لا يمكن للجيل المخضرم الذي عاش مرحلتين، ما قبل وما بعد الثورة، أن يدرك حجم هذه التحولات إذا لم يتسم بالعقلانية في تعامله مع المعطيات القديمة والمستجدة وبحس النقد عند تحليلها، ولم يترك المسافة اللازمة مع الماضي للتمعن بموضوعية في موروثه الحي والمنسي، ولم ينفتح على التجارب المتنوعة، ولم يتحلّ بالشجاعة لإعادة النظر في مسلماته وفحصها على ضوء الواقع الملموس.
ولعل من أسباب تخلّف اليسار عن تأطير وقيادة الانتفاضات الشعبية، وهو الحامل نظريا لطموحات السواد الأعظم من الناس في السيادة والكرامة والعدالة الاجتماعية والديمقراطية، نجد غياب طرح “من داخل السياق” يستجيب لكل هذه الطموحات ويتطابق مع الواقع الذي تعيشه جموع المواطنين المعنيين بإسقاط النظام القديم وبناء نظام آخر جديد.
يتطرق هذا المقال لجملة من الأفكار طرحها مؤخرا للنقاش العام المناضل اليساري عزيز كريشان في كتاب يحمل عنوانا لافتا للانتباه: “اليسار وسرديته الكبرى، في إدراك الاقتصاد الريعي”[1]، حيث يعرض الكاتب تحليلا عاما لقوى التغيير في تونس والقوى المضادة له في الداخل وفي الخارج. تحليلا جدّيا لما يفتحه من آفاق لنقاش طبيعة المجتمع التونسي والمنظومة الاقتصادية المحلية ومن ذلك إيجاد سبل العمل المشترك من أجل خلق مشروع يساري بديل، يجمع قوى التغيير على قاعدة الانعتاق الشعبي والفردي.
يحدد كريشان في كتاباته المتعددة[2] منذ 2011 الفئات الاجتماعية المُنتِجة المعنية بتغيير النظام الاقتصادي كالآتي:
- الفلاحين والفلاحات والعاملين والعاملات بالقطاع الفلاحي، من مزارعين وصيادين ومربي المواشي، أي منتجي الغذاء بصفة عامة.
- المهمشين والمهمشات، أي الناشطين في الاقتصاد غير المهيكل أو يعملون في أطر غير رسمية.
- الأجراء، من موظفين وموظفات وعمّال وعاملات بالقطاع العام والخاص.
- أصحاب وصاحبات الشركات الصغرى من حرفيين ومهنيين وتجار ومقدمي خدمات وغيرهم.
ويستند في تحديد هذه الفئات إلى سردية الحراك الثوري كما عرفته تونس شتاء 2010/2011 ،الذي استمد زخمه من كل هذه الفئات الشعبية، ووجه رصاصته إلى رأس النظام الذي يمثله بن علي والطرابلسية، دون أن يتمكن من إسقاطه بالكامل.
إن هذا التحليل يضع خطا أفقيا فارقا بين من هم تحت من باحثين عن القوت ومنتجين مساهمين في خلق الثروة ومن هم فوق من السالبين لهذه الثروة عن طريق الاحتكار والمضاربة والريع والاستنزاف. فئة أقلية يطلق عليها الكتاب وصف “الأوليقارشيا الريعية” تلعب دورا مركزيا في التحكم في دواليب المنظومة الاقتصادية والاستفادة منها.
في هذا السياق، نلاحظ أن الفئات المُنتِجة تتقارب من حيث الثقل الاجتماعي (بين 700 ألف ومليون نسمة لكل كتلة[3]) مما لا يترك المجال لتمييز واحدة عن الأخرى اعتمادا على حجمها أو درجة انصهارها وتداخلها مع باقي الفئات[4]. وهي عموما تعاني التفقير الممنهج وتعيش حالة من التأزم المتصاعدة نتيجة المنوال التنموي والنظام الاقتصادي وغياب الديمقراطية. كما تتشارك في مستويات عيش متقاربة تتدرج من الفقر النسبي إلى الفقر المدقع، ولا يمكن القول إنها تعرف صراعات طبقية فيما بينها بقدر ما تمثل كتلة واحدة تواجه خصما مشتركا متمثلا في طغمة ذات طابع كمبرادوري استغلالي، تراكم الثروة دون المشاركة الفعلية في الإنتاج.
تطالب الفئات الأربع المُنتِجة والمسحوقة منذ الانتفاضة بثورة حقيقية، وهو ما يعني تغييرا جذريا للنظام الاقتصادي ولعلاقات الإنتاج والمنوال التنموي. وحتى تكتمل الصورة، وجب إضافة الفئة الناشطة المقصية أصلا من الإنتاج والمتكونة من جموع المعطلين والمعطلات عن العمل وهي دون شك أولى الفئات المعنية بالتغيير (رسميا 725.000 عاطل[5]، في الواقع قد تفوت المليون).
المنوال التنموي : تقييد الانتاج وإفراز الريع
عرف الاقتصاد التونسي منذ الاستعمار تحولات عميقة أتت على الديناميكيات العمرانية التقليدية المرتكزة على القطاعات “الطبيعية” وفق قول ابن خلدون وهي الفلاحة المعيشية، والحرف والمهن والفبريكات، والتجارة الداخلية والحدودية، كما وضع مناويل إنتاج مُبرمجة لإستيفاء حاجيات السوق الفرنسية، تعتمد أساسا على الفلاحة الأحادية والصناعات الاستخراجية.
كانت هذه اللبنات الأولى التي بُنِيَ عليها المنوال التنموي بعد الاستقلال، ثم واصل كل من بورقيبة وبن علي بعد ذلك اعتماد نفس التوجهات، متكئين على المؤسسات المالية العالمية، مطبقين إملاءاتها، ومستهترين بالتداعيات الاجتماعية والبيئية المنجرة عنها وبانعكاساتها على السيادة الوطنية.
ويمكن تلخيص توجهات المنوال التنموي التونسي الحالي في النقاط التالية:
- الإبقاء على الأجور في أدنى المستويات
- التحكم في أسعار المواد الغذائية الأساسية
- كبت القطاعات الطبيعية (العضوية)
- تمويل التنمية عبر التداين الخارجي
- الاستثمار في المشاريع الكبرى المندمجة في الاقتصاد المعولم
- توجيه الموارد الطبيعية والبشرية والمالية نحو المنتجات والخدمات ذات الميزات المقارنة في الأسواق العالمية
- استجلاب الاستثمار الأجنبي وفتح الأسواق
- التقشف في الإنفاق العمومي وخوصصة المرافق العمومية والحد من قدرات الإدارة.
وهي توجهات قد تبدو ليبيرالية للوهلة الأولى، غير أن جهاز الدولة مازال يلعب دورا مركزيا في تسيير الاقتصاد الرسمي، فهو يسيطر على جل الموارد الطبيعية وجزء لا باس به من الأراضي المنتجة، ويتحكم في القطاعات الاستراتيجية عبر الشركات العمومية والدواوين وغيرها من المؤسسات والمنشآت. وبالرغم من تقلص دور الدولة الاجتماعي بفعل سياسات التقشف وتخليها عن ممارسة سياسة مالية سيادية وعن حماية السوق المحلية، إلا أنها ضاعفت قدرتها على توجيه نظم الإنتاج والتبادل تدريجيا نحو الاندماج في السوق العالمية، أساسا عبر التداين.
فعلى سبيل المثال، نجدها تستثمر أكثر فأكثر في إنتاج الفسفاط وتكريره، وفي دعم الفلاحة الأحادية الموجهة للتصدير ودعم قطاع الخدمات التجارية services marchands والسياحة والبناء الموجه للنخبة، في مقابل كبت وتهميش الفلاحة المعيشية والحرف والسكن وغيرها من القطاعات الأساسية والحيوية. لذلك، يمكن اعتبار ما يعيشه اقتصادنا أقرب للتقييد والتوجيه منه للتحرر أو الليبرالية.
لم يفض هذا تمشي إلى خلق طبقة بورجوازية محلية بالمعنى الماركسي للكلمة، أي طبقة رأسمالية تمتلك أدوات الإنتاج وتستغل اليد العاملة المحلية وتتنافس على الأسواق عبر تطوير الإنتاج والمخاطرة. بل إن هيمنة الأنظمة الاستبدادية على الحكم واستفحال الزبونية والفساد، أفرز طغمة غنائمية يقتصر دورها على التموقع على مقربة من مراكز القرار والاحتماء بالسلطة السياسية واستعمال أجهزة الدولة للتوسع اقتصاديا ولعب دور الوسيط للمستثمرين الأجانب لدخول السوق التونسية أو لاستغلال الموارد المحلية. وأصبح القرب من السلطة أسهل وأنجع وسيلة لمراكمة الثروة، خاصة مع تدهور قيمة العمل، وهي الظاهرة التي يصفها كريشان “بالريع السياسي”.
من ناحية أخرى، أفضى هذا التمشي إلى تبعية اقتصادية عميقة تتمظهر في فقدان السيادة الغذائية والتدحرج إلى أسفل سلسلة القيمة المضافة واندثار القدرة على التخطيط الاقتصادي بمعزل عن “المساعدات الفنية”، وخاصة التعويل على الديون والارتهان للممولين. لكن المظهر الأخطر للتبعية يتمثل في ما نرثه من قيود على نظم الإنتاج (البنية التحية الموجهة، القوانين، النظام التعليمي، الاتفاقيات المجحفة، الحاجة الكبيرة للاستيراد…) وُضعت رويدا رويدا على مدى خمسين سنة عبر آليات القروض والهبات وبرامج التأهيل والتكييف.
يمتاز منوالنا الاقتصادي إذن بضعف قيمة العمل والتقيُّد بأجندات خارجية والانسياق الأعمى وراء سياسات التبادل الحر وتهميش القطاعات الطبيعية والتركيز على القطاعات الثانوية والريعية والاستنزافية. وهو منوال غير منتج ولا يخلق مواطن شغل، ومكبل للاقتصاد الطبيعي العضوي ومُفقر للعامة ومتسبب في كوارث اجتماعية وبيئية وحتى ثقافية لا تحصى ولا تعد. إن إعادة النظر فيه مسألة على غاية من الاستعجال والأهمية لكنها تعني مواجهة مباشرة مع الطغمة الطفيلية المتمعشة منه التي لا مصلحة لها في تغييره، بل تعمل بنسق حثيث على الإبقاء عليه ومزيد تكييفه لصالحها.
[1]La gauche et son grand récit. Comprendre l’économie rentière. Editions Mots passants, 2021, Tunis.
[2] La promesse du printemps. Editions Script, 2016, Tunis ; L’autre chemin. Editions Script, 2019, Tunis.
[3]أرقام تقريبية نظرا لغياب معطيات حول القطاع غير المهيكل. يحدد المعهد الوطني للإحصاء كتلة الناشطين بـ4.150.000 نسمة، مقابل 3.300.000 موطن شغل رسمي.
[4]الأستاذ الموظف يعطي دروسا موازية والعامل يمارس الفلاحة والمعطّل يشتغل في السوق السوداء والبوليس يمتلك رخصة تاكسي ومسدي الخدمات يتأرجح بين النشاط الرسمي والخفي الخ.
[5]المعهد الوطني للاحصاء، فيفري 2020
iThere are no comments
Add yours