7.433 مليون قنطار هي حصيلة الموسم الفلاحي التي أعلنتها وزارة الفلاحة، أي ما يعادل ربع حاجيات تونس المقدرة بـ 3 مليون قنطار سنويّا. رقم لم يصل إلى نصف المحصول الذي توقعت وزارة الفلاحة تجميعه، بعد أن قدّرت في ماي الماضي صابة هذا الموسم بـ 18 مليون قنطار من الحبوب.
الاستهلاك الشهري للتونسيين من القمح الصلب الّذي تُصنع منه المعجنات، يبلغ مليون قنطار شهريا. ويُقدّر محصول هذا العام منه بـ 6.683 مليون قنطار، ما يعني أن تونس ستغطّي حاجياتها من القمح الصلب إلى حدود نهاية هذا العام فحسب، وهو ما يفيد بأنّ الوزارة ستلجأ إلى استيراد احتياجاتها من القمح الصلب بداية العام المقبل، حتى تؤمّن حاجاتها بالنسبة للأشهر الخمسة الأولى قبل تجميع محصول الموسم.
خطة ذر الرماد على العيون
تقول وزارة الفلاحة، وفق المعطيات التي مدت بها موقع نواة، إنها أعدت خطة للتخفيف من تداعيات الأزمة الروسية الأوكرانية بواسطة ”صفقة عن طريق التفاوض المباشر بأسعار تفاضلية وتزويد السوق بالحبوب بطريقة استباقية وبأسعار تفاضلية وضمان انتظام التزود“. كما وضعت الوزارة برنامجا لإصلاح منظومة الحبوب يعتمد خطة لتحقيق الاكتفاء الذاتي في القمح الصلب بـ 12 مليون قنطار خلال سنة 2023، وذلك عبر الترفيع في أسعار الحبوب عند الشراء من المنتجين المحليين، مع زيادة الإنتاج بـ 50 بالمائة مقارنة بهذا الموسم والتوسع في مساحات إنتاج القمح الصلب إلى 800 ألف هكتار مقارنة بالمساحات الحالية التي تصل إلى 600 ألف هكتار. كما تعوّل الوزارة على توفير 450 ألف قنطار من بذور الحبوب وضمان التزود بالأسمدة الكيميائية، أكبر المعضلات التي تواجه منتجي الحبوب، بما يقارب 250 ألف طن بالنسبة للأمونيتر و30 ألف طن من الفسفاط و150 ألف طن من مادة ”دي.أ.بي“، وذلك حسب المعطيات الرسمية التي تحصلت عليها نواة.
يقول هيثم الشواشي وهو فلاح من ولاية باجة وعضو في تنسيقية ”فلاحون غاضبون“ في تصريح لنواة، إن خطة وزارة الفلاحة لمواجهة مشكل استيراد القمح اللين والصلب الناتج عن الحرب الروسية الأوكرانية ليست واضحة، مُوضّحًا أنّ الإجراء الوحيد الذي يمكن أن يستحسنه منتجو الحبوب وأن يشجع الفلاحين على زراعة القمح هو تحديد سعر مناسب لشراء البذور والذي قدرته الوزارة بـ 149 دينار للقنطار. ويضيف الشواشي:
أعتقد أن الوزارة مجبرة على اتخاذ ذلك الإجراء لضمان تجميع أكبر كمّية ممكنة من الحبوب من المنتجين، خاصة وأن كثيرا منهم يفضّلون الاحتفاظ بجزء من المحصول لاستعماله إمّا للعلف، وهو خيار فرضته الأسعار المشطة للعلف الحيواني، أو تنقيته من أجل استعماله بذورا في الموسم الموالي. وعموما، فإن قرار الوزارة المتعلق بسعر البذور هو لصالح الدولة في مرحلة أولى حيث ستضمن توفّر القمح في مخازنها بغض النظر عن مشاكل مراحل الإنتاج الأخرى، لكنه في المقابل لن يحل مشكل قطاع الحبوب أو عزوف الفلاحين عن الزراعة لأن أسعار البذور ليست سوى حلقة صغيرة من سلسة مشاكل تواجه قطاع الحبوب، أهمّها غلاء الأسمدة وعدم توفره خاصة الأمونيتر وفسفاط الأمونيوم.
في شهر جويلية من العام الماضي، ارتفعت أسعار الأسمدة الفلاحية بنسبة تراوحت بين 30 و50 بالمائة بسبب اضطراب الإنتاج في المجمع الكيميائي وفي شركة فسفاط قفصة التي أعلنت العام الماضي العمل بالقوة القاهرة. سعر الأمونيتر ارتفع من 430 دينارا للطن الواحد إلى 620 دينارا ووصل سعر طن فسفاط الأمونيوم إلى 690 دينارا مقابل 530 دينارا في العام 2020.
في العام 2022 تعمقت أزمة الأسمدة في تونس بسبب الحرب الروسية الأوكرانية، خاصة وأن روسيا من أكبر مصدري المواد الأولية لإنتاج الأسمدة الزراعية مثل ”فسفاط الأمونيوم“، ومن المتوقع أن تتضاعف أسعار الأسمدة بسبب تلك الأزمة.
يقول هيثم الشواشي لنواة إن سعر القنطار من فسفاط الأمونيوم في العالم تجاوز 300 دينارا. ويضيف: ”استعمل المجمع الكيميائي المواد الأولية مثل الأمونياك التي يتكون منها ذلك النوع من السماد، وصدّر كمّيات من فسفاط الأمونيوم حتى تنتعش ميزانية الشركة في حين أنه كان من الأجدر تزويد السوق المحلية بتلك المادة في ظل الأزمة العالمية“.
ينطلق زرع القمح بداية من شهر أكتوبر ولم تفصح وزارة الفلاحة بعد عن أسعار الأسمدة ولا عن توفر المخزون منها. يقول هيثم الشواشي: ”لا يفصلنا سوى شهران ونصف عن بداية زرع المحصول فكيف ستشجع وزارة الفلاحة على زراعة الحبوب في الوقت الذي عزف منتجون كثيرون عن إنتاجها وتوجهوا إلى الأشجار المثمرة بسبب غلاء الأسمدة والخسائر التي يتكبدها منتجو الحبوب مقارنة مع بقية الفلاحين؟“
من المفترض أن يبدأ منتجو الحبوب في مداواة محاصيلهم في آخر شهر ديسمبر. ويرجح محدثنا أن الدولة التونسية غير قادرة على توفير 400 ألف طن من الأسمدة، خاصة في ظل أزمة المواد الأولية في العالم بسبب الحرب في أوكرانيا. ويقول في هذا الصدد: ”ما أعلمه هو أن مستودعات تخزين الأسمدة فارغة. فنحن لا نملك أكثر من 15 بالمائة من حاجياتنا من سماد الأمونيتر، حيث لم توفر الدولة سوى 12 ألف طن. كما أن تونس واجهت مشكل توريد الأمونياك وتمويله وهي المادة المكونة لسماد الأمونيتر وفسفاط الأمونيوم، ويحتاج منتجو الحبوب إلى 100 ألف طن في شهر جانفي وأعتقد أنه من المستحيل توفير أكثر من ثلث تلك المادة في تلك الفترة“.
سياسة دولة عمقت أزمة الأراضي المشتتة
تعوّل وزارة الفلاحة على توسيع مساحات زراعة الحبوب بنسبة تقارب الثلاثين في المائة، لتصل إلى 800 ألف هكتار العام المقبل مقابل قرابة 540 ألف هكتار. وحسب المعهد الوطني للإحصاء، فإنّ مساحة الأراضي المخصصة لزراعة القمح الصلب تراجعت من 663.3 ألف هكتار في العام 2012 إلى 543 ألف هكتار بالنسبة للعام 2020. أما المساحات المخصصة لزراعة القمح اللين، المُستخدم في إعداد الخبز والحلويات، فقد تراجعت من 126 ألف هكتار سنة 2012 إلى 63 ألف هكتار سنة 2020.
تقول ليلى الرياحي عضوة ”مجموعة العمل من أجل السيادة الغذائية“ لموقع نواة، إن مساحة الأراضي المخصصة لإنتاج الحبوب تتراجع من سنة إلى أخرى. ويعود ذلك إلى التشجيع الكبير على الزراعة التجارية (مثل القوارص والزيتون) على حساب الزراعة المعيشية. وتضيف الرياحي: ”نجد على سبيل المثال لسياسة الدولة في تشجيع ذلك النوع من الزراعات، توسع الأراضي المزروعة زيتونا في مناطق مثل باجة وسليانة“.
تحتل تونس المرتبة 120 ضمن 190 دولة في العالم في إنتاجية زراعة الحبوب حسب المرصد الوطني للفلاحة، وتستورد تونس 50 بالمائة من حاجياتها من الحبوب ومن المتوقع أن تصل تلك النسبة إلى 70 بالمائة حسب المرصد.
وتلخص ليلى الرياحي مشكل تدهور إنتاج الحبوب في تونس بتشتت الأراضي، ما يؤثر في الإنتاجية، وتدهور جودة التربة بسبب مشكل التعرية وتقول:
إن سوء إدارة قطاع الأراضي الدولية، التي تمثل أكثر الأراضي إنتاجية، وعدم احترام منهجية تناوب المحاصيل إضافة إلى التلوث والاستخدام المكثف للمواد الكيميائية، كلها عوامل قلصت من إنتاجية المساحات المزروعة حبوبا.
وتنتقد الرياحي سياسة الدولة في توجيه الموارد المائية نحو المنتجات المعدة للتصدير، و”بالتالي حرمان الزراعات الكبرى من الري اللازم التي عمق تغير المناخ أزمتها، إلى جانب مشكل البذور منخفضة الجودة“ وهو رأي يشاطرها فيه هيثم الشواشي عضو تنسيقية فلاحون غاضبون الذي يقول لنواة: ”رغم أن الدولة أعلنت نيتها توسيع مساحات زرع الحبوب بمائتي ألف هكتار، فإنه يستبعد أن تتجاوز تلك المساحات 60 ألف هكتارا“. ويضيف: ”في العام الماضي زرعنا 520 ألف هكتار ولا أعتقد أننا نملك أراض غير مستغلة تصل مساحاتها إلى 200 ألف هكتار، كما لا أعتقد أنه سيتم تحويل الأراضي المزروعة أشجارا مثمرة لتُزرع حبوبا“. ويوضّح: ”يمكن الوصول إلى تحقيق إنتاجية أفضل عبر توجيه مياه الشمال، التي يستفيد منها أصحاب الأراضي المزروعة أشجارا مثمرة، لكي يستفيد منها منتجو الحبوب في إطار ما يُعرف بالري التكميلي في شهر مارس حتى يضمن الفلاح كميات أكبر من المحصول“.
سياسات وخيارات فلاحية أثبتت الوقائع تقلبها في تونس، ليبقى صغار المنتجين والمستهلكين حلقاتها الأضعف. اليوم، بخطى ثقيلة ونوع من الارتجال، تسعى تونس إلى ضمان تعبئة مخازن حبوبها بداية العام المقبل، مساع تعقدها الحرب على أوكرانيا واهتزاز ثقة الفلاحين في الوعود الحكومية للقطاع. أوضاع تنبئ بموسم فلاحي صعب وسط تحذيرات من أزمة غذائية عالمية، لن تكون تونس في مأمن منها.
iThere are no comments
Add yours