في العالم توجد شعوب غنية، تمتلك ثروات طبيعية أو تاريخية هائلة، و توجد شعوب فقيرة، لا تملك شيئا سوى ما تسميه (عزاء أو إيمانا) الثروة البشرية. للمفارقة، تونس و اليابان ينتميان إلى هذا الصنف.

لكن الرابع عشر من كانون الثاني ـ جانفي، قدم لنا حقيقة مغايرة تماما لما نعتقد، ففي زمن ثوري حيث يجب اعادة بناء كل شيء و هيكلته، توجب ايجاد رجال ـ و لست أستثني بالكلمة الجنس اللطيف هنا ـ واعين بمتطلبات اللحظة (كم أكره هذه العبارة)، يتركون اختلافاتهم الايديولوجية و السياسية في ركن مظلم من مطبخهم السياسي و يتجندون لبناء البلاد. و حين الانتهاء من العملية، يعود كل الى ايديولوجيته يغازلها و يمارس معها ما شاء له أن يمارس. و يذكر التاريخ أن فرنسا لم تنته إلى ما هي عليه اليوم لولا تحالف الشيوعيين و اليمين الكاثوليكي (ديغول) داخل مجلس المقاومة الوطني.

لكن الشأن العام و المصلحة العليا باتت في أفضل حالاتها مطلبا نظريا فحسب و ما عاد المعارضون الذين خبروا النظام سنين عديدة بقادرين على التحالف ضد من نكّل بهم 50 سنة، و فضلوا الاقتتال فيما بينهم، ضاربين بعرض الحائط تضحيات الشعب التي خضّبت بدماء الشهداء.

بانوراما :

النهضة : لم تفتأ تردد دوما أن حزب العدالة و التنمية التركي، هو نموذجها الذي ستحتذي به، و أنها تريد التواجد في مناخ ديمقراطي يتعامل بايجابية مع الآخر. لكنها تزرع الغموض و الريبة في كل تصريحات اعضائها، و بياناتها، و اختلاف مواقف مسيريها. لقد أحسنت النهضة استهلال مشروعها الحزب داخل تونس، بخطاب سلس و واضح، لكنه لم يدم طويلا.

الديمقراطي التقدمي : لو تقاعد أحمد نجيب الشابي، فأنصحه أن يجرب من المهن ما شاء الا الاقتراب من الاستشارة السياسية! لقد كان الرجل مقاوما شرسا للدكتاتورين، لكنه أنسانا كل سنين المقاومة في بضع دقائق، و انضم الى حكومة الغنوشي في ما يمكن نسبته إلى خطإ جسيم في قراءة الاحداث. و رغم أنه أوصى بهذه الفكرة كحل لحكومة بن علي مرتين قبل 14 جانفي، فإن الشعب لا يغفر الأخطاء و كان عليه أن يدرك ذلك.

العمال : لا حديث عنه الا حين انتشار الاشاعات، أو مطالب من نوع تسليح الشعب، و عموما فحزب العمال ظل ضحية لاسمه لأن الشيوعية اقترنت بالالحاد في المخيال الشعبي.

التجديد : حينما أسمع كلمة “التجديد” تتراءى إلى ذهني صورة ماموث ينظر في حيرة إلى شطيرة Cheeseburger ذات الحجم الكبير، هل تعرفونها؟ أراه مترددا بين النهوض و التواصل الحقيقي مع الشعب، او الجلوس الى الطاولة و التهام الشطيرة. لقد اقترف التجديد ذات خطإ الحزب التقدمي.

المؤتمر : بدا لي الحزب الاكبر وعدا، خصوصا برجليه الفذّين رؤوف العيادي و الدكتور المنصف المرزوقي، كما يقدم موقعا ايديولوجيا مثيرا : تقدمية في ظل ثقافة عربية اسلامية. لكن الحزب يجد صعوبة في فرض نفسه على الساحة السياسية، لسبب مجهول. لعله ضعف التمويل، أو المشاكل اللوجيستية، أو نقص التحضيرات، أو ربما كثرة الشباب المنضم دونما تكوين جيد.

التكتل : ارادة رائعة يمتاز بها الحزب لكنها غير كافية لمعرفة حجمه الحقيقي و مدى تجاوب التونسيين مع افكاره. كما لا أخفي شكي في مدى قدرة الحزب على التوسع.

أفاق تونس : لقد بدأ الحزب بمزحة ثقيلة جدا اسمها نائلة شرشور حشيشة، و هي لمن لا يعرفها، من بين أولئك اللاتي توسلن إلى الرئيس بوش الابن حتى يجتاح العراق. شخصيا، اشعر بارتياح لتواجد سارة بالين في نسخة تونسية، فهذا ضامن لايام لا بأس بها من الضحك الجنوني. لقد حاول الحزب امتصاص وقع الكارثة تدريجيا حتى الندوة الصحفية التي عقدتها آمنة منيف التي صدعت أخيرا بما كان يجب أن يقال، و ان بتأخير شديد. لقد أحسن الحزب التأكيد أن التطبيع و الهوية ليسا الشأن الأول للتونسيين اليوم، و ان التونسي له أولويات أخرى، لكن هذا كلام يقال خلال الاحداث لا بعد حدوثها.

أضيف إلى هذه الأسماء، تقاربا بين ما يسمى بالقوى “الحداثية” و هو ما يفترض وجود قوى “رجعية” تؤكد فرضية الثورة المضادة. و هو برأيي تقارب جاء متأخرا بالنسبة الى موعد الانتخابات.

و هنا، عند الامتار الاخيرة من سباق الانتخابات، تجد الاحزاب في نقص من العتاد و أيضا من الخيال، و بعد النظر و اهتمام بالمصلحة العامة، و بقية متطلبات تلك الخصلة التي لا يظفر بها أي كان : القيادة. و لأن العظماء لا يظهرون إلا في الشدائد، فتونس اليوم لا تملك مشروع قائد. أتكون هذه أكبر انتصارات نظام بن علي؟ ابعاد الرجال الاكثر وطنية و التزاما، و محاباة من ظل منهم هنا. تكوين إطارات تنفيذية مروضة تعمل وفق نظام خذ و لا تعارض. لقد رهن بذلك مستقبل البلاد.

كم أود أن أحلم، أن بين عشية و ضحاها، يتحالف أحد الاحزاب “الرجعية” ببعض الاحزاب المنسوبة الى “الحداثة” فيحصلون على اغلبية مقاعد المجلس التأسيسي، و يقدم عقدا اجتماعيا جديدا يجد كل فرد فيه ضالته بفضل تنازلات أطراف التحالف بعضها لبعض.

باختصار لا أريد لتونس أن تكون فرنسا جديدة، أو بريطانيا أخرى أو حتى ولايات متحدة ثانية، تلك اللوحات العملاقة التي يخوض فيها رجال السياسة مواضيع وهمية، بينما يبسط السوق و البنك و الليبرالية القصوى نفوذهم على البلاد تاركينهم ـ اي السياسيين ـ عزّلا في مواجهة شعب غاضب لا يمثلهم.

إلياس غريب

ترجمه من الفرنسية : فاروق الفرشيشي