في الوقت الذي اشتكى فيه الأهالي من صعوبة التضاريس واستحالة وصول العربات إليها أحيانا، أفادنا مصدر من داخل إدارة الغابات بجندوبة، رفض ذكر اسمه، أن السبب الرئيسي وراء عدم وصول فرق الإنقاذ من حماية مدنية وحرس غابات هو التفاف الحرائق بالمسالك الغابية من جهتي الطريق وسرعة انتشارها بسبب هبوب الرياح.
الثابت أن اهتراء البنية التحتية للطرقات والمسالك الغابية ومحدودية التجهيزات والإمكانيات للحرس الغابي والحماية المدنية كان عاملا مساهما في توسع حلقات الحرائق وانتشارها في عدة مناطق من ولاية جندوبة وفي مختلف جهات البلاد (باجة، سليانة، زغوان، القيروان، جندوبة، القصرين، الكاف…)، وهو ما لاحظناه على عين المكان وأكّده لنا عدد من الأشخاص الذين استجوبناهم.
لكن قبل أن نتوسع في توضيح عوامل انتشار الحرائق بهذه السرعة وتهديدها لأرواحها وممتلكات الناس وإضرارها باقتصاداتهم التقليدية، يتبادر للذهن سؤال بديهي أساسي: من يقف وراء انتشار الحرائق؟ هل هي عوامل طبيعية مرتبطة بالاحتباس الحراري والتغيرات المناخية، أم أن أغلبها أو بعضها حصل بفعل فاعل؟
مسببات الحرائق
العديد من المؤشرات تثير الشكوك حول عوامل اندلاع الحرائق وما إذا كان المتسبب فيها البشر أو الطبيعة بكل بساطة، خصوصا وأن درجات الحرارة وصلت إلى 49 درجة في ولاية جندوبة وهي أرقام قياسية لم تشهدها الجهة منذ 35 سنة. إلا أن دلائل كثيرة تؤشر على وجود أيادٍ خفية قامت بإشعال النيران في الغابات الجبلية لإقليم الشمال الغربي، لعل من بينها تزامن اشتعال 5 حرائق في نفس الفترة الزمنية يوم الثلاثاء الفارط، 10 أوت، بين الساعة 12:30 والساعة 15:00 بعد الظهر في خمس معتمديات: غار الدماء وجندوبة الشمالية وطبرقة وعين دراهم وفرنانة.
هذا ما يجعل من احتمالية حصول عمل إجرامي أمرا واردا مثلما حصل في ولاية زغوان، حيث تم إيقاف 9 أشخاص للتحقيق معهم، بحسب ما أفادنا به العميد عادل العبيدي المدير الجهوي للحماية المدنية بجندوبة.
وبيّن لنا العبيدي أن الحريق الكبير والهام حصل في معتمدية فرنانة بمنطقة “الزواونة” حيث توجد ثلاثة تجمعات سكنية، “ولا يزال عمل الحماية المدنية وحرس الغابات متواصلا لحد الآن بمنطقة عين الدبة في مفترق بني مطير، وذلك بحراسة وتبريد بعض جيوب النار المتفرقة”.
جريمة إرهابية؟
احتمالية وقوع عمل إجرامي يقف وراء حرائق جندوبة ومناطق أخرى من الشمال الغربي، كما أوضح لنا العميد عادل العبيدي، تتقاطع كذلك مع الفرضيات التي وضعها مدير عام إدارة الغابات، محمد بوفروة. فلئن أقرّ بوجود عوامل طبيعية تقف وراء اندلاع بعض الحرائق إلا أنه أصرّ كذلك على وجود افتعال للعديد منها: “ليست كل الحرائق سببها عوامل طبيعية. صحيح أن الحرارة من العوامل التي أدّت للحرائق، لكن هل يعقل أن في الفترة الممتدة من 1 إلى 14 أوت يحدث 74 حريق من بينهم 17 حريق بالليل”؟ يتساءل محدّثنا، ويضيف: “في جهة سليانة اندلع الحريق على الساعة 4 صباحا وباجة الساعة 2 صباحا، لا يمكن أن تكون إلا بفعل فاعل”. وأضاف: “حريق فرنانة حريق كبير ولا يمكن أن يكون إلا مفتعلا. العقوبات ستكون مشددة وتصل لعشرين سنة سجن وعقوبة الإعدام حسب المجلة الجزائية، هذا دون احتساب عقوبات مجلة الغابات وقانون مكافحة الإرهاب الذي يعتبر تعمّد إحراق الغابات جريمة إرهابية”.
لوحة سريالية
بالعين المجردة وحدها يمكن رصد فداحة الأضرار التي لحقت بالكساء الايكولوجي المتنوع الذي كان يغطي مئات بل آلاف الهكتارات التي أتت عليها النيران ولم تتركها سوى أثر بعد عين.
“الحرائق أتت على الأخضر واليابس” توصيف دقيق لا مبالغة ولا بلاغة مفرطة فيه. ما حصل في ولاية جندوبة ومعتمدية فرنانة خصوصا، هو أفضل تجسيد لهذا المثل على أرض الواقع. اللون الرصاصي طغى على امتداد مساحات شاسعة من غابات بني مطير وعين دراهم وفرنانة، وهواؤها المعروف بنقائه وعطره الغابي اختلط برائحة الرماد الخامد الذي خلفته النيران. الأشجار أو ما تبقى منها اصطبغت جذوعها بالسواد وكأنها في حالة حداد مرير على ما فقدته حاضنتها الجبلية من ثروة طبيعية لا تقدر بثمن. شعور مختلط ومتناقض بالهيبة والانكسار أمام هول هذه الكارثة الطبيعية وإيحاءات دراماتيكية ليس من السهل التخلص منها عند مغادرة المكان.
جرد الخسائر
في هذا الخضم، فقدت العديد من العائلات البعض أو كامل مورد رزقها من أشجار مثمرة وماشية ودواجن وبيوت نحل وعربات ميكانيكية وتجهيزات كهربائية ومائية. الخالة زعرة، امرأة مسنة (88 سنة) تقيم في إحدى التجمعات السكنية على سفوح جبال فرنانة “الروازيق”، تقول “عندما وصلت النار كنت أتفرج فيها من فوق البيت إلى أن وصلت بجانب المنزل والتهمت ألسنتها سيارة حفيدي الي يعيلنا بها “.
وتابعت “لم نهرب وبقينا لإطفاء النيران الملتهبة قرب المنزل. عندي صهريج ماء ملأناه من عين تنبع في الجبل لأن الصوناد ما وصلتناش، أفرغناه كله لإطفاء الحريق وما فلحنا، وواصلت النار التوسع حتى أحرقت زريبة حيوانات أنقذنا أغلبها بصعوبة”.
العميد عادل العبيدي أحصى لــ”نواة” حجم الخسائر النهائية المتوفرة لديهم إلى حدود تاريخ 19 أوت 2021، حيث أشار إلى احتراق 3 بيوت من بينها منزل حصل فيه انفجار قارورة غاز ومنازل أخرى مسّت النيران سياجها الخارجي أو واجهاتها. ولفت أيضا إلى تضرر “22 كوخ معد لحفظ المواد العلفية والحيوانات إضافة للأشجار المثمرة من كروم وزيتون. أكثر من 1200 عود تعرضوا لاحتراق كلي أو جزئي إضافة إلى أكثر من 80 بيت نحل وكمية من المواد العلفية من تبن وعلف وحبوب وفول…”
من جانبه، حدد مدير الغابات حجم الخسائر في فرنانة لوحدها من الكساء النباتي حيث تجاوزت 1500 هكتار من جملة 5.6 مليون هكتار، مساحة الغابات التونسية الاجمالية، التي تعادل 34 بالمائة من مساحة البلاد. ربما تبدو مساحة صغيرة لكن تأثيرها على التوازن الإيكولوجي خطير وكبير.
مواطنة أخرى من معتمدية فرنانة، حصدت بدورها من خسائر الحرائق الكثير والمؤلم، “لدينا بقرتان وبعض الأشجار المثمرة هي كل مورد رزقنا أنا وزوجي العاطل عن العمل، بعت مصوغي من أجل شرائها حتى لا نستحق أحدا، لا دولة ولا بشر، وها نحن اليوم نجد أنفسنا متضررين من الحرائق ومهددين في مورد رزقنا”، وتضيف بحرقة “لم يتبقَّ لنا شيء لا علف للحيوانات ولا أشجار مثمرة، النار أتت عليها جميعا”.
بنية تحتية لم تصمد
من جملة المسالك الغابية التي استعملناها للوصول إلى التجمعات السكانية المعششة في أحشاء الغابات لم يعترضنا مسلك واحد سليم يتوفر فيه الحد الأدنى من مقومات الطريق، تكسّرات وحفر في كل مكان. وعلى جوانب الطريق في عمق الجبل تقبع المخلفات الرصاصية للحرائق كأن حربا مرت من هناك، حرب الطبيعة المهلكة على ضعف البنى والإمكانيات.
كل التجهيزات والمعدات المخصصة لإطفاء الحرائق في ولاية جندوبة لم تكن كافية للقيام بالمهمة، ممّا اضطر الولاية للاستعانة بولايات أخرى للسيطرة على الحرائق. يقول العبيدي لـ”نواة” إن ولاية جندوبة تملك 22 وسيلة إطفاء تم توظيفها جميعا لإطفاء الحرائق وتم تعزيزها بتجهيزات وفرق تكتيكية من ولايات أخرى. مما يعني أن معدات الولاية لم تكن كافية لوحدها للسيطرة على الحرائق، وهو ما يطرح تساؤلات أهمها: إذا انتشرت النيران بشكل متزامن في الولايات التي دعمت مجهودات الحماية في جندوبة كيف سيكون الأمر؟
بحسب المدير الجهوي للحماية المدنية، فإنّ الجيش الوطني “ساهم بطائرتين عسكريتين طائرة مروحية وطائرة عسكرية كبيرة الحجم تنفذان كل يوم أكثر من 12 طلعة لإطفاء الحرائق في المناطق التي لا يمكن الوصول إليها”.
مركز إقليمي للكوارث
في المقابل، ألقى وليد الغزواني رئيس الاتحاد المحلي للصناعة والتجارة وعضو اللجنة المحلية للتنمية بمعتمدية فرنانة اللوم على المسؤولين في مراكز القرار لأنه لم يحصل تدخل في العشر سنوات الأخيرة على مستوى تجهيز البنية التحتية وخصوصا إنشاء حواجز وفواصل نارية داخل الغابات تعطل أو تبطئ انتشار النيران.
وكشف الغزواني لـ”نواة” عن وجود مشروع مركز إقليمي للكوارث يشمل ولايات الشمال الغربي بتمويل من الصندوق الألماني للتنمية GIZ خصصت له وزارة أملاك الدولة 5 هكتارات في منطقة بلاريجيا من ولاية جندوبة كان ليساهم في الحد من آثار الكوارث الطبيعية والتقليص في حجم الخسائر البشرية والمادية، ويغطي النقص في المعدّات، إلا أن البيروقراطية الإدارية وتباطؤ المسؤولين حال دون تنفيذه.
وأوضح محدثنا أن “نشاطات المركز الإقليمي تشمل ولايات جندوبة والكاف وسليانة وباجة، ويتدخل في كل الولايات المعنية بالشمال الغربي سواء في علاقة بالثلوج أو الفيضانات أو الحرائق، وهو ما من شانه- إن تم تنفيذه- أن يساهم في الحد من آثار الكوارث الطبيعية والتقليص في حجم الخسائر البشرية والمادية، ويغطي النقص في المعدات في المندوبية الجهوية للفلاحة والحماية المدنية وحرس الغابات…”.
يبقى في الأخير الإشارة إلى وجود برنامج لغراسة مليون شجيرة بالشراكة بين إدارة الغابات والمجتمع المدني المحلي في جندوبة، ناهيك عن الأشجار والنباتات التي ستنمو طبيعيا بمياه أمطار الشتاء، مما يجعل الأمل قائما بتجدد الكساء الايكولوجي الأخضر من رحم رماد المناطق المحترقة.
iThere are no comments
Add yours