Uncategorized
JPEG

قبل تسع سنوات الحقت بكتابي “الاستشراق” خاتمة جديدة حاولت فيها توضيح ما قلته وما لم أقله في ذلك العمل، مركزا ليس فقط على المناقشات الكثيرة التي أثارها منذ صدوره في 1978، بل أيضا كيف أن هذا العمل الذي يدور على تصورات المستشرقين لـ”الشرق” أثار تفسيرات وتصورات متزايدة الشطط للموضوع. لكنني اليوم لا أجد في هذا مدعاة للغضب، بقدر ما أجد بعض الأسف للمفارقة الساخرة التي ينطوي عليها الموقف. السبب ربما يتعلق بتقدم السن، وأيضا فقداني في الآونة الأخيرة صديقيّ ومرشديّ على صعيدي الثقافة والسياسة، اقبال أحمد وابراهيم أبو لغد، والحزن تبعا لذلك، ولكن أيضا التصبر والتصميم على الاستمرار.

في مذكراتي “خارج المكان” (1999) وصفت نشأتي في عوالم غريبة في تناقضها، مقدما لنفسي وقرائي صورة مفصلة عن تكوين شخصيتي في فلسطين ومصر ولبنان، لكنها كانت سيرة شخصية تركت جانبا السنين الطويلة من حياتي السياسية بدءا من 1967.

أما “الاستشراق” فقد كان وثيق الارتباط بتاريخنا العاصف في العقود الأخيرة، الذي يبدو انه يمتد الى ما لا نهاية. وتبدأ الصفحة الأولى من الكتاب بوصف للحرب الأهلية اللبنانية في 1975 التي تواصلت الى 1990، لكن العنف وسفك الدماء يستمران الى هذه اللحظة. ثم شهدنا فشل عملية أوسلو وانطلاق الانتفاضة الثانية، وعذاب الفلسطينيين في الضفة الغربية وغزة واعادة احتلالهما من قبل اسرائيل. ثم ظاهرة التفجيرات الانتحارية والخراب الرهيب الذي احدثته، وصولا الى احداث 11 أيلول (سبتمبر) 2001 البشعة، والحرب على أفغانستان والعراق بنتيجتها. وها أنا اكتب هذه السطور مع استمرار الاحتلال الامبريالي اللا شرعي للعراق من قبل الولايات المتحدة وبريطانيا، الذي قد يتناهى الى كوارث تصعب على التصور.

ان هناك من يرى في كل هذا مظاهر صدام دائم لا حلّ له بين الحضارات. لكنني لا أعتقد ذلك.

كان بودي القول ان في الولايات المتحدة الآن فهماً أفضل للشرق الأوسط والعرب والمسلمين، لكن المؤسف ان الأمر ليس كذلك. الوضع في أوروبا يبدو أفضل، ولأسباب عديدة. الا أن الموقف في أميركا يستمر على التحجر وتزايد انتشار التعميمات المهينة والكليشيهات الانتصارية ضد “الآخر”، سواء كان الأجنبي عموما أو المعارض الداخلي. ولعل السماح بنهب واحراق المتاحف والمكتبات في بغداد كان “المعادل الموضوعي” الأوضح لهذه الروحية. ان ما لا يستطيع قادتنا فهمه، كما يبدو، هو استحالة ازالة التاريخ أو مسحه مثل مسح السبورة لكي نستطيع بعد ذلك تسطير المستقبل الذي نريد عليها وفرض أنماط حياتنا على بشر نعتبرهم أقل قيمة. ونسمع دوما من كبار المسؤولين في واشنطن وغيرها عن تغيير خريطة الشرق الأوسط، وكأن المجــتمعات القديمــة هناك وكل ما فيها من الــبشر مجرد قطع من الحجارة يمكن رصفها بهذا الشكل أو ذاك حــسب ما نريد. لقد حصل هذا أحيانا كثيرة لما يسمونه “الشرق”، ذلك الكيان المصطنع فكريا في شكل شبه اسطوري، الذي أعاد الغرب تشكيله مرارا كما يحلو له منذ غزو نابليون لمصر أواخر القرن الثامن عشر. وتم كل مرة في تلك العملية اغفال أو جرف ذلك التنوع اللا متناهي في تواريخ المنطقة وثــقافاتها ولغاتها، لكي يغدو كل منها شظايا متناثرة لا معنى لها، مثل بقايا من كنوز تاريخ العراق التي هُرّبت من بغداد.

ما أقوله ان التاريخ من صنع الرجال والنساء أنفسهم، مثلما يمكن اعادة صنعه أو اعادة كتابته لكي يصبح الشرق “شرقنا”، أي ملكنا الذي يمكننا التصرف به كما نريد. ولا بد من النظر باعجاب الى طاقات ومواهب شعوب المنطقة في كفاحها لتحقيق هويتها وما تريده لمستقبلها. لقد شهدت المجتمعات العربية والمسلمة هجوما ضاريا متقصدا عليها بحجة تأخرها وافتقارها الى الديموقراطية والغائها حقوق المرأة، الى درجة جعلتنا ننسى ان مفاهيم مثل الحداثة والاستنارة والديموقراطية ليست بالأفكار البسيطة المتفق عليها مسبقاً، مثل شيء يمكن القول فورا بوجوده أو عدم وجوده في هذا المكان أو ذاك. لكن ما نسمعه في كل مكان هو ذلك الاستخفاف المذهل من قبل تلك المجموعة العجيبة من المتكلمين باسم السياسة الخارجية الأميركية، الذين يصورون الشرق الأوسط وكأنه حيز فارغ يمكن فيه لأميركا خلق “ديموقراطية” مصطنعة و”سوق حرة” مصطنعة. كلا، لا حاجة الى معرفة العربية أو الفارسية أو حتى الفرنسية لكي تتشدق عن حاجة العالم العربي الى الديموقراطية وكيف ان اقامتها في العراق سيعني انتشارها فورا الى بقية الدول العربية حسب نظرية احجار الدومينو.

لكن هناك فرقا بين معرفة بالشعوب الأخرى والتواريخ تقوم على الفهم والتعاطف والدراسة المعتنية المقصودة لذاتها، والمعرفة التي تأتي جزءا من حملة شاملة تهدف الى اثبات الذات. فهناك في التحليل النهائي تباين عميق بين ارادة الفهم خدمة للتعايش وتوسيع الأفق، وارادته وسيلة للسيطرة. والمؤكد ان من بين الكوارث الفكرية في التاريخ ما نراه الآن من حرب امبريالية مدمرة افتعلتها مجموعة صغيرة من المسؤولين الأميركيين غير المنتخبين ضد بلد من العالم الثالث يعاني أصلا من الديكتاتورية والدمار، وذلك على أساس أيديولوجي يتلخص بالسيطرة على العالم وموارده. وقد نجح هؤلاء في تمويه غايتهم هذه بفضل التبرير والدعم الذي لاقوه من مستشرقين خانوا أمانتهم العلمية.

التأثير الرئيسي على البنتاغون ومجلس الأمن القومي يأتي من أشخاص مثل برنارد لويس وفؤاد عجمي، الخبيرين بالعالمين العربي والاسلامي اللذين قدما للصقور اختلاقات فكرية شنيعة مثل “عقلية العرب” وتراجع الحضارة الاسلامية المستمر منذ قرون، الذي لا دواء له سوى أميركا وقوتها. ونجد المكتبات التجارية في أميركا اليوم مليئة بمؤلفات مهلهلة بعناوين صارخة تدور على الاسلام والارهاب، أو”فضح” الاسلام، والخطر العربي أوالاسلامي أو الاثنين معا، وكلها من تأليف معلقين مغرضين يستقون معرفتهم من “خبراء” يفترض انهم توصلوا الى فهم اعماق تلك الشعوب “الشرقية” الغريبة الطبائع. اضافة الى ذلك هناك تلك الجوقة الاعلامية الكبرى، من تلفزيون “فوكس” و”سي ان ان” الى ما لا حصر له من الاذاعات التبشيرية واليمينية والصحف الشعبية وحتى المجلات الأرقى نسبيا، وكلها تعيد وتكرر تلك الترهات والتعميمات الفارغة لاثارة الأميركيين ضد “الشياطين الأجانب”.

ولولا هذه الحملة المنظمة ضد اولئك الناس الذين لا يشابهوننا ولا يقدّرون “قيمنا” – الحملة التي تلخص جوهر التقليد الاستشراقي – لما كانت هذه الحرب. وهكذا فان المستشارين الأميركيين للبيت الأبيض والبنتاغون ينتمون الى النوعية نفسها التي جاء منها الباحثون المأجورون الذين جيّشتهم قوى الاستعمار الهولندي في ماليزيا واندونيسيا، والجيوش البريطانية التي غزت الهند ومصر والعراق وغرب أفريقيا، والفرنسية التي استولت على الهند الصينية وشمال أفريقيا. ويستعمل الخبراء الأميركيون الكليشيهات والتنميطات نفسها التي قدمها سابقوهم، والتبريرات نفسها لاستعمال القوة ضد تلك الشعوب (لأنها بالتالي “لا تفهم سوى لغة القوة” كما تؤكد معزوفتهم من قديم الزمان). وقد انضم الى هذه الجوقة في العراق جيش جرار من أصحاب الأعمال الساعين الى المتاجرة والعقود، والخبراء الذين سيعيدون صياغة حياة العراق السياسية والثقافية، من كتابة النصوص المدرسية المقررة الى تدوين الدستور، وبالطبع أيضا سياسته النفطية.

يعلمنا التاريخ ان كل امبراطورية تدعي انها ليست كمثيلاتها، وانها تتفرد عنها بغاياتها النبيلة في ايصال رسالة الحضارة والتنوير واشاعة الديموقراطية، وانها لا تستعمل القوة الا بوصفها الخيار الأخير. والمؤسف ان هناك دوما الكثيرين من المثقفين المستعدين للادلاء بشهاداتهم عن حسنات الامبريالية ونكرانها لذاتها في مساعيها هذه.

بعد 25 سنة على صدور “الاستشراق” يعود السؤال عما اذا كان عصرنا الحديث قد شهد نهاية الامبريالية، أم انها مستمرة في الشرق منذ غزو نابليون لمصر قبل قرنين. وقد قيل للعرب والمسلمين دوما إن نفسية الضحية والتركيز على مساويء الامبريالية يشكل نوعا من التهرب من المسؤولية عن أوضاعهم الحالية. انها مقولة المستشرقين الدائمة: “لقد فشلتم. لقد أضعتم طريقكم!”. وهذه بالطبع هي مسـاهمة في. إس. نايبول في مجال الأدب: ضحايا الامبريالية يكتفون بالبكاء والعويل فيما تصل الأوضاع في بلادهم الى الحضيض. لكن يا لسطحية هذا الموقف، الذي لا يريد مواجهة تواصل تأثيرات الامبريالية عبر السنين على حياة اناس مثل الفلسطينيين أو الكونغوليين أو الجزائريين أو العراقيين. لننظر الى الخط الذي بدأ باحتلال نابليون لمصر واستمر بظهور علم الاستشراق، ثم الاستحواذ على شمال أفريقيا، وتواصل مع المشاريع الاستعمارية في فيتنام ومصر وفلسطين، ثم مع الصراع على النفط والسيطرة الاستراتيجية في الخليج والعراق وسورية وفلسطين وأفغانستان. لننظر أيضـا الى تصاعد الحركات القومية المناهضة للامبريالية، وبعدها مرحلة التحرر القصيرة ثم مرحلة الانقلابات العسكريـة والثورات والحــروب الأهلية والتعصب الديني والردود اللا عقلانية على تحديات العصر، وفي المقابل الهجــمات التي لا تعرف الرحمة على أجيال جديدة من “السكان المحليين”. وكل من هذه المراحل ينتج معرفته المشوهة بالآخر، والتنميط التبسيطي المهين له، والحجج السياسية المتحذلقة ضده.

فكرتي في “الاستشراق” كانت استعمال النقد المستمد من التوجه الانساني لفتح مجالات جديدة للصراع وتقديم سياق متواصل من التفكير والتحليل، بدلا من ردود الفعل الآنية الغاضية التي تقيّد تفكيرنا. وقد أطلقت صفة “الانسانية” على هذا التوجه، واواصل استعمالها بعناد بالرغم من استهجانها من قبل الناقدين الما بعد حداثيين. أقصد بـ”الانسانية” في الدرجة الأولى كل محاولات فك ما وصفه الشاعر الانكليزي وليام بليك بـ “الاغلال التي يصنعها الذهن” للتمكن من استعمال العقل في شكل تاريخي عقلاني، وصولا الى فهم تأملي. اضافة الى ذلك فان النظرة الانسانية هذه تتغذى من حسّها الجمعي المتمثل بارتباطها بالباحثين الآخرين والمجتمعات والمراحل التاريخية الأخرى – بحيث لا يمكن القول ان هناك باحثا انسانيا منعزلا.

مؤدى القول أن كلا من المجالات والظواهر مرتبط بالبقية كلها، وأن ما من شيء في عالمنا معزول عن التأثيرات الخارجية. وان علينا الكلام عن قضايا مثل الظلم والمعاناة بعد وضعها بدقة في سياقها التاريخي والثقافي والاجتماعي – الاقتصادي. دورنا اذاً هو توسيع حقل النقاش. وقد قضيت الكثير من حياتي في السنين الـ35 الأخيرة في الدفاع عن حق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير، لكنني حرصت على القيام بذلك مترافقا مع كامل الانتباه الى واقع الشعب اليهودي وما عاناه من الاضطهاد ومحاولات الابادة. ويعني هذ أن الاعتبار الأهم هو توجيه الكفاح من أجل المساواة في فلسطين/ اسرائيل نحو هدف انساني، أي التعايش وليس القمع أو الانكار. ولم يكن من قبيل الصدفة اشارتي الى الجذر المشترك بين الاستشراق واللا سامية. ويبدو لي تبعا لذلك ان من الضروري للمثقفين المستقلين أن يقدموا دوما نماذج بديلة من النماذج التبسيطية المقيِّدة القائمة على العداء المتبادل السائد منذ زمن طويل في الشرق الأوسط وغيره.

لا بد من الاشارة في هذا المجال الى أنني، كباحث انساني التوجه، تلقيت تعليمي قبل 40 سنة في حقل الأدب المقارن، الذي تعود أفكاره الرئيسية الى المانيا أواخر القرن الثامن عشر واوائل التاسع عشر. وكانت هناك قبل ذلك المساهمة العظيمة من الايطالي جيامباتيستا فيكو، الذي استبقت أفكاره مواقف غوته وهمبولت ودلتاي ونيشته وغادامر وغيرهم من المفكرين الألمان – ثم كوكبة فيلولوجيي لغات الرومانس في القرن العشرين التي تضم اريش آورباخ وليو سبتزر وارنست روبرت كورتيوس.

فكرة الفليلوجيا بذاتها تثير لدى الأجيال الشابة انطباعا عن علم منكفىء على ذاته لا يعرف غير الكتب الصفراء المكسوة بالغبار. لكن الفيلولوجيا هي فن الفهم الأعمق والأكثر ابداعا للتاريخ والحضارات. ولعل أفضل تجسيد له بالنسبة لي اهتمام غوته بالاسلام عموما وبحافظ الشيرازي خصوصا، ذلك الولع العميق الذي أدى الى كتابة “ديوان الشرق والغرب”، ث 05; الى فكرته عن “أدب العالم”، أي دراسة آداب الأمم في وحدة سيمفونية تحفظ خصوصيات كل منها ضمن المنظور الجمعي.

هناك مفارقة كبيرة عندما نرى أن العولمة اليوم، في عملها على توحيد الكل بأشكال تحدثت عنها سابقا، تقترب في شكل متزايد من ذلك النوع من الرتابة والتجانس الفكريين اللذين تقصّد غوته مقاومته. وقد أكد أريش آورباخ على هذه النقطة في مقال بعنوان “فيلولوجيا الأدب العالمي” نشره في 1951، أي مطلع الحرب الباردة. وكان آورباخ نشر كتابه العظيم “مايميسس” في 1946 في بيرن، بعدما ألفه أثناء لجوئه الى اسطنبول ابان الحرب الثانية حيث عمل استاذا للغات الرومانس. وكان هدفه من الكتاب وصف تنوع وحيوية تمثلات الأدب الغربي، من هوميروس الى فرجينيا وولف، للواقع المتعين. لكن قراءة مقالته في 1951 توحي بأن الكتاب كان مرثية لحقبة اتسم الباحثون فيها بالقدرة على تفسير النصوص عن طريق الفيلولوجيا، بكل ما تتطلبه من التمعن في النصوص والوقائع والحساسية وقوة الحدس وسعة المعرفة والتمكن القوي من عدد من اللغات، لدعم ذلك النوع من الفهم الذي دعا اليه غوته في مقاربته للأدب الاسلامي.

المعرفة الوثيقة بالتاريخ واللغات ضرورية بالطبع، لكنها لا تكفي، مثلما لا يكفي تكديس كل ما أمكن من المعلومات للتوصل، مثلا، الى مقاصد شاعر مثل دانتي. ذلك ان الشرط الرئيسي للفهم الفيلولوجي الذي تحدث عنه وحاول ممارسته آورباخ وسابقوه هو محاولة الدخول على النص المكتوب بتفهم وتعاطف ذاتي، ومن منظور المؤلف وزمنه. أي ان الفيلولوجيا في تطبيقها على اداب العالم لا تقوم على التباعد والعداء للزمن الآخر والحضارة الأخرى بل على روحية انسانية تعتمد ما يمكن وصفه بانه الكرم أو حسن الضيافة – بمعنى ان ذهن القائم بالتفسير يعمل على فسح مكان لذلك “الآخر”. وهذا الفسح الخلآق لاعمال تبقى دون ذلك غريبة وبعيدة هو الصفة الأهم لمهمة المفسِّر.

كل هذا بالطبع تعرض للتخريب والدمار في المانيا النازية. ولاحظ آورباخ بعد الحرب بأسف الرتابة المتزايدة متلازما مع التخصص المتزايد في حقول البحث، وهو ما قلص من امكانات القيام بذلك العمل الفيلولوجي كما جسّده آورباخ، بحرصه على التدقيق مترافقا مع الانفتاح الذهني المطلق. والمحزن أكثر أن الفترة التي تلت موته في 1957 شهدت المزيد من التراجع على صعيد الفكر والممارسة، وفقدان البحوث الانسانية لموقعها الريادي السابق. وها نحن نجد طلابنا اليوم، بدل قراءة النصوص بالمعنى الحقيقي للقراءة، ينشغلون بنتف من المعلومات المأخوذة عن الانترنت أو وسائل الاعلام.

الأسوأ من ذلك ان التعليم يلقى تهديدا من بعض القوى القومية والدينية المحافظة التي تتناقل وسائل الاعلام أفكارها في شكل لا تاريخي يركز على عنصر الاثارة. ولعل من بين أسوأ الأمثلة أسلوب تغطية الحرب، التي تصور وكأنها نوع من الألعاب الالكترونية أو “الضربات الجراحية” التي لا تسبب خسائر بشرية تذكر، وتطمس بذلك حقيقة الحروب الحديثة وما فيها من الهول والدمار. وهناك أيضا بالطبع الدور الأساسي الذي يلعبه الاعلام في ادامة قلق وغضب المشاهدين عن طريق التركيز على “شيطانية” ذلك العدو الغامض الذي لا نعرف عنه سوى انه “ارهابي”. وقد أمكن استغلال ذلك بسهولة خصوصا في الأجواء التي خلفتها أحداث 11 / 9.

ان عليّ، كأميركي وعربي، أن اطلب من القارىء أن لا يستخف بفاعلية تلك النظرة التبسيطية الى العالم من قبل حفنة من كبار المسؤولين المدنيين في البنتاغون، التي صاغوا على أساسها سياسة الولايات المتحدة ازاء العالمين العربي والاسلامي. انها نظرة مدعومة بأضخم موازنة عسكرية في التاريخ، تدور على أفكار مثل الارهاب والحرب الوقائية وتغيير النظام، وتتناولها وسائل الاعلام “وخبراؤها” – المجمعون دوما على تبرير الخط الرسمي – من خلال نقاشات لا نهاية لها تزيد من فجاجة تلك الطروحات الفجة أصلا. هكذا حلّت محل الفكر التأملي والنقاش العقلاني والمبدأ الأخلاقي القائل بأن على البشر صنع تاريخهم بأنفسهم تلك الأفكار المجردة التي تحتفي بفرادة أميركا أو الغرب عموما، ولا تعطي أهمية للسياقات التاريخية وتنظر باحتقار الى الثقافات الأخرى.

ربما وجد البعض في موقفي تنقلات حادة بين التفسير الانساني من جهة والسياسة الخارجية من الثانية، وأن حضارة تكنولوجية لا سابق لها من حيث القوة، وتمتلك اضافة الى ذلك الانترنت ومقاتلات “اف 16″، تحتاج الى قيادة خبراء بالسياسات التكنولوجية مثل دونالد رامسفيلد وريتشارد بيرل. لكن ما يضيع في هذا هو التشابك الكثيف والاعتماد المتبادل في الحياة الانسانية، الذي لا يمكن اختزاله الى معادلة أو اغفاله بدعوى عدم اهميته.

هذا جانب واحد من جوانب النقاش في انحاء العالم. واذا نظرنا الى العالم العربي والاسلامي نجد أن الوضع لا يختلف كثيرا. وكما لاحظت الباحثة رلى خلف فان المنطقة شهدت انزلاقا سهلا الى عداء لأميركا لا ينم عن فهم يذكر لمجتمعها. ولما كانت الحكومات عاجزة عن التأثير على سياسات أميركا نحوها فهي تحول جهودها الى قمع شعوبها، وما يؤدي له ذلك من الضغائن والغضب والعجز وما شابه من السلبيات التي لا تساعد على انفتاح المجتمعات. وهكذا نجد مجتمعات تتغلب فيها مشاعر الفشل والاحباط على الأفكار العلمانية حول الانسانية والتاريخ والنمو، ويتزايد فيها التعليم الديني القائم على التلقين والحفظ عن غيب ورفض كل أنماط المعرفة العلمانية باعتبارها من صنع “الآخر”. وكان الاضمحلال التدريجي; للتقليد الاسلامي العظيم المتمثل بالاجتهاد من بين الكوارث التاريخية الرئيسية في زمننا، وتراجع معه التفكير الانتقادي والتناول الجاهد لعالمنا ومشاكله.

لا يعني هذا ان العالم انقسم ثقافيا الى استشراق جديد عدائي من جهة ورفض شمولي من الثانية. وبالرغم من نواقصها فقد كشفت القمة العالمية التي عقدتها الأمم المتحدة في جوهانسبورغ السنة الماضية ع 06; اهتمامات مشتركة كبرى توحى ببروز رأي عام عالمي جديد يعطي وزنا جديدا لتلك المقولة التبسيطية المعهودة عن “عالم واحد”. لكن علينا ان نعترف أيضا أن من المستحيل الاحاطة بكل أوجه الوحدة البالغة التعقيد لعالمنا المعولم، حيث يسود الاعتماد المتبادل بين الأجزاء الى درجة لا تسمح لأي منها بفرصة الانعزال.

ان من الضروري تحدي الضغوط والصراعات الكبرى التي تعمل على تقسيم البشر في شكل زائف الى وحدات كبرى تحت عناوين مثل “أميركا” أو “الغرب” أو “الاسلام”، لكل منها هويته الشمولية التي تطمس التباينات الكبيرة بين الأفراد. ولا يزال في حوزتنا من أجل ذلك المهارات التفسيرية العقلانية التي خلقها التعليم القائم على مبدأ الانسانية، التي لا يعني التزامها مجرد الحنين الى القيم الكلاسيكية بل الممارسة الناشطة للخطاب العلماني العقلاني اللصيق بعالمنا. العالم العلماني هو عالم التاريخ كما يصنعه البشر أنفسهم. الفكر الانتقادي هو ما يرفض الانضمام الى الصفوف المرتصة ضد من يُتفق على تسميته “العدو”.وعلينابدل الأخذ بمقولة مصطنعة مثل “صدام حضارات” التركيز على التفاعل التاريخي البطيء والمستمر بين الحضارات، بكل ما بينها من التشابهات والاستعارات المتبادلة والتعايش، تلك العناصر الأهم بكثير مما تعترف به النظريات التبسيطية المزيفة. لكن القيام بهذه المهمة التفسيرية الواسعة يحتاج الى الكثير من الوقت والتقصي الانتقادي الصبور، في زمن يلح على الأفعال وردود الأفعال الفورية.

الموقف الانساني يدور على الانسان في فرديته وحدسه الذاتي، وليس على الأفكار والمرجعيات المفروضة مسبقا. والواجب قراءة النصوص كنصوص انتجت واستمرت في الحيز التاريخي، حيزنا الأرضي. لكن هذا لا يستثني اعتبارات القوة، بل انني، بالعكس، حاولت ابراز تسلل وتداخل اعتبارات القوة الى حتى أكثر مجالات البحث عمقا وبعدا عن الاهتمامات المباشرة.

أخيرا، وهو الأهم، التوجه الانساني هو خط المقاومة الوحيد، بل الأخير، لنا ضد الممارسات اللا انسانية والمظالم الذي تشوه التاريخ. ولا شك أن ما يدعمنا اليوم هو عالم الانترنت الديموقراطي المفتوح لكل المستعملين، في شكل لم تحلم به من قبل أجيال الطغاة أو المتزمتين. ولولا هذا العالم لم تكن هناك الموجة الكبرى من الاحتجاج على الحرب على العراق من قبل تلك المجاميع البديلة في كل مكان، التي تركز على حقوق الانسان والبيئة وقضايا التحرر عموما، واعتمدت من أجل المعلومات والاتصال على هذه الوسيلة الحديثة.

الحياة 2003/08/12