بقلم لطفي عيسى، أستاذ بجامعة تونس

 

تتسارع وتيرة اهتمام التونسيين وتركيزهم اللافت على الشأن العام بالتوازي مع اقتراب المواعيد السياسية الهامة واستحقاقاتها الانتخابية والدستورية. وهو تصرّف صحي بالقياس إلى قيمة الرهان الذي أفرزه سجال النخب المعرفية والثقافية حول ما تم التواضع على تسميته تيمُّنا بما سبق لعدة بلدان من جنوب أوروبا أن عاشته ونقصد أسبانيا والبرتغال بالأساس بالانتقال الديمقراطي.

هناك جدال حقيقي غير مسبوق حول إجرائية جملة من المفاهيم ومدلول عدد من المصطلحات السياسية والقانونية والفلسفية، وكذا الأمر بالنسبة لمجموعة من الظواهر التي تحيل على مجال المعارف المتصلة بعلوم الاجتماع أو تلك التي لها ارتباط بالاقتصاد السياسي. هذا السجال الذي تحاول أجهزة الأعلام بمختلف أشكالها ملاحقته واستيعاب ناشطيه وفق تقنيات تبسيط وتقريب لافت، يبدو فاتر الصلة بذاكرة الممارسة السياسية التونسية القريبة العهد بدولة الاستقلال أو المتصلة بتاريخ مرحلة الاستعمار الفرنسي فضلا عن الإحالة على تجارب مغايرة قابلة للمقارنة لها اتصال بالمجالات المغربية والمشرقية والمتوسطية.

قد يذهب في ظن الكثير منّا أن الحديث في هذا الشأن خاصة إذا ما تعلق الأمر بتعريف الدساتير وتقريب دقائق تصريفها، مجال مقصور على المختصين في فقه القانون دون غيرهم، وهو فهم أولي مباشر وجد تعبيره تونسيا في مختلف الهياكل التي تم إحداثها بالتوازي مع إزعاج رأس النظام السابق عن البلاد، وتواصل نشاطها بعد ذلك في مرافقة عمل الساسة من داخل السلطة أو من خارجها. هذه المرافقة على محورية المسؤولية الملقاة على عاتق من تولّوها وجسامتها في آن، تبدو لنا اليوم بالنظر إلى ما أفرزه السجال الحامي الدائر حول طبيعة صلاحياتها، وهو سجال لم يستثنى منه أولئك الذين أسعفتهم دواعي المحاصصة إلى الالتحاق بتركيبتها، غير مؤهلة لاستيعاب مواصفات اللعبة السياسية التي تتعدى الضغوط المتصلة بإدارتها حيّز تلك الهيئات المتخصّصة مما يؤذن بانسلاخ تلك الأطر خلقا غريبا عصيا عن التعريف أو التصنيف.

فعلى أهمية الحلول التي تم التوصل إليها بعد انكشاف السيناريوهات المتاحة وتحوّل القصبة إلى بؤرة للضغط على بقايا النظام السابق بتعالي الأصوات الداعية صراحة إلى ضرورة القطع معه حسا ومعنى، تم اللجوء إلى ما احتفظت به مؤسسة الدولة البورقيبية من رموز بعد اختبار القابل منها للاحتفاظ به قياسا لمن جاوزته الأحداث وأبلاه التقادم. ويعكس هذا التوجه الذي انطوى على قدر غير خافي من الحسّ السياسي بالنظر إلى طبيعة التجاذبات المكتومة التي أفرزته، محورية الترميز في استعادة حد معقول من شرعية العمل السياسي. إذ كشفت عودة السياسي بعد تعنّت مسرف في إقصائه عن حاجة طبيعية غالبت ذلك الفعل مستعيدة موقعها الطبيعي، حتى وإن حصل ذلك من بوابة الحكامة دون المنافسة تفاديا لفوضى الصراع المتفصّي عن جميع الضوابط.

لقد حملت عودة السياسي إلى الصدارة في طياتها ذاكرة الممارسة السياسية تلك التي شملها التدوين وهو دلالة بليغة عن حضور الفعل وانطباع صورته في ذاكرة من أنجوزه، مستأنسا حضور عبرة ما في العكوف على التدوين أو الانقطاع إلى النقل. وهو أمر بالغ الأهمية أيضا يؤشر الحرص على إتمامه على حضور إدراك لقيمة ما انطوت عليه التجربة الشخصية، وكذا الفائدة المنتظرة من تحويلها إلى متقاسم جمعي.

ومثلما كان مأمول فإن الوقْع الايجابي للاعتراف بمحورية الثقافة السياسية في تسهيل تصريف الشأن العام قد ولّد إجماعا سحريا وأكسب الممارسة السياسية أفق واسعا لم تفلح عقلية الانقطاع المكدود إلى العمل بتنويع الخطط الاقتصادية وحث نسق بعث المشاريع الجديدة والضخمة في تحقيقه.

نزعت ذاكرة الممارسة السياسية إذن في إعلانها عن نفسها إلى تعْليم (والمقصود وضع علامة طبعا) مجال الخطاب السياسي باستعراض جملة من الأخبار تحمل مواعظ غير خافية عن كل أذن منصتة وعين بصيرة: فمن حكمة القرآن في اندهاشه من تجرؤ الإنسان الناقص الموسوم بالجهل وظلم النفس حال تحمل أعباب الأمانة تلك التي أشفقت الجبال والسموات من حملها، إلى بليغ حكمة الأولين الـمُعربة عن تردي من تصدر لتحمل نفس تلك الأمانة من سمو مرتبة الراعي إلى جفاء التصرف الغريزي المغرق في الحسيّة عبر الإقدام على أكل من سلّموا رقابهم طوعا أو كرها لمطلق أحكامه، تبدو الاستعارة المعلِّمة للخطاب السياسي مشدودة ومع تمسّكها بموفور سجل التقاليد قرآنية كانت أم وضعية، إلى إعادة موضعة موقع الفرد في علاقته بالفعل السياسي.

فهل نجن إزاء عودة السياسي من بوابة الخطاب الوطني كما أرسته التجربة السياسية البورقيبية في إصرارها على إعلاء القيم الفضفاضة للوطن عن جميع ما سواها؟ أم أن الإيماء بالتمايز مع تلك المدرسة السياسية المجدِّدة من خلال الاعتراف بالتوفر واقعيا على حدّ غير قليل من “نكران الذات”، تلميح ذو دلالة بليغة على تبدّل الأحوال وإدراك صحي لمسار الشعوب كما الأفراد المكدود والمضني على درب التحرّر من ربقة المواضعات المفروضة الممثِلة بزعم مروجيها لوجهة نظر الجماعة أو الأغلبية صامتة كانت أم ناطقة؟ ليس في توجهنا وعكس ما قد يتبادر إلى ظنّ البعض أي رغبة في استشراف ما ستؤول إليه أوضاع البلاد السياسية في مقتبل الأيام أو الشهور، فذاك مجال يحتاج إلى رصد معرفي ميداني للساحة السياسية لا يمثل بالضرورة، وفي الانعدام المربك لمراكز البحث والتكوين في العلوم السياسية ببلادنا، شاغل المختصين في التاريخ المعاصر أو في تاريخ الزمن الآني وكذا فيما ينعت بـ”تاريخ الحركة الوطنية”. ما دفعنا حقيقة إلى استحضار جانب من الواقع المعقد للساحة السياسية التونسية هو علاقة مختلف الفاعلين ضمن مشهدها المتعدد المشارب حاضرا بالخطاب التاريخي بما هو استعادة استكشاف لموقع الفرد ضمن الفعل الجماعي. فخلال سنوات الاستقلال الأولى وحتى نهاية التجربة البورقيبية لم يكتب لما تمت مراكمته من معارف تاريخية – على قيمة ما أنجز من أبحاث- أن يتجاوز ومن منظور أفق التعبير عن الفرد، مستوى التشديد على تأصّل تقاليد المركزة السياسية من خلال ديمومة حضور جهاز الدولة وتعرية مقاصد المدرسة التاريخية الاستعمارية والإرزاء بتصوراتها المنحازة بخصوص سيطرة الطابع البدائي على التنظيمات الاجتماعية أو تعارض تعاليم الديانة الإسلامية مع مقتضيات الحداثة. هذا التوجه الذي ركّز سياسيا – وكما كان منتظرا- على ضرورة استعادة الدولة لهيبتها هو الذي انبثّ بشكل لافت ضمن الخطاب التاريخي، حتى وإن لم يشكل توافق الفاعلين حول مثل تلك الحاجة خروجا فاضحا عن ضوابط العلاقة التي ربطت بين العالم ورجل السياسة كما أفاض في تحديد مقتضياتها عالم الاجتماع الألماني ماكس فبر Max Weber.

على أن ما عاينته تلك المعرفة منذ حلول تسعينات القرن الماضي بالتوازي مع ما أدركه العالم من تحوّلات فارقة وثورات معرفية غير مسبوقة: من نقلة باتجاه الانفتاح على الشواغل الحضارية والثقافية والفكرية ومعاودة زيارة التراث الإنساني من بوابة إعادة الاعتبار للبحث الميداني ومراجعة الحواجز الزمنية والمجالية المشوبة بطابع مدرسيّ وربط الاحتكام إلى تصوراتها بالقدرة على إعلاء قيم التثاقف والتمايز مع جميع التصورات المدافعة على هيمنة تاريخ الغرب الأوروبي، هو ما لا نجد صدى له خارج إطار قلة من المتنورين، شكلت فئة مستعصية عن التنميط أقصيت تعسّفا أو استقالت اختيارا عن ممارسة أي نشاط مدني أو سياسي خاضع للوصاية. لذلك لم يُكتب لخطابها الخروج عن تلك الدائرة الضيقة التي تحوّلت علاقتها بالفعل المدني أو السياسي بالتقادم إلى “جمالية” نضالية تأبى أن يتحوّل النزول إلى الساحة العامة إلى ممارسة ممنهجة ومقصودة غرضها الأوحد مزيد التسوية إلى أسفل.

وهو أمر لم يكن أصحاب القرار أو المساهمين في صنعه تونسيا ذاهلين عن حساسيته اعتبارا لموقعة الخطاب الرسمي على إغراقه في الخشبية ضمن إحداثيات نوّهت تضليلا بفتح مجال الحريات ودعم ثقافة حقوق الإنسان وصون المؤسسات والدفاع عن كونية القيم، حتى وإن أخفق صانعوا ذلك الخطاب والمروّجون له في التفطن إلى مدى كارثية الهوة التي فصلتهم فكرا وممارسة عن معاني ذلك الخطاب وتعطيلهم الصارخ وعبر تشغيل آليات “مخزنة” مستنسخة وانتهازية مَهِينَةٍ لتجدّد النخب السياسية سواء من داخل الجهاز الحاكم أو حتى من خارجه بحكم الإسراف في التسلط والمراقبة اللصيقة والوصاية السافرة.

هذا الواقع هو الذي تبدو عناصره وفي غياب أفق يعيد للخطاب السياسي ألقه الإنساني كما صاغ أسسه الاجتماع البشري غربا وشرقا، عصية على الفهم.

والمضنون بعد هذا أن طبيعة المشهد السياسي التونسي ستبقى مرشّحة وفي غياب الحاجة إلى المراجعة أو المحاسبة الشخصية وابتسار الفعل السياسي وثقافته في تشغيل آليات التخوين والتذنيب والإثارة الفجة إلى الإغراق في المزايدة والدفع باتجاه الانقلاب على جميع إمكانيات التوافق بغرض التموضع ضمن الصفوف الأولى تحفّزا للاستفراد بالفعل والقرار السياسيين.

أليس في مشهد على هذه الشاكلة عبرة تُستجلى مؤيدها أن السياسة في المقام الأول مدرسة للسلوك العملي تكمن عبقرياتها بامتياز في “نكران ذات” حقيقي يفتح طريقا غير مسلوك لفهم نفسيّة الأفراد استكشافا لما يعتمل في خلد “نحنهم الجمعي”، واستحثاثا للقبول بالحلول التوفيقية بالتعويل على التبسيط والتكرار وسعة الصدر. إنه فن الممكن يسوس الكافة للقبول بناقص الفعل البشري، مع اعتبار السعيّ للاحتساب أو طلب المستحيل مؤشِّرا بليغا على نقص شخصي في القدرة على التواصل وقلة نجابة في فهم المخاوف واستباق خروجها بالتعاظم عن كل ضبط.