تحول مجلس شورى النهضة في دورته ال44، الذي انعقد يوم 15 نوفمبر، إلى محطة من محطات التصعيد الذي يمارسه أبناء النهضة فيما بينهم، فقد شهدت أشغال المجلس انسحابا لثلث أعضاءه من المناهضين لراشد الغنوشي احتجاجا على تجاهل مطالب تيار داخل النهضة يطالب بضرورة تطبيق القانون وتحديد موعد للمؤتمر الحادي عشر للحركة وعدم تحوير القانون الأساسي للحركة بما يسمح لرئيسها راشد الغنوشي بالترشح لولاية أخرى. هذا الانسحاب يُعد سابقة داخل النهضة التي تعودت استيعاب الاختلافات خاصة داخل أعلى سلطة في الحركة بين مؤتمرين وهي مجلس الشورى. لكن تعاملت القيادة المتنفذة الموالية لراشد الغنوشي بنوع من اللامبالاة مع هذا الانسحاب واختارت سياسة الهروب إلى الأمام في تعاملها مع خلاف محتدم داخل الحزب الأول في البلاد، في ظل مبادرات تقدمت بها قيادات حالية وسابقة في النهضة لتقريب وجهات النظر بين الفرقاء.

مجلس الشورى وسياسة الهروب إلى الأمام

اتخذ مجلس الشورى خطوة تصعيدية أخرى في مواجهة مجموعة “الغاضبين” يمكن اعتبارها هروبا إلى الأمام وذلك عبر تأخير موعد انعقاد المؤتمر الحادي عشر وذلك نظرا “للحالة الوبائية التي تمر بها البلاد والإجراءات المتخذة من طرف الحكومة، وبعد الاستماع لعرض اللجنة الصحية التابعة لمجلس الشورى وتوصياتها”، على أن تتعهد لجنتا الإعداد المضموني والمادي واللجنة الصحية باقتراح موعد لاحق يأخذ بعين الاعتبار ما تقرره الهيئات الصحية للبلاد حسب بلاغ مجلس الشورى. بالإضافة إلى عدم التطرق إلى مسألة تنقيح القانون الأساسي والسماح لراشد الغنوشي بولاية أخرى على رأس الحركة، مع إدانة واضحة للتصريحات الإعلامية التي “تنال من مكانة الحركة وقيمها وشؤونها الداخلية” ودعا إلى ضرورة الالتزام بالميثاق الأخلاقي ورحابة الصدر وانتهاج أسلوب الحوار والالتزام بما تقرره مؤسسات الحركة حسب نص البيان. مع إشارة باهتة إلى المبادرات التي تقدمت بها قيادات نهضوية ووجوب تقديم “المشاريع والمبادرات المقدمة من أبناء الحزب حصريا إلى اللجنة المضمونية”.

وعملت النهضة بعد ذلك على التقليل من أهمية انحساب مجموعة الغاضبين من اجتماع مجلس الشورى حيث نفت انسحاب ثلث الأعضاء موضحة أن ” 24عضوا فقط في مجلس الشورى انسحبوا من أشغال هذه الدورة احتجاجا على جدول الأعمال وأن المنسحبين لا يمثلون الثلث خلافا لما ذكرته مصادر إعلامية وهم فقط 24 من جملة  111عضوا سجلوا حضورهم في الأشغال حسب بلاغ الحركة. وفي المقابل ذكرت مصادر أخرى أن عدد المنسحبين بلغ ثلث أعضاء مجلس الشورى وذلك بسبب رفض مطالبهم وهي وضع نقطة في أشغال مجلس الشورى للتباحث في الشأن الداخلي للحركة وموضوعا لانقسام الحاصل ومستقبل رئيس الحركة راشد الغنوشي ومسألة تطبيق القانون ومنعه من ولاية أخرى على رأس النهضة. لكن المسألة التي دفعت بالغاضبين إلى الانسحاب هي تضمن جدول الأعمال لنقطة تتعلق بمحاسبة من أدلوا بتصريحات إعلامية تخص الشأن الداخلي للحركة في إشارة إلى مجموعة الغاضبين الذين أدلوا بتصريحات إعلامية للحديث عن الوضع الداخلي للنهضة  ومهاجمة راشد الغنوشي والدائرة المحيطة به. هذا التوجه الذي انتهجته قيادة الحركة واجه انتقادا شديدا من قبل الغاضبين الذين اعتبروا أن القيادة لجأت إلى سياسة الهروب إلى الأمام والاستقواء بمؤسسات الحزب.

ويُذكر أن مجموعة الغاضبين تبلورت بشكل واضح بعد رسالة داخلية وجهها 100 قيادي في حركة النهضة إلى القيادة المتنفذة عبرت فيها عن رفضها رئاسة الحركة مدى الحياة وطالبت بتطبيق القانون الأساسي ومبادئ الديمقراطية وتحديد موعد للمؤتمر الحادي عشر للحركة، وتهدف هذه المجموعة إلى قطع الطريق أمام مساع يقودها قياديون مقربون من راشد الغنوشي لتمكينه من ولاية أخرى على رأس الحركة.

مبادرات ووساطات

في الآونة الأخيرة انطلق مسار آخر من المبادرات التي تهدف إلى تقريب وجهات النظر بين “الإخوة الأعداء” وتسعى إلى تهدئة الأجواء واحتواء الأزمة التي انتقلت من كواليس النهضة إلى وسائل الإعلام، وهو ما لم تتعود به النهضة التي تتميز بانضباط تنظيمي كبير يستوعب الخلافات. لكن هذه المبادرات لا تتضمن حلا نهائيا للأزمة بل يهدف جميعها إلى ترحيل الأزمة لسنة أو سنتين لمزيد ربح الوقت وفسح المجال أمام ترتيب البيت الداخلي قبل المرور إلى مرحلة ما بعد راشد الغنوشي.

انطلق مشوار الوساطة بمبادرة تقدم بها القياديان في حركة النهضة عبد الكريم الهاروني (رئيس مجلس الشورى) ورفيق عبد السلام (مقربان من راشد الغنوشي) واختارا لها عنوان “من أجل مؤتمر توافقي يجدد مشروع النهضة ويحقق التداول القيادي”. هي مبادرة تتلخص في تأجيل انعقاد المؤتمر لمدة تتراوح بين سنة ونصف إلى سنتين وذلك عبر مصادقة أو استفتاء الأعضاء من قبل مجلس الشورى وهو ما يعني بقاء راشد الغنوشي على رأس الحركة، وتدعو مبادرة الهاروني أيضا إلى الفصل بين رئاسة الحركة والترشح للمناصب العليا في الدولة بعد انتخابات 2022، ومن ذلك الإعلان رسميا في المؤتمر القادم بأن زعيم الحزب هو المرشح الرسمي للمناصب السيادية في الدولة.

هذه المبادرة رفضها الشق المناهض لراشد الغنوشي على لسان القيادي محمد بن سالم الذي اعتبر أنها مبادرة “وُلدت ميتة وهي ضحك على الذقون وغير مقبولة أخلاقيا وهي تسعى إلى إعطاء مخرج لرئيس الحركة”. وعبر بن سالم عن تمسك التيار الذي ينتمي إليه بضرورة منع الغنوشي من المواصلة على رأس النهضة بعد مؤتمرها الحادي عشر بالقول إن “القوانين يجب أن تُطبق على الزعماء وعلى الزعماء إعطاء المثال في تطبيق القوانين ولا سبيل لديمقراطية دون أحزاب ديمقراطية”. وللتذكير فإن محمد بن سالم هو وجه بارز من التيار المناهض لراشد الغنوشي داخل النهضة وأحد القياديين الذين أمضوا على “رسالة المائة قيادي” والتي تطالب بتطبيق القانون ومنع الغنوشي من الترشح لمدة نيابية أخرى.

وفي السياق نفسه توجه القيادي السابق في الحركة ورئيس الحكومة الأسبق حمادي الجبالي الاثنين 9 نوفمبر 2020 برسالة إلى راشد الغنوشي اقترح فيها عودته كأمين عام، وهو المنصب الذي كان يشغله قبل استقالته، كما دعا إلى “احترام القانون الأساسي الخاص بالحركة” وعدم ترشح رئيسها الحالي راشد الغنوشي “من اجل إيقاف النزيف”. وقال الجبالي في رسالته “من مقتضيات ذلك أن يعبر رئيس الحركة عن التزامه بتطبيق جميع فصول القانون الأساسي للحركة وعدم نيته تغيير أي فصل فيه وأن المؤتمر القادم هو الذي سيحدد مستقبل الحركة”.

هي مبادرات تبدو في ظاهرها “مجمعة” وتسعى لتقريب وجهات النظر بين أبناء النهضة، لكنها تهدف في الآن نفسه إلى ضمان موقع مناسب لراشد الغنوشي أو على الأقل ضمان خروج مشرف له دون الأخذ بعين الاعتبار لأصوات “مجموعة الغاضبين” الذين يمثلون جزءا هاما من القيادات التاريخية للحركة الإسلامية في تونس.