاتحاد السوفيتي ولأنها تخلت عن مسئوليتها في إقامة نظام سياسي مستقر ومعاصر هناك.

ويتعلق السبب الأخير لانطلاق هذه ” النزعة الإسلاموية الحركية الناشطة “في الثمانينات والتسعينات ” بمسائل جذرية” كالفقر والركود الاقتصادي والسياسات السلطوية في الشرق الأوسط التي يعتبرها التطرف السياسي موادا للاشتعال وفي ضوء الاتهام المتكرر بأن الولايات المتحدة وغيرها من الدول الغربية كان يمكن لها أن تتحرك لتخفيف هذه المسائل بشكل مهم وبالتالي نصبح بحاجة إلى وضوح شديد في معرفة جذور هذه المسائل الجذرية .وبالفعل فإن المجتمعات الخارجية من خلال المنظمات الدولية كالبنك الدولي ما فتئت تقدم المساعدة للدول الإسلامية منذ البداية كما فعلت الولايات المتحدة في تعاملاتها الثنائية مع دول مثل مصر والأردن ومع ذلك كان القليل جدا من هذه المساعدة مثمرا لأنها لم تصل إلى من يحتاجونها من المسلمين المسحوقين ، ولأن المشكلة الأساسية هي مشكلة سياسية في العالم العربي الإسلامي نفسه ففرص الإصلاح الاقتصادي والسياسي كانت دائما موجودة لكن عددا قليلا من الدول الإسلامية وجميع الدول العربية بشكل خاص تبنت نوع السياسات التي تبنتها دول مثل كوريا الجنوبية وتايوان وتشيلي أو المكسيك لفتح بلدانها على الاقتصاد العالمي ووضع أسس التنمية المستدامة ولم تتطوع أي حكومة عربية للتخلي عن السلطة لمصلحة الحكم الديمقراطي كما فعلت الملكية الإسبانية بعد زوال فترة حكم الدكتاتور فرانكو، أو الوطنيين في تايوان أو الدكتاتوريات العسكرية المختلفة في الأرجنتين والبرازيل وتشيلي وغيرها من مناطق أمريكا اللاتينية ولم تكن هناك لحظة واحدة في أي من الدول الغنية بالنفط في الخليج استخدم فيها ثراؤها لتأسيس مجتمع صناعي مستقل بدل خلق مجتمع يقوم على أصحاب الدخول الفاسدين الذين تحولوا مع مرور الوقت تدريجيا إلى متعصبين إسلاميين. إن هذا الفشل، وليس ما فعله العالم الخارجي أو لم يفعله ،هو السبب الجذري في ركود العالم الإسلامي .

إن التحدي الذي يواجه الولايات المتحدة اليوم هو أكثر من مجرد معركة مع مجموعة صغيرة من الإرهابيين فبحر الإسلام المتطرف الذي يسبح فيه الإرهابيون يشكل تحديا أيديولوجيا هو في بعض جوانبه أكثر أساسية من الخطر الذي شكلته الشيوعية كيف ستتقدم مسيرة التاريخ العريضة بعد هذه النقطة ؟هل سيحصل الإسلام الراديكالي على مزيد من المؤيدين وأسلحة جديدة أقوى يهاجم بها الغرب؟ من الواضح أننا لا نستطيع أن نعرف لكن بعض العوامل ستشكل مفاتيح لذلك.

أول هذه العوامل هو نتيجة العمليات الدائرة الآن في أفغانستان ضد طالبان والقاعدة وبعدها ما سيحصل لصدام حسين في العراق وبالرغم من رغبة الناس في الاعتقاد بأن الأفكار تعيش أو تموت نتيجة استقامة أخلاقياتهم الداخلية فإن القوة لها شأن كبير فالنازية الألمانية لم تنهزم بسبب تناقضاتها الأخلاقية الداخلية بل ماتت لأن ألمانيا احتلت وتحولت إلى أنقاض بفعل قصف جيوش الحلفاء. وقد كسب أسامة بن لادن شعبية هائلة لنجاحه في الهجوم على البرجين التوأمين وإذا ما علق مجازا على عمود كهربائي في ميدان عام من قبل القوات الأمريكية مع من حماه من جماعة الطالبان فإن جاذبية حركته ستقل كثيرا وبالعكس إذا استمرت المواجهة العسكرية بشكل غير مؤثر فإن النزعة الإسلاموية المتطرفة ستحصل على مزيد من التأييد.

التطور الثاني والأهم ينبغي أن يأتي من داخل الإسلام نفسه فعلى المجتمع الإسلامي أن يقرر فيما إذا كان يريد أن يصل إلى حل سلمي مع الحداثة وخاصة فيما يتعلق بالمبدأ الأساسي حول الدولة العلمانية والتسامح الديني حيث قف العالم الإسلامي اليوم على تقاطع الطرق نفسه الذي كانت تقف عليه أوروبا المسيحية أثناء حرب الـ 3. عاما في القرن الـ 17 فالسياسات الدينية تقود صراعات محتملة لا نهاية لها ليس فقط بين المسلمين وغير المسلمين ولكن بين الطوائف الإسلامية أيضا( كثير من التفجيرات الأخيرة في باكستان نتجت عن خلافات سنية شيعية) وفي عصر الأسلحة البيولوجية والنووية يمكن لذلك أن يقود إلى كارثة على المجتمع إن هناك بعض الأمل في ظهور فكر إسلامي أكثر ليبرالية بسبب المنطق التاريخي الداخلي للعلمانية السياسية فالحكم الديني الإسلامي جذاب للناس في حالته التجريدية فقط أما بالنسبة إلى أولئك الذين اجبروا فعليا على العيش في ظل مثل هذه النظم في إيران أو أفغانستان مثلا فقد عانوا دكتاتوريات خانقة لا يملك زعماؤها كالآخرين حلولا لكيفية التغلب على الفقر والركود وحتى إبان أحداث 11 سبتمبر كانت هناك بعض المظاهرات مستمرة في طهران وغيرها من المدن الإيرانية وشارك فيها عشرات آلاف الشباب الذين فقدوا صبرهم تجاه النظام الإسلامي والذين كانوا ينادون بنظام سياسي أكثر ليبرالية وقد تحولت هتافات “الموت لأمريكا” السابقة إلى نداءات “نريد التغيير ، نريد الحرية” حتى في الوقت الذي كانت فيه القنابل الأمريكية تتساقط على طالبان في الجارة أفغانستان. يحصل هذا في إيران الإسلامية الأكثر انفتاحاً ومرونة فما بالك فيما يحصل في جارتها الإسلامية أفغانستان أو السعودية ؟ ويظهر فعليا أنه إذا كانت هناك دولة يمكن لها أن تقود العالم الإسلامي خارج مأزقه الراهن فإنها قد تكون إيران التي بدأت قبل 23 عاما الصعود الحالي للأصولية حين أسقطت الشاه وجلبت آية الله الخميني للسلطة وبعد جيل من الزمن فإنه من الصعب العثور على أي شخص تحت سن الـ 3. لديه أي تعاطف مع الأصولية وإذا استطاعت إيران إيجاد شكل إسلامي أكثر معاصرة وتسامحا فإنها ستشكل مثالا قويا لبقية العالم الإسلامي.

يجب على المسلمين المهتمين بصيغة إسلامية أكثر ليبرالية أن يتوقفوا عن لوم الغرب على أنه يرسم الإسلام بريشة عريضة جدا وأن يتحركوا لعزل المتطرفين بينهم وتقويض شرعيتهم وهناك بعض الدلائل على أن ذلك يحصل الآن فالمسلمون الأمريكيون يستيقظون الآن ليكتشفوا مدى تأثير الوهابية داخل مجتمعاتهم نفسها ويحتمل أن يدرك الذين يعيشون في الخارج منهم هذه الحقيقة إذا تحول المد بشكل واضح ضد الأصوليين في أفغانستان.

إن الصراع بين الديمقراطية الليبرالية الغربية والفاشية الإسلامية ليس صراعا بين نظامين حضاريين يتمتعان بقابلية البقاء نفسها ويستطيع كلاهما ركوب العلم والتكنولوجيا وخلق الثروات والتعامل مع التنوع الموجود في عالمنا المعاصر وفي هذه المجالات كافة فإن المؤسسات الغربية تسيطر على الأوراق كلها ولذلك فهي ستستمر في الانتشار في أنحاء العالم على المدى الطويل لكن الوصول إلى هذا المدى الطويل يتطلب أن نبقي أحياء على المدى القصير ولسوء الحظ فإن التقدم التاريخي ليس حتميا وهناك القليل من النتائج الجيدة عدا القيادة والشجاعة والتصميم على خوض المعركة دفاعا عن القيم التي تجعل المجتمعات الديمقراطية المعاصرة ممكنة. أما من داخل العالم الإسلامي فالرؤية ليست متطابقة تماماً مع ما يدركه الغربيون الذي كانوا مصدر الأيديولوجيات السياسية وأشكال وأنماط الحكم المهيمنة على السلطات ولكن في أعقاب إخفاق الأيديولوجية القومية وفشل الأيديولوجية الماركسية العلمانيتين في تعبئة الشعوب العربية خاصة بعد نكسة حزيران 1967 ، صارت الأجيال الشابة في العالم العربي تبحث عن ملجأ أيديولوجي ـ نفسي تحتمي به من هوة الضياع وصار المثقفون يجلدون أنفسهم وكأنهم المسؤولون عن هذا الإنهيار النفسي الذي ولد بعد الهزيمة كما عبر عن ذلك المفكر العربي الدكتور صادق جلال العظم في كتاب ” النقد الذاتي بعد الهزيمة ” أفضل تعبير .

من هنا يمكننا أن نربط بصورة منطقية بين تنامي التيار الديني كرد على إفلاس الأيديولوجيات العلمانية ونشوء ظاهرة العنف المسلح من جهة وتبلور ما سمي فيما بعد منذ سنوات السعينات بـ ( الإرهاب الدولي ) خاصة بعد انبثاق المقاومة الفلسطينية وتبنيها لأسلوب الكفاح المسلح ونشوء الخلط بين المقاومة الوطنية المشروعة كما يفهمها العالم الثالث والشعوب المقهورة ، والإرهاب كما تعرّفه الدول الغربية وإسرائيل وتدمغ به كل عمل عسكري ـ نضالي تقوم به مجموعات المقاومة الوطنية من أجل التحرير ومقارعة الاستعمار والاحتلال . ومن هنا نشأ أكبر سوء تفاهم في القرن المنصرم وبالأخص في العقود الثلاثة الأخيرة منه بين الغرب والعالم العربي ـ والإسلامي . ومن سوء التفاهم والفهم المتبادل هذا نشأت بذور الصراع الذي سيتخذ أشكالاً متنوعة فيما بعد وخاصة بعد عام 1973 . وهو عام حرب أكتوبر / تشرين أول بين العرب وإسرائيل وإستخدام النفط كسلاح وظهور ما سمي فيما بعد بـ ” البترو ـ إسلام ” حسب التسمية الغربية .فقد نمت عند الغربيين عقدة الانتقام والرد الحاسم والمناسب في الوقت المناسب لتلقين العرب درساً لن ينسوه على جرأتهم في تهديد الغرب بقطع إمدادات النفط عنه وإستخدامها كسلاح لتحقيق مواقف سياسية ” وابتزاز الغربيين ” على حد تعبير هنري كيسنجر .

كانت حرب أكتوبر إنعطافة هامة في تاريخ العلاقات العربية ـ الغربية . فالمغامرة العسكرية العربية لغسل عار الهزيمة السابقة في سنة 1967 وكسر شوكة إسرائيل وإنهاء أسطورة الجيش الإسرائيلي الذي لايقهر كانت من الأهمية بمكان أن الغرب أخذ يدرس من خلالها كافة الاحتمالات والتصورات والسيناريوهات المستقبلية . صحيح أن العرب لم يحققوا انتصاراً حاسماً وينهوا إسرائيل من الوجود ـ وهو لم يكن هدف تلك الحرب على الإطلاق فقد كانت حرب تحريك وليست حرب تحرير ” إلاّ أنها مع ذلك كانت مصيرية بسبب تبعاتها . فقد نهض الغرب وعلى رأسه أميركا لمساعدة إسرائيل ودعمها بقوة بجسر جوي لم يشهد له التاريخ مثيلاً وحققت الدولة العبرية هجوماً مضاداً كاسحاً على الجبهتين المصرية والسورية لكنها اضطرت إلى التوقف على مسافة 1.1 كيلو متر عن القاهرة على طريق السويس بسبب إعلان الحظر النفطي من جانب الدول العربية المنتجة للنفط على الغرب الذي مارس ضغوطاً قوية على إسرائيل لتتوقف وتقبل بالتفاوض على وقف إطلاق النار والهدنة . وهكذا تحول النصر إلى انتصار رمزي ـ وسيكولوجي وأتيحت الفرصة للأنظمة القومية ـ العلمانية في دول المواجهة أن تدعي الشرعية والوطنية لفترة من الزمن كما زادت هذه الظروف من الدخل المالي للدول النفطية إثر ارتفاع أسعار النفط بصورة هائلة مما حقق للدول المنتجة للنفط مواقع مهمة ومهيمن في العالم الإسلامي .وأتاحت هذه المعطيات الجديد للمملكة العربية السعودية بالذات أن ترتفع إلى مستوى طموحاتها القديمة بقيادة العالم الإسلامي وفرض رؤيتها الإسلامية المحافظة النابعة من المذهب الوهابي المستند إلى تنظيرات شيخ الإسلام إبن تيمية و تلميذه الشيخ محمد عبد الوهاب وذلك من خلال شبكة من المساعدات المالية للجماعات الإسلامية التي ازدهرت خلال سنوات السبعينات والثمانينات وقيادة حملة لبناء المساجد وتأسيس الجمعيات الإسلامية الخيرية في كل مكان من العالم الإسلامي وحيث يتواجد المسلمون بما في ذلك في أوروبا وأميركا فضلاً عن دول آسيا الوسطى الإسلامية .وانتشرت ” الحركة السلفية ” التي تطورت إلى ” حركة أممية أو دولية إسلامية ” وتقاربت جمعيات سابقة كجماعات الأخوان المسلمين والجماعات الإسلامية في الباكستان والهند وتركيا وأفريقيا وفي السودان وأفغانستان خاصة في مواسم الحج للتنسيق فيما بينها والمباشرة بحملة تبشيرية لتأصيل الإسلام التقليدي في المجتمعات الإسلامية من القاعدة الشعبية فيها ودحر الفكر العلماني ونمط الحياة الغربي وجعل الإسلام العامل الأول في حياة الشعوب الإسلامية ومنحه دوراً فاعلاً ومؤثراً على المسرح الدولي . والوصول إلى المسلمين المهاجرين في دول الغرب لتوصيل ” الإسلام السعودي بصيغته الوهابية” إلى مسلمي المهجر على حد تعبير جيل كبيل في كتابه ” الجهاد توسع وانحسار الإسلام السياسي ” .

ومن نتائج هذه المتغيرات نشوء ظاهرة ” الأفغان العرب ” عبر تجربة طويلة وشاقة تميزت بالشدة والدموية أحياناً وامتدت آثارها إلى جميع الدول العربية والإسلامية وحلبفاتها الغربية .وكانت هذه الظاهرة الخطيرة قد نشأت نتيجة خطأ وسوء في التقدير والحسابات الخاطئة لعدد من أجهزة المخابرات العربية والإسلامية والغربية وتنظيمات ومؤسسات ورجال أعمال ورجال دين وسياسيين ساهموا بشكل أو بآخر في تشكيل وتعزيز هذه الظاهرة من خلال تشجيع وتسهيل ودعم وتمويل هجرة الحركيين الإسلامويين النشطاء وترحيلهم إلى افغانستان لمحاربة الغزو السوفيتي والتدرب على فنون القتال لكنهم دفعوا فيما بعد ثمناً باهظاً لهذه الإستراتيجية ذات الحدين وكانت العواقب وخيمة على الجميع على المستويات العسكرية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والنفسية والعقائدية ولم تدفع ” العلمانية ” وحدها الثمن بل الفكر الإسلامي برمته لأن ” الأفغان العرب” أعلنوا تكفير الجميع وبالذات رجال الدين والهيئات الدينية الرسمية والعلماء الذين يعملون في فلك السلطات السياسية الحاكمة .لقد فات الأوان ولم يعد يفيد شيء مهما بلغت قوة وجبروت الآلة العسكرية الغربية التي تقف في مواجهة ” إرهاب الأفغان العرب ” فتفجير المدمرة كول والسفارات الأميركية في أفريقيا وأخذ الرهائن الغربيين وتفجير مركز التجارة الدولي ووزارة الدفاع الأميركية وغيرها من الأعمال ما هي سوى انعكاسات ظاهرة وجلية لمدى تغلغل هذه الظاهرة التي تستند إلى كتابات تنظيرية لمفكرين إسلاميين قدماء ومعاصرين ، أمثال شيخ الإسلام إبن تيمية ، ومحمد عبد الوهاب ، وأبو الأعلى المودودي وسيد قطب والإمام الخميني ومحمد عبد السلام فرج وعمر عبد الرحمن وايمن الظاهري واسامة بن لادن ،و شكري مصطفى وعلي بلحاج وعباس مدني الخ .. إجتمع أغلبهم في افغانستان ومنها انتشروا في بقاع الأرض المختلفة ليفرضوا قوانينهم ورؤيتهم بلغة الحديد والنار والعنف والقتل والتدمير . ولم تتمكن اعتقالات وسجون ومحاكمات وإعدامات الأنظمة العربية والإسلامية المناوئة لأفكارهم أن تستأصلهم أوتبيدهم. فهؤلاء العائدون من أفغانستان اكتسبوا الخبرة والمناعة والحسم والتصميم وقدرة المواجهة مهما كان الثمن المطلوب دفعه ولو كان بأرواحهم ، فأغلبهم ذو نزعة انتحارية وقد برهنوا على ذلك في مناسبات سابقة كاغتيال الرئيس المصري أنور السادات في 6 أكتوبر / تشرين أول 1981 واحتلال الحرم المكي الشريف الخ .. وكلهم خرج من رحم جماعة الأخوان السلمين التي أسسها حسن البنا في عشرينات القرن المنصرم وتألق نجمهم بعد نجاح الثورة الإسلامية في إيران عام 1979 ، وامتازوا بميزة العداء للغرب وحضارته وقيمه الأخلاقية والأيديولوجية فضلاً عن عدائهم الشديد للشيوعية باعتبارها من صميم الفكر الغربي الغريب عن الإسلام .
لقد أخفق الأخوان المسلمون السنة في الوصول إلى السلطة في مصر والجزائر وسوريا لأنهم لم يستقطبوا كافة فئات الشعب وطبقاته وخاصة الطبقة الوسطى إلى جانب قضيتهم بينما نجح في ذلك المشروع السياسي التيار الديني الشيعي بقيادة آية الله العظمى الإمام الخميني الذي جمع تحت لوائه البرجوازية الصغيرة المتدينة و(البازار ـ السوق التجاري )والطبقة الوسطى والفقراء والفلاحين والعمال والطلاب والكوادر المتعلمة (موظفين و مهندسين ومحامين وقضاة وأطباء وتقنيين إلى جانب الفئات المسحوقة ، تحت شعار” الثأر للمستضعفين وأخذ حقوقهم ” وتطبيق أطروحة ” ولاية الفقيه ” وتأسيس جمهورية إسلامية تطبق الشريعة والعدل والمساواة بين الناس، تحمي استقلال إيران وتشيع الديموقراطية والتعددية بين أبنائها .واستخدم خطاباً توحيدياً يخلق تلاحماً جماهيرياً منقطع النظير بين جميع طبقات الشعب الدينية والعلمانية، في مواجهة نظام الحكم التعسفي الذي كان يفرضه شاه إيران على الشعب بقوة الحديد والنار وبتشجيع الدوائر الغربية والأميركية بصفة خاصة وكان للثورة الإسلامية في إيران تداعيات خطيرة على الشارع الإسلامي والعربي حيث أصبح الإسلام ـ السياسي ، أو التيار الإسلاموي قوة هائلة في المجتمعات الإسلامية وحفّزت الحركات الإسلامية ـ السياسية الداعية لتطبيق الإسلام السياسي إلى التحرك بشتى الوسائل والطرق بما فيها الإرهاب المسلح لكنها لم تنجح في أي مكان آخر عدا إيران وفي جنوب لبنان نسبياً مع تجربة حزب الله الفريدة من نوعها التي تمكنت من طرد المحتل الصهيوني ..

إن هذا الموقف الغربي ـ الأميركي إلى جانب ” الطغاة” والدكتاتوريين والعسكريين المستبدين الذين يتربعون على رأس الأنظمة الموالية لهم هو الذي خلق جذور الكره والحقد على الغرب وعلى أميركا بشكل خاص والذي تفاقم أكثر فأكثر بسبب الإنحياز الأعمى إلى جانب إسرائيل ضد المصالح العربية والإسلامية وعلى مدى سنوات طويلة تمتد منذ وعد بلفور لليهود بوطن قومي في فلسطين سنة 1917 إلى يوم الناس هذا في 2..1 حيث تقوم إسرائيل بتدنيس المقدسات الإسلامية وذبح الفلسطينيين العزل وامتهان كرامتهم وتجويعهم وتطويقهم بالدبابات والحواجز الأمنية خاصة بعد إندلاع انتفاضة القدس الثانية وإنهيار سيرورة أوسلو السلمية.

هذا هو الواقع المؤلم الذي عاشته الأجيال الإسلامية الشابة من المحيط إلى الخليج في العالم العربي وفي معظم الدول الإسلامية كما في أفغانستان والشيشان والكوسوفو والبوسنة والهرسك وفي تركيا والجزائر حيث يتعرض الإسلاميون إلى القمع والسجون والملاحقة والمطاردة والقتل مما دفعها إلى الثورة المسلحة واستخدام أساليب الكفاح المسلح وحرب عصابات المدن وعمليات الكاميكاز الانتحارية ضد قوى الظلم والطغيان من أتباع الشيطان على حد تعبير منظّري الحركات الإسلامية الراديكالية .فاستدار ” الثوار المجاهدون ” بالأمس القريب ضد الغزو السوفيتي واليوم ضد الهيمنة الغربية ـ الأميركية على العالم وحولوا بنادقهم إلى صدور حكامهم المتواطئين بنظرهم مع العدو الغربي الذي يحارب الإسلام والقيم الإسلامية كما يفهمونها هم ،( اغتيال السادات،تمرد الجماعات الإسلامية المسلحة في الجزائر ضد السلطة العسكرية ، طرد الشاه ، الخ ) .

كان إنتصار الإمام الخميني في طهران عام 1979 قد غير موازين القوى في العالم الإسلامي المعاصر الذي كان يسير تحت جناح المملكة العربية السعودية الموضوعة بدورها تحت مظلة الحماية العسكرية الغربية ـ الأميركية ، خاصة بعد تأسيس منظمة المؤتمر الإسلامي عام 1969 وانتصار ” البترو ـ إسلام ” عام 1973 كما يسميه جيل كبيل في كتابه السالف الذكر . كان الجميع يتوقع تفاعلاً وانقلاباً جماهيرياً مماثلاً في المملكة العربية السعودية آنذاك . فقد صرح أحد المقربين من الإمام الخميني وهو في منفاه في ضاحية نوفل لو شاتو الباريسية ” إصبر لترى ماذا سيحدث للسعوديين بعد عودتنا لطهران بستة أشهر لا اكثر ” . وبالفعل بعد تسعة أشهر من انتصار الثورة الإيرانية ، وفي فجر يوم 2. نوفمبر / تشرين الثاني سنة 1979 وهو اليوم الأول من القرن الخامس عشر للتقويم الهجري تعرض الحرم المكي الشريف لهجوم مسلح وإحتلال من قبل بضعة مئات من المعارضين الإسلامويين المتطرفين كخطوة أولى نحو انتفاضة شعبية كان مقدراً لها إطاحة عرش المملكة وتحويله إلى جمهورية إسلامية على غرار الجمهورية الإسلامية الإيرانية بطبعتها السنية .( والتي قدر لها أن تتحقق بمساعدة سعودية بعد عشرون خمسة عشر عاماً وبظروف مختلفة تماماً في أفغانستان بوصول الطالبان للسلطة وتطبيق الشريعة الإسلامية في جمهورية إسلامية سنية ـ وهابية) ودام إحتلال الحرم المكي إسبوعين ولم يكن للمهاجمين أي إتصال أو تنسيق مع السلطة الإيرانية وكان ذلك الحدث بمثابة أخطر تهديد يتعرض له بنيان المملكة والصرح الذي شيّده آل سعود منذ سنوات طويلة لأن شرعيتهم الإسلامية تعرضت للاهتزاز والخلخلة والطعن بصورة استعراضية ملفتة للأنظار وداخل أقدس الأراضي الإسلامية بالرغم مما قدمته السعودية من تمويل ومساعدات لجميع الحركات الإسلامية السنية في العالم بغية تحييدها واحتوائها والسيطرة عليها وتجييرها إلى صفها من خلال نشاط وعمل رابطة العالم الإسلامي الدؤوب ، وفي نفس الوقت تطويق آثار صيغة ” الثورة الإسلامية ” المدمرة التي تجسد كافة أنواع الأخطار المحدقة بالمملكة لأن إيران كانت تحاول طمس هويتها الشيعية للتقرب هي الأخرى من الحركات الإسلامية ـ السياسية النشطة في العالم الإسلامي والسنية المذهب على غرار 8.% من مسلمي العالم الإسلامي ، وبالتالي قامت المملكة العربية السعودية بتقديم العون والمساعدة لعدو إيران اللدود صدام حسين في حربه العدوانية على إيران بغية إضعاف هذه الأخيرة وإبعادها عن ساحة المنافسة لكن هذه الاستراتيجية لم تعطي ثمارها ورضخ الخصمان المسلمان للأمر الواقع وقبلا بمبدأ تطبيع العلاقات الأخوية بينهما خاصة بعد غزو العراق للكويت واندلاع حرب الخليج الثانية . وقد نجحت المملكة بعد بضعة أعوام في تطبيع علاقاتها مع خصمها اللدود إيران والتنسيق معها والتعاون معها في كافة المجالات الإسلامية المشتركة .لكن جذوة العنف لم تنطفيء بعد ومازالت شرارتها متأججة خاصة بعد الحرب الأميركية ضد افغانستان التي أتخذت في وعي الرأي العام الإسلامي شكل محاربة الغرب للإسلام ، وتفاقم العجرفة الأميركية وتهديداتها المستمرة بضرب كل من تسول له نفسه تحدي جبروتها وهي التي تخطط اليوم لضرب دول إسلامية أخرى بحجة حملة مكافحة الإرهاب الدولي .

وبصدد هذه المواجهة بين الإسلام والغرب يقول فوكاياما في مقال له أصدره بعد أحداث 11 سبتمبر : “قبل 1. سنوات جادلت بأننا بلغنا “نهاية التاريخ” ولم أعن بذلك أن الأحداث التاريخية قد تتوقف لكن ما عنيته هو أن التاريخ الذي يفهم على أنه تطور المجتمعات الإنسانية من خلال أشكال مختلفة من الحكومات قد بلغ ذروته في الديمقراطية الليبرالية المعاصرة ورأسمالية اقتصاد السوق . إن وجهة نظري هي أن هذه الفرضية ما زالت صحيحة رغم الأحداث التي تلت 11 سبتمبر فالحداثة التي تمثلها الولايات المتحدة وغيرها من الديمقراطية المتطورة ستبقى القوة المسيطرة في السياسة الدولية والمؤسسات التي تجسد مبادئ الغرب الأساسية في الحرية والمساواة ستستمر في الانتشار عبر العالم. إن هجمات 11 سبتمبر تمثل حركة إرتجاعية عنيفة يائسة ضد العالم الحديث الذي يبدو وكأنه قطار شحن سريع لمن لا يريد ركوبه.لكننا بحاجة لأن ننظر بجدية إلى التحدي الذي نواجهه . وذلك لأن وجود حركة تملك القوة لإحداث خراب هائل في العالم الحديث حتى وإن مثلت عددا قليلا من الناس فحسب، يطرح أسئلة حقيقية حول قدرة حضارتنا على البقاء . والأسئلة الأساسية التي يواجهها الأمريكيون وهم يزحفون باتجاه هذه “الحرب” على الإرهاب هي ما مدى عمق هذا التحدي الأساسي وما نوع الحلفاء الذين نستطيع تجنيدهم؟ وما الذي ينبغي علينا عمله للتصدي له “.
بينما يجادل صاموئيل هنتينغتون عالم السياسة البارز في مقال له نشر بعد الأحداث الدامية في 11 أيلول ـ سبتمبر : ” بأن المواجهة الحالية قد تتحول إلى “صدام حضارات” وهي إحدى المواجهات التي تنبأ قبل عدة سنوات بأنها سترهق عالم ما بعد الحرب الباردة وفي الوقت الذي تؤكد فيه إدارة بوش عن حق بأن النضال الحالي هو ضد الإرهاب وليس حربا بين الغرب والإسلام فإن هناك مسائل حضارية واضحة تلعب دورا فيه “.

ولقد نزع الأمريكيون للاعتقاد بأن المؤسسات والقيم الديمقراطية والحريات الشخصية وسلطة القانون والرخاء المستند إلى حرية الاقتصاد تمثل تطلعات لا بد أن يشاطرهم فيها الناس حول العالم في النهاية إذا توافرت لهم الفرصة وهم ميالون للظن بأن المجتمع الأمريكي له جاذبيته للناس من جميع الثقافات . ويبدو الملايين من المهاجرين من بلدان في أنحاء العالم كله الذين يتذمرون من بلدانهم ويودون الانتقال إلى أميركا وغيرها من المجتمعات المتقدمة وكأنهم يشهدون على هذه الحقيقة.

لكن أحداث ما بعد 11 سبتمبر تتحدى هذه النظرة فمحمد عطا والعديد غيره من الخاطفين الآخرين كانوا أناسا متعلمين عاشوا ودرسوا في الغرب . ولم يستطيع الغرب إغرائهم بل إن النفور مما شاهدوه كان لدرجة أنهم كانوا راغبين بالانقضاض بالطائرات على بنايات وقتل الآلاف من الناس الذين كانوا عاشوا بينهم والقطعية الحضارية هنا كما هي بالنسبة إلى أسامة بن لادن وأتباعه من الأصوليين الإسلاميين قد تبدو كاملة. هل قصر النظر الحضاري لدى الغرب يجعله يظن أن القيم الغربية هي قيم عالمية
محتملة ومقبولة ؟

هناك في الحقيقة أسباب للاعتقاد بأن القيم والمؤسسات الغربية
تلقى قبولا كبيرا لدى الكثير من شعوب العالم غير الغربية إن لم نقل جميعها . وهذا لا يعني نفي العلاقة التاريخية بين كل من الديمقراطية والرأسمالية مع المسيحية أو حقيقة أن الديمقراطية تملك جذورها الثقافية في أوربا فكما أشار الفلاسفة من أليكسيس دي توكوفيل وجورج هيجل إلى فريدريك نيتشه، فإن الديمقراطية الحديثة نسخة علمانية للمبدأ المسيحي في المساواة الإنسانية عالميا.

إلا أن المؤسسات الغربية كالأساليب العلمية، التي وإن كانت قد اكتشفت في أوربا فإن لها تطبيقات عالمية . فهناك آلية أساسية تشجع على لقاء طويل الأجل يتجاوز الحدود الثقافية اقتصاديا في المقام الأول ومن ثم في عالم السياسة وأخيرا (وفي المقام الأبعد) حضاري.ا وما يدفع هذه العملية إلى الأمام في المقام الأول هو العلم الحديث والتكنولوجيا التي تعتبر إمكاناتها على خلق الثروة المادية وسلاح الحرب هائلة إلى الحد الذي يوجب على المجتمعات الأخرى أن تقدم على التفاهم معها . إن تكنولوجيا الموصلات والاتصالات أو الطب العضوي أو الهندسة الوراثية والجينية لا تختلف بالنسبة إلى المسلمين أو الصينيين عما هي عليه للأمريكيين والحاجة لاستيعابها تتطلب تبني مؤسسات اقتصادية معينة تشجع النمو كالأسواق الحرة وسيادة القانون . وتزدهر اقتصاديات الأسواق التي تقودها التكنولوجيا الحديثة استنادا إلى الحريات الفردية أي نظام يقوم فيه الأفراد وليس الحكومات أو رجال الدين باتخاذ القرارات المتعلقة بالأسعار أو نسب الفائدة.

وبدوره ينزع النمو الاقتصادي نحو إنشاء ليبرالية ديمقراطية ليس بصورة حتمية ولكن غالبا ما يحدث ذلك بقدر يجعل العلاقة بين النمو والديمقراطية أحد “قوانين” العلم السياسي القليلة المقبولة عامة، فالنمو الاقتصادي يولد طبقة وسطى لها حقوق ملكية ومجتمعا مدنيا معقدا وحتى مستويات تعليمية أعلى للمحافظة على القدرة على التنافس وتخلق هذه العوامل مجتمعة أرضا خصبة تنمو فيها مطالب المشاركة السياسية الديمقراطية التي تأخذ شكلا مؤسساتيا ضمن الحكومات الديمقراطية في نهاية المطاف.

والحضارة، والمعتقدات الدينية، والعادات الاجتماعية، والتقاليد الثابتة هي الحلقة الأخيرة والأضعف في مسلسل التحول والمجتمعات تمقت التخلي عن القيم التي تدق جذورها عميقا وسيكون من السذاجة الشديدة الظن بأن الثقافة الأمريكية الشعبية مهما كانت درجة إغرائها ستسود العالم قريبا . والحقيقة أن انتشار ماكدونالدز وهوليوود حول العالم أشعل سخطا عارما ضد أسس العولمة المنتظرة.

وبينما تبقى الفوارق الثقافية في المجتمعات المعاصرة فإنها تميل لأن توضع في صندوق منفصلة عن السياسة وتنسب إلى عالم الحياة الخاصة والسبب في ذلك بسيط: إذا كانت السياسة ترتكز على شيء كالدين فإنه لن يكون هناك سلم اجتماعي لأن الناس لا يستطيعون الاتفاق على القيم الدينية الأساسية. إن العلمانية هي تطور حديث نسبيا في الغرب حين كان الأمراء والرهبان والمسيحيون يفرضون المعتقدات الدينية على رعاياهم ويلاحقون المعارضين وقد نشأت الدول الديمقراطية العلمانية الجيدة نتيجة الصراع الديني الدموي في أوروبا في القرنين الـ 16 وال 17 حين ذبحت المجموعات المسيحية بعضها بعضا دونما رحمة وقد أصبح الفصل بين الدين والدولة أحد مكونات الحداثة المعاصرة بالضبط بسبب الحاجة للسلم الاجتماعي وهي أطروحة مذهلة جادل بها الفلاسفة من أمثال هوبز ولوك ضمن تقليد عظيم وصل ذروته في إعلان الاستقلال والدستور الأمريكي .

ويقترح منطق الحداثة الأساسي هذا أن القيم الغربية ليست نتاجا حضاريا اعتباطيا للمسيحية الغربية لكنها تجسد مسارا عالميا أكبر والسؤال الذي نحتاج لطرحه عندئذ هو هل هناك ثقافات أو مناطق في العالم ستقاوم أو تثبت أنها منيعة على عملية
التحديث؟

سيكون من الصعب الإجابة على ذلك بصورة موضوعية إذا نظرنا
على سبيل المثال إلى آسيا رؤية “عوائق حضارية أمام التحديث” كان رئيس وزراء سنغافورة السابق لي كوان يو يجادل بأن هناك “قيما آسيوية تدعم الاستبداد وليست صالحة لديمقراطية ناجحة” . لكن السنوات الأخيرة شهدت انتقال كوريا الجنوبية وتايوان إلى ديمقراطية ناجحة مع زيادة ثرائهما وبالطبع فإن الهند أضحت ديمقراطية منذ استقلالها عام 1948 ورست أخيرا على مجموعة من الإصلاحات الاقتصادية التي قد تساعد على تخليصها من الفقر أيضا وفي أمريكا اللاتينية والدول الشيوعية السابقة في أوروبا فإن المعوقات الثقافية أقل بروزا فالمشكلة بالنسبة إليهم هي الفشل في تحقيق التحديث على الأرض بدل النقمة على الهدف ذاته وأفريقيا الواقعة جنوب الصحراء لديها العديد من المشاكل من الإيدز إلى الحرب الأهلية والحكومات الرثة لكن من الصعب رؤية كيف تمنع التقاليد الثقافية المتنوعة هناك عملية التحديث إذا استطاعت هذه البلدان لملمة نفسها في نواح أخرىويعتقد بعض
المفكرين الغربيين

إن الإسلام هو الحضارة الرئيسية الوحيدة في العالم التي يمكن الجدال بأن لديها بعض المشاكل الأساسية مع الحداثة ومع كل الحنكة التي تتمتع بها المجتمعات الإسلامية فإنها لا يمكن أن تتبجح بوجود ديمقراطية حقيقية واحدة عدا استثناءات قليلة يتسم ظاهرها بديموقراطية شكلية مثل (تركيا) التي لم تشهد أي إنجازات اقتصادية متطورة مثل كوريا أو سنغافورة ومع ذلك فإنه من المهم أن نكون أكثر دقة في تحديد أين تكمن المشاكل الأساسية .

ولكن من المشكوك فيه أن يكون هنالك شيء موروث في الإسلام يجعله معاديا للحداثة كما يرى هؤلاء المنظّرون الغربيون . فالإسلام كالمسيحية والهندوسية والكونفوشيوسية أو أي ديانة أخرى من الديانات الكبرى أو التقاليد الحضارية، عبارة عن نظام شديد التعقيد تطور بطرق متعددة مع مرور الوقت وأثناء الفترة المشار إليها أعلاه حين كانت أوروبا ممزقة بفعل الحروب الدينية كانت المذاهب المختلفة تتعايش بسلام في ظل نظام الملل العثماني. وفي القرن الـ 19 وبداية القرن الـ 2. كانت هناك توجهات إسلامية ليبرالية مهمة في مصر وإيران وتركيا وأضحت جمهورية كمال أتاتورك أحد الأنظمة الأكثر علمانية في التاريخ الحديث.

يرد المفكرون الغربيون على هذا الدفاع عن النفس لدى المسملين ويشددون على مسلمة لديهم مفادها أن العالم الإسلامي يختلف اليوم عن غيره من الحضارات في وجه واحد مهم فهو وحده ولد تكرارا خلال الأعوام الأخيرة حركات أصولية مهمة ترفض، لا السياسات الغربية فحسب، بل المبدأ الأكثر أساسية للحداثة ألا وهو التسامح الديني واحتفلت هذه المجموعات الأصولية في مختلف بلدان العالم الإسلامي بهجمات 11 سبتمبر لأنها قهرت مجتمعا اعتقدت أنه مجتمع فاسد في جذوره ولم يكن هذا الفساد يقتصر على الإباحية والمثلية الجنسية وحقوق المرأة فحسب كما هي موجودة في الغرب ولكنه نجم من وجهة نظرها من العلمانية نفسها، وما يكرهونه هو أن الدولة في المجتمعات الغربية يجب أن تكرس التسامح الديني والتعددية بدلا من خدمة الحقيقة الدينية وبينما تجد شعوب آسيا وأمريكا اللاتينية ودول المعسكر الاشتراكي السابق أو أفريقيا، الاستهلاكية الغربية مغرية وتود تقليدها لو أنها فقط استطاعت ذلك، فإن الأصوليين الإسلاميين مثل الوهابيين السعوديين وأسامة بن لادن أو طالبان يرون في ذلك دليلا على الانحلال الغربي.

وعليه فإن هذه ليست ببساطة “حربا” على الإرهاب كما تظهرها الحكومة الأمريكية بشكل مفهوم وليست المسألة الحقيقية كما يجادل الكثير من المسلمين هي السياسة الخارجية الأمريكية في فلسطين أو تجاه العراق، بل إن الصراع الأساسي الذي تواجهه هذه السياسية لسوء الحظ أوسع بكثير وهو مهم ليس بالنسبة إلى مجموعة صغيرة من الإرهابيين بل لمجموعات أكبر كثيرا من الراديكاليين الإسلاميين ومن المسلمين الذين يتجاوز انتماؤهم الديني جميع القيم السياسية الأخرى إنها الأصولية الإسلامية التي تشكل الخلفية لحس أوسع من المظالم أعمق بكثير وأكثر انفصالا عن الحقيقة من أي مكان آخر ، وهذا النوع من الإسلاميين هو الذي يرفض تصديق أن المسلمين كانوا متورطين في الهجمات على مركز التجارة العالمي ويلقى اللوم بدل ذلك على إسرائيل وقد يشكون من سياسة الولايات المتحدة لكنهم يفسرون تلك السياسة على أنها جزء من مؤامرة أكبر على المسلمين .

وإذا سلمنا بأن الصراع الأساسي ليس مع الإرهابيين الفعليين فقط ولكن مع الأصوليين الإسلاميين الذين يرون العالم كصراع ثنوي ـ ما نوى (صراع بين النور والظلام) بين المؤمنين والكفار فإننا لا نتكلم عن مجموعة صغيرة منعزلة من المتعصبين. لقد ولد أسامة بن لادن تعاطفا كبيرا عبر العالم الإسلامي منذ 11 سبتمبر بسبب وقوفه متحدياً للولايات المتحدة من جانب سكان المناطق المدقعة في الفقر، في باكستان، وغيرها من بلدان العالم الإسلامي ، مروراً بالمهنيين في بيروت والقاهرة والمواطنين الباكستانيين والجزائريين في بريطانيا وفرنسا حيث يقدر المختص بشؤون الشرق الأوسط دانييل بايبس عدد هؤلاء 1. إلى 15 بالمائة من العالم الإسلامي.
هذا ما يطرحه الغربيون ممن يشكون في إمكانية التواصل مع العالم الإسلامي وإمكانية الحوار الحضاري معه . وهناك في الجانب الإسلامي مثقفون ومفكرون يعتقدون بإمكانية مثل هذا الحوار مع بعض التحفظات ويشكون من إنغلاق الغرب ووسائل إعلامه تجاههم .
يقول الدكتور حسن حنفي المفكر الإسلامي المصري المعروف :” أن الغرب هو الذي يخلق الأعداء من خلال نظرته الإستعلائية ومعاييره المزدوجه التي تولد الغضب والعنف .

ويقول بأن الإسلام والغرب ، تقابل مفتعل يحل المشكلة قبلتشخيصها ،ويثبتها قبل أن ينفيها . وهو تقابل خاطئ ، بين دين وحضارة وثقافة من ناحية وهو الإسلام ، ومنطقة جغرافية تحولت إلى صورة أو رمز أو مثال من ناحية أخرى ، وهو الغرب .
ويقول أنه في العصور الحديثة في الغرب بدأ إعلان عن حضارة العقل والعلم وحقوق الإنسان والمجتمع المدني والعقد الاجتماعي منذ القرن السابع عشر . وتحققت في الثورة الفرنسية ومثلها في الحرية والإخاء والمساواة في القرن الثامن عشر . ولما بلغ العنفوان الأوربي الذروة في القرن التاسع عشر وسيطر على البر والبحر ، بان المعيار المزدوج بوضوح ، البناء في داخل الغرب ، والهدمخارج الغرب ، العقل والعلم والحرية والديمقراطية في الداخل ، والأسطورة والخرافة والتسلط والقهر في الخارج ، فتحطمت القيم الغربية على حدود الجغرافيا . وأصبحت أدوات للسيطرة والتبشير والإلهاء والخداع ، وشق الصف الوطني ، وخلق طبقة منبهرة بالغرب باسم العلمانية والتنوير والحداثة والعقلانية والعلم لتقف ضد الأصولية والسلفية والظلامية والتخلف والتعصب والعنف والإنغلاق . فينشأ صراع بين الأقلية في الحكم والأغلبية في المعارضة ، ويتم الاستبعاد المتبادل بين الطرفين ، تكفير الأغلبية للأقلية ، وتخوين الأقلية للأغلبية . ثم يضيف الدكتور حسن حنفي “: بأن العالم الإسلامي هو الوحيد المرشح لأن يكون قطبا ثانيا في مواجهة القطب الأوحد الذي تتربع أمريكا على عرشه وتستخدم الأحلاف العسكرية والمنظمات الدولية لتنفيذ أغراضه مثل ضرب يوغسلافيا . فهو العالم الحي بتراثه الذي يزخر بتساؤلاته حول القديم والجديد ، التراث والحداثة ، الأصالة والمعاصرة . لم يقطع مع الماضي كما فعل الغرب في بداية العصور الحديثة و يمتد في التاريخ ، وإن الإسلام هو الذي قاد إلى إبداع حضارة ما زالت حية في القلوب ، وتثير الإعجاب والفخر لما قدمته للبشرية من علوم وفنون . وقام بحركات التحرر الوطني ، وقادها ، وفك إساره من الغرب . وأنشأ الدول الحديثة ، وأقام صرحا صناعيا في ماليزيا وإندونيسيا ومصر . وما زال يقوم بدور المعارضة للهيمنة الغربية في الأمم المتحدة رافضا الدخول في بيت الطاعة الأمريكي . وهنا يبرز التقابل بين الإسلام والغرب .

ويستطرد الدكتور حسن حنفي قائلاً :” بأن الأصولية موجودة في كل حضارة فهي ليست مقصورة على الحضارة الإسلامية وحدها ، بل هي ظاهرة طبيعية في كل حضارة تصل في مسارها التاريخي إلى مرحلة التأزم .

بيد أنه،و رغم الأحداث الأليمة التي تشهدها الآن الساحة الدولية ، وانعدام الثقة في العلاقات العربية – الأمريكية بشكل خاص والعلاقات العربية مع الدول الغربية بشكل عام ، لابد من نشوء حوار ثقافي مسئول وطويل الأمد لإعادة الاعتبار للحوار بين الثقافات والحضارات وليس للصراع في ما بينها لكي يعيد الثقة المفقودة بين الجانبين .

” فالغرب ليس واحدا وليس مطلقا بل يمتاز بالتنوع والتناقضات والصراعات . كما أن المجتمعات العربية بدورها ليست واحدة بل تمتاز أيضا بالتنوع الثقافي والديني والاجتماعي . وبالتالي ، فقد آن الأوان لمراجعة معارفنا عن الغرب ولإعادة النظر في المسلمات الراسخة في أذهاننا عنه وبناء صور جديدة تساعد على تقديم معرفة عقلانية وليس عاطفية أو انفعالية عن صورة المجتمعات العربية في الغرب . فالسائد لدى العرب هي صورة الغرب الاستعماري البشع الذي أشاع مناخا من الصدام والمواجهة مع الشرق . وصورة الغرب هي دوما صورة الغرب المنتصر كما عبر عنها فوكوياما وهنتنغتون . فهو انتصار الأقوى سياسيا واقتصاديا وعسكريا ومعرفيا . لكن على المثقفين العرب نقد مقولتي “صراع الحضارات” و”ما بعد الحداثة” وغيرهما لأنهما تعبر عن جديد أيديولوجيا العولمة الأمريكية ، دون أن تحمل أي تجديد ثقافي” على حد تعبير الدكتور سعود ضاهر في مساهمته في مجلة العربي عن الإسلام والغرب.

الداعون للحوار بين الأديان يقيمون علاقات جيدة عموماً مع السلطات الحاكمة والجهات الرسمية ولقد لوحظ أن الأوضاع الدولية كانت قد طغت على أعمال مؤتمر الحوار الإسلامي المسيحي الذي عقد في بروكسل مع بداية العام الجديد والذي شارك فيه الأزهر وعدد من الكنائس و الفاتيكان . وشدد المشاركون في المؤتمر علي أهمية تعميم ما أسموه ثقافة الحوار والتعارف المتبادل والعيش المشترك ومعالجة جذور التوترات الطائفية وفك الالتباس بين التدين والتطرف كما شدد الشيخ محمود عاشور وكيل الأزهر على ضرورة تفعيل الحوار بين الحضارات والثقافات من أجل الوصول إلى الحد الأدنى من التفاهم اللازم، مشيراً إلى أهمية اجراء هذا الحوار بين الجميع للمشاركة بوضع المستقبل وذلك بضرورة التوصل إلى تحديد استراتيجية جديدة وعملية للتفاهم بين الثقافات والحضارات.
وقال وكيل الأزهر خلال حديثه عن شهر رمضان والقرآن بملتقى الفكر الاسلامي الذي نظمه الأزهر بالتعاون مع المجلس الأعلى للشؤون الاسلامية بساحة الامام الحسين بن علي بالقاهرة يومياً طوال شهر رمضان المنصرم أن التفاعل الحضاري ضرورة انسانية لا بد منها لقيام الحضارات وتقدم البشرية ولا بد من ايجاد آلية جديدة وفعالة للحوار بين الأديان.

وأضاف أن شهر رمضان منحة ربانية من الله للمسلمين، مشيراً إلى أن رمضان له أهميته الكبرى في حياة المسلم ونفسيته وسلوكه فهو يعود الانسان على قوة الارادة وعدم الخضوع لتحكم العادات. ونبه الشيخ عاشور المسلمين إلى دراسة القرآن والاقبال على تعلم العلم النافع، مؤكداً أن الحياة مع القرآن الكريم نعمة لا يعرفها إلا من ذاقها ترفع العمر وتبارك وتزكيه.

وأكد الشيخ عاشور أن القرآن الكريم أنشأ للبشرية تصوراً جديداً عن الوجود والحياة والقيم والنظم كما حقق لها واقعاً اجتماعياً فريداً كان يعز على خيالها تصوره قبل أن ينشئه لها القرآن. وأضاف قائلاً ان من يصوم رمضان ويتلو القرآن وهو رحمة ونور فلا يشرق قلبه بنور الرحمة ولا تتألق نفسه بضياء الكرم ولم يوق شح نفسه فإنما يدل هذا على أن وسائل النور لم تتغلغل في نفسه فتقود إلى الجود والاحسان. ويشدد وكيل الأزهر على ضرورة عدم الخوض في القرآن بالرأي غيرالمحصن بل بالفقه والعلم بأصول السنة وعلوم القرآن وادراك اللغة العربية ادراكاً تاماً وفهم النص القرآني من سياق الخطاب القرآني العام وظروفه وقواعد تنزيله. كما شدد على مراعاة الآداب والتوجيهات النبوية التي تتعلق بالصيام لتحقيق الهدف الذي شرع من أجله الصيام، وقال ان الصيام، يتعلق بالكليات الخمس «حفظ الدين والنفس والنسل والمال والعقل» وبما أن الدين أحدها فالدين له أركان خمسة منها الصيام.

ودعا الشيخ عاشور المسلمين الى أن يستفيدوا من صيامهم ويتذكروا الجائع والمحتاج والفقير، وأن تسخو نفوسهم بالبذل والجود والعطاء. وأشار إلى التحديات التي تواجه المسلمين ويحتاجون فيها إلى الوعي الديني والثقافة الاسلامية وتصحيح المفاهيم الخاطئة والتخلي عن العادات السيئة. وقال لا بد أن نعيد النظر في سلوكياتنا ومناهج حياتنا وأن نخضع للاستقامة والاعتدال في كل الأمور الحياتية. وقال الدكتور عبد الصبور مرزوق نائب رئيس المجلس الأعلى للشؤون الاسلامية ان الغرب يتهم المسلمين بالارهاب والعنف، وان الذي يحثهم على ذلك هو القرآن الذي يتلونه بين أيديهم، مؤكداً أن البشرية لم تجد راحتها إلا بالأخذ بتعاليم القرآن، وأن الله سبحانه وتعالى جعل أمة الاسلام خير أمة «كنتم خير أمة أخرجت للناس» فالخيرية تتمثل في الدور الحضاري للاسلام الذي تنكر مبادئه التفاضل والتفرقة العنصرية والطبقية والحمية العصبية والتباعد والتنازع والاقتتال وتدعو إلى التلاقي والحوار طريقاً يفضي إلى التفاهم والتعايش وحسن الجوار من أجل توطيد أركان حياة انسانية سعيدة على هذا الكوكب. وأشار الدكتور مرزوق الى أن الاسلام تميز وتفرد بأنه كان أول معلن في تاريخ البشرية لحقوق الانسان الأساسية وأول مطبق لها منذ أربعة عشر قرناً، فهو صاحب أول «اعلان عالمي لحقوق الانسان» قبل اعلان ميثاق الأمم المتحدة. وقال: ان القرآن تضمن هذا الميثاق في قوله تعالى «يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وانثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا ان أكرمكم عند الله أتقاكم» والنبي صلى الله عليه وسلم يخاطب الناس جميعاً بصرف النظر عن ألوانهم واختلاف ألسنتهم وأجناسهم «يا أيها الناس إنما المؤمنون اخوة ان ربكم واحد وأن أباكم واحد كلكم لآدم وآدم من تراب ان أكرمكم عند الله أتقاكم ليس لعربي فضل على عجمي ولا لعجمي على عربي إلا بالتقوى»، وما هدف هذه الدعوة الصريحة الموجهة إلى الناس جميعا إلا اقامة مجتمع عالمي متحرر قائم على أساس من التآخي. وأضاف اننا لاحظنا في الآونة الأخيرة أن ثمة آراء ومقولات غريبة مختلفة التوجهات والفلسفات والعقائد تتعمد الربط بين الاسلام والارهاب بصفة خاصة أو بين الاسلام والعنف بشكل عام ولكن قوانين الأخلاق والرسالات السماوية بريئة من مثل هذا، والاسلام بصفة خاصة شدد على رفضها بل أقر حد الحرابة لمواجهة أعمال القرصنة والاعتداء والقتل للمفسدين في الأرض، ويرفض الاسلام مبدأ ميكافيللي في الغاية تبرر الوسيلة فشرف الوسيلة من شرف الغاية وسلامتها من سلامة الهدف. هذا بالنسبة لفريق المؤيدين لحوار الأديان.

في حين يوجد لدى المعارضين للحوار الحضاري عموماً ، وللحوار بين الأديان خصوصاً مبرراتهم ووجهات نظرهم التي يقدمونها في المنتديات المختلفة مشددين على زيف ما يسميه الغربيون بثقافة الحوار والتعارف المتبادل والعيش المشترك ومعالجة جذور التوترات الطائفية وفك الالتباس بين التدين والتطرف . ففكرة حوار الأديان التي يتم الترويج لها اليوم برأي هذا التيار الإسلامي الرافض لها هي :فكرة خبيثة دخيلة” . فمن وجهة نظر المعارضين لهذا الحوار هي فكرة لا اصل لها في الإسلام ، لأنها تدعو إلى إيجاد دين جديد ملفق ، يعتنقه المسلمون بدلا من الإسلام على حد قولهم.
ويؤكد عدد من المنتسبين للمؤسسات الدينية والجهات الدعوية المعارضة للحوار ان الغربيين بعد ان فشلوا في أبعاد المسلمين عن عقيدتهم عن طريق المبشرين والمستشرقين والمؤلفات الثقافية والتضليل الفكري والسياسي الإعلامي ، لجأوا إلى الجهات الرسمية في دولهم وفي دول أخرى ـ قد يبالغ المتشددون من المعارضين لفكرة مثل هذا الحوار في تلك المؤسسات إلى حد وصفها بـ “الدول العميلة” للغرب ـ وشرعوا في عقد المؤتمرات والندوات ، ويشكلون فرق العمل المشتركة ، ويؤسسون مراكز الدراسات في بلادهم وبلاد المسلمين ، كمركز اكسفورد للدراسات الإسلامية ، ومركز دراسات الشرق الأوسط في جامعة درم البريطانية ، وكلية الصليب المقدس الأمريكية ويعتقد المعارضون أن الدعاة إلى مثل هذا الحوار عادة ما يستعملون ألفاظا عامة ومصطلحات براقة ، تدل على معاني ـ بحسب رأيهم ـ غير محددة ، من اجل التضليل والخداع مثل … التجديد ، الانفتاح على العالم ، الحضارة الإنسانية ، المعارف العالمية ، ضرورة التعايش السلمي ، نبذ التعصب والتطرف ، العولمة وغيرها. ويشير المعارضون لحوار الاديان الى ان الغربيين لجأوا للخلط بين مفهومي العلم والثقافة والحضارة والمدنية ، ليتخذوا من هذا الخلط مسوغا لمهاجمة الذين يتمسكون بوجهة نظرهم في الحياة ، بأنهم ضد العلم وضد المدنية الناشئة عنه ، ووصمهم بالرجعية والتخلف ، مع أن الأمر في الإسلام غير ما يدعون ، فهو يفتح أبوابه للعلم وللمدنية الناشئة عن العلم ، ويغلق أبوابه في وجه أي حضارة أو ثقافة غير الإسلام وثقافته ، لكونهما أفكارا ومفاهيم متعلقة بسلوك الإنسان الذي يجب أن ينضبط بالمفاهيم الإسلامية عن الحياة . كما يرى المعارضون أيضا أن أهل الغرب زينوا بعض الأفكار الرأسمالية للمسلمين ، وسوقوها لهم على أنها لا تخالف الإسلام ، حتى اعتبرها بعض المسلمين أنها من الإسلام ، كالديمقراطية والحرية والتعددية الحزبية ( التي لا تحمل أفكارا إسلامية ) ، والاشتراكية وغيرها . بينما شنعوا على بعض الأفكار الإسلامية ، ونعتوها بأنها غير حضارية ولا تصلح لهذا العصر ، كالجهاد والحدود وتعدد الزوجات وغيرها من الأحكام الشرعية . ويرى عدد من المراقبين والمحللين ان الغرب ومؤسساته اخضعوا دراسة النصوص الإسلامية لطريقة التفكير الرأسمالية ولمناهجهم التربوية التي تجعل الواقع مصدرا للحكم وليس موضع الحكم كما جعلوا المقياس في اخذ الحكم أو تركه هو النفعية وليس الحلال والحرام ، مما دفع بعض المسلمين إلى استحداث بعض القواعد التي لا تستند إلى نصوص شرعية لفهم الإسلام مثل .. فقه الواقع ، فقه الموازنات ، وإطلاق قاعدة .. الضرورات تبيح المحظورات ، وغيرها . مما نتج عنه تمييع بعض أحكام الإسلام ، وعدم التمييز بين الدخيل والأصيل وبين ما هو كفر وما هو إسلام ، فصار الربا مباحا والاستشهاد انتحارا ويشير هؤلاء المراقبون لاسيما المهتمين منهم بالشأن الاسلامي الى ان الغربيين المشاركين فى الحوار مع بعض ممثلى الدين الاسلامى يتطلعون إلى تعميم وتوسيع الحوار ، فلا يظل محصورا بين الخاصة في المؤتمرات والندوات ، وإنما يشمل جميع شرائح المجتمع من نساء ورجال ، ومثقفين وعمال ، عن طريق المدارس والجامعات ، ومعاهد الدراسات والأحزاب والنقابات ، والمطالبة بإلحاق المسلمين وإدماجهم فى النسق الحضاري السائد فى الغرب بدءا من الاقتصاد والاجتماع وانتهاءاً بالسياسة والتعليم وغيرها . فالرأسمالية -على حد زعم الغربيين – هي الإنسانية والعقلانية والحرية والديمقراطية ، وهي الحضارة الحديثة الناجحة . وأما الإسلام ، فهو التقليد والاستبداد والتراث ، وهو سيادة الدين والرق وتعدد الزوجات ، فهو دين غير حضاري . ومن أساليب التعمية على المسلمين في مؤتمرات الحوار – وفقا لرأى الشيوخ والمؤسسات الإسلامية المعارضين لهذا النهج – هو إشراك المنتمين إلى بعض العقائد كالهندوسية والبوذية والسيخ وغيرهم ، مع المسلمين والنصارى واليهود ، كما حصل في المؤتمر العالمي للدين والسلام في اليابان حتى لا يظن المسلمون انهم وحدهم المستهدفون بالحوار ويتساءل هؤلاء المعارضون : كيف يقبل من يسمون بعلماء المسلمين أن يساوى بين الإسلام والبوذية وغيرها من الأديان . ويرى المسلمون الرافضون للحوار أن الهدف الأساسي الذي يسعى الرأسماليون الغربيون لتحقيقه هو الحيلولة دون عودة الإسلام إلى الحياة كنظام ،لأنه يهدد بقاء مبدئهم وحضارتهم، ويقضي على مصالحهم ونفوذهم .أما الأهداف الأخرى الفرعية ، التي تخدم الهدف الأساسي بحسب ما يقوله المعارضون ـ فمتعددة فهم يهدفون إلى صبغ العالم بصبغة الحضارة الرأسمالية ، ولا سيما المناطق التي يعيش فيها المسلمون ، لإحلالها محل الحضارة الإسلامية ، ليتسنى لهم محو الثقافة الإسلامية من الأذهان ، وذلك بزعزعة ثقة المسلمين بها وبمصادرها وبأساسها ، لتحييد الإسلام في معركة الصراع الحضاري وهم يهدفون إلى صياغة شخصية المسلم صياغة جديدة ، بحيث لا يجد غضاضة في ترك الواجب وفعل الحرام ، ثم إفساد الذوق الإسلامي لديه ، وقتل الحمية للإسلام في نفسه ، فلا يبغض الكفر والكافرين ، ولا يأمر بمعروف أو ينهى عن منكر ، ولا يجد غضاضة من حمل أفكار ومبادئ الرأسمالية .وبذلك ـ كما يوضح المعارضون ـ يزيلون المناعة الثقافية في الأمة الإسلامية التي تقاوم بها أي دخيل ، ويزيلون الحواجز الفكرية والنفسية التي تهدد الوجود الحضاري الرأسمالي في بلاد المسلمين ، فتصبح المحافظة على نفوذهم ومصالحهم سهلة ، ويضمنون بقاءهم واستمرارهم . وتشدد جبهة الشيوخ المعارضة للتحاور على إن الحوار الذي يرعاه الغرب و السلطات المحلية في بعض بلاد المسلمين ومعهم عدد من العلماء والمفكرين ، المقصود منة إيجاد دين جديد للمسلمين ، مبني على عقيدة فصل الدين عن الحياة ، فيه التشريع للبشر بدل أن يكون لله تعالى ، خالق البشر .ويستدل هؤلاء على ذلك بقول الله تعالى (ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا ) و قوله تعالى ( ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم ). وبما أن الحضارة الإسلامية أساسها العقيدة الإسلامية ، والحضارة الرأسمالية أساسها العقيدة الرأسمالية والجمع بينهما غير ممكن ، فيكون القصد من الحوار الذي يتزعمه الغرب هو العمل لتخلي المسلمين عن المفاهيم الإسلامية لحساب المفاهيم الرأسمالية ، لأنهم يدركون أن الجمع بين متناقضين غير ممكن . وفى النهاية يؤكد المسلمون المعارضون للحوار بين الأديان أن هذه الخطوة ضرب من الخيال وان الصراع الفكري بين الأديان والحضارات أمر لا مفر منه لتمييز الحق من الباطل ، والطيب من الخبيث.

وقد أصدرت رابطة العالم الإسلامي بيانا حذرت فيه من خطورة البرامج والأعمال التي ينفذها مجلس التنسيق بين الأديان الذي أنشأته مجموعة من الحاخامات اليهود ، موضحة أن ذلك الحوار خديعة كبرى للشعوب الإسلامية ، ويؤكد الدكتور عبد الودود شلبي الأمين العام السابق للجنة العليا للدعوة الإسلامية ” إن الحوار بين الأديان أسلوب جديد من أساليب التنصير والتبشير والغزو الفكري حيث أن الحوار ظاهره الرحمة وباطنه العذاب وللأسف وقع الأزهر وبعض المؤسسات الإسلامية بالدول العربية في مطب الحوار بحسن نية .. فأنشأ الأزهر لجنة تنسيق مع الفاتيكان أطلق عليها لجنة الحوار، والمجلس الإسلامي العالمي للدعوة والإغاثة هو الآخر أنشأ نفس اللجنة، وبعض الهيئات في الدول الإسلامية تهرول إلى هذا الحوار. وقال الدكتور محمد عبد المنعم البري الأستاذ بكلية الدعوة بالأزهر الشريف ” إن التقارب الإسلامي المسيحي والحوار بين الغرب والشرق وحوار الحضارات وغير ذلك كلها أساليب المراد منها أن تنال من العرب والمسلمين ليس إلايظهر أن السياسة العالمية قد بدلت حركتهم فجأة بعد 11 سبتمبر وخلال عصر الدوت كوم (الذي يبدو الآن كزمن ساحر غابر ) كانت أمريكا تندفع إلى الأمام وكانت الشيوعية المنافس الكبير الأخير للديمقراطية الليبرالية، قد انهارت تماما كالفاشية والملكية قبلها وكان الاقتصاد الأمريكي في عز صعوده وبدت المؤسسات الديمقراطية وكأنها تتقدم في أنحاء العالم كله وقيل أن التكنولوجيا تقرب القرية العالمية أكثر إلى بعضها بعضا بطرق قللت من أهمية الدول القومية التقليدية . اليوم اختلف كل شيء . فالولايات المتحدة دخلت الحرب ضد طالبان والقاعدة في أفغانستان بعد أن عانت هجمة ناجحة غير مسبوقة على أراضيها وتستنفر الآن أعداد كبيرة من المسلمين لمعارضة الولايات المتحدة، ويطلب من بلدان حول العالم أن تختار أحد طرفي الصراع وأصيب الاقتصاد بالركود في الولايات المتحدة والخارج في الوقت الذي ترمي فيه الاعتبارات الأمنية الرمل في حركة الاقتصاد العالمي المعاصر