بسم الله الرحمن الرحيم

أن أتموقع اليوم في مدرسة النهضة وخارج الحزب كهايكل مهجرية ,ذاك مما ارتأيته حاضرا وبالأمس القريب عندما قدرت ضرورة احداث حراك في الساحة السياسية والخروج عن حالة الجمود السياسي التي لازمت التيار طيلة أكثر من عشرية
يوم أن اتخذت قرارا مؤلما بتجميد العضوية من النهضة الى أجل غير مسمى ,كان يراودني يومها شعور بأن الحركة ق! د تحولت في واقعها المهجري الى شكل من أشكال جمعيات حقوق الانسان أو الروابط الحقوقية التى لم يعد مجال ابداعها عوالم السياسة والثقافة والفكر وانما اضطرتها السلطة حقيقة عبر الامعان في سياسات القمع المتواصل الى مرحلة من مراحل الدفاع المستميت على حق أبنائها في العيش الكريم والتمتع بأبسط حقوق البشر كالحرية وحق العمل والدراسة والعلاج والتنقل الحر بين الجهات وليس البلدان ثم الحرص على انقاذ أبنائها من الموت البطيء وراء القضبان الحديدية
ولعلني أكون منصفا اذا قلت بأن النهضة كحزب لم يتح لها الخيار في غير ذلك وانما العتاب على الأحباب قد يكون أحيانا من باب الرغبة في ايجاد ألوان طريفة وابداعية من الاجتهاد السياسي تخرج تونس والتونسيين من طور النضال الحقوقي الى طور النضال السياسي الحقيقي
مرت بلا شك فرصة تاريخية ضائعة على كل من أدار شؤون الحكم في تونس يوم أن كان الحديث عن المصالحة الوطنية سوقا رائجة تغري الكثيري! ن ولاسيما بعد ان اتجهت دفة الأمور في كل من المغرب والجزائر وموريطانيا وربما حتى ليبيا في مرحلة ما الى مسار الاصلاح,أذكر أيامها تصريحات ليبية من سيف الاسلام تبشر بفجر ليبيرالي جديد ووثبانا من المجلس الوطني العسكري في موريطانيا بقيادة الأعلى ولد الفال قصد تصحيح فلتات ونزوات ولد الطايع ,كما أذكر أيامها حراكا جزائريا عظيما باتجاه العفو العام واستئناف مسيرة الأمن والطمانيينة والنماء بقيادة الرئيس عبد العزيز بوتفليقة عجل الله بشفائه ,ولايفوتني أيضا ذكر الخطوات الاصلاحية المتسارعة التي أقدم عليها الملك محمد السادس الذي أثبت اقتدارا كبيرا على فهم روح العصر ومتطلبات النماء الحقيقي عبر فتح تحقيق حول ملف اغتيال الزعيم الراحل المهدي بن بركة والتأسيس للجنة الانصاف والحقيقة التي عهد اليها بالتحقيق في جرائم حقوق الانسان التي وقعت منذ أيام الاستقلال أضف الى ذلك اصدار قانون أساسي يجرم التعذيب ثم الاعتراف بأحزاب سياسية جديدة غطت كل الطيف السياسي المغربي تقريبا والتي شاركت بدورها في أكثر من استحقاق سياسي عاشت فيه المغرب الأقصى درجات عالية من الشفافية
واذا كانت الأحداث في مصر يومها تعج ببصمات حركة كفاية الا أنه واحقاقا للحق أن مصر المحروسة لم تعرف منذ بداية الثمانينات حالة من القمع الفكري أو الثقافي أو السياسي كما عرفتها تونس منذ أن استبشر التونسيون بازاحة الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة
حيث أن المتأمل في المشهد المصري يدرك جيدا أن مساحات العمل السياسي أو الأهلي تعتبر جد واسعة حتى وان بدى الحزب الوطني مهيمنا على ساحات المجالس المنتخبة ويكفي لنا أن نراقب المكتبات أو النقابات أو الفضاء الجمعياتي أو الحزبي او حتى الاعلامي حتى ندرك عمق هذا الثراء
وبلا شك أن المحروسة قد عرفت توترات أمنية نرفضها دينا وعقلا وخلقا وندينها بكل المعايير السياسية والانسانية والاسلامية ,الا أننا وبالقدر الذي نستنكر فيه تعديات وقعت على حقوق الانسان فيها بالقدر الذي ننوه الى أن الأسلوب المسلح الذي اعتمدته بعض الجماعات الديني! ة فيها كان من قبيل الجرائم المرتكبة في حق المجتمع والانسانية ,اذ ان مظالم السلطة لا تبرر الاعتداء بكل المعايير على ضيوف البلد وزواره من السواح الأجانب أو حتى من المنتسبين الى جهاز الأمن الذي وان أجحف في استعمال القوة الا أنه يظل العماد الأساسي للحفاظ على الأمن والاستقرار في أي بلد من العالم
وأحمد الله تعالى أن ماجرى في أقطار مجاورة أخرى كالجزائر ومصر لم يكن ليحدث في تونس بفعل عاملين أولهما وعي المعارضة التونسية دون تخصيص بمخاطر مثل هذه الأساليب ولا أخلاقيتها والاثام العظيمة المترتبة عنها والعامل الثاني وقوف السلطة والمجتمع والنخب سدا منيعا في وجه الأفكار العنيفة والمستوردة
غير أن وقوف السلطة بحزم لمثل هذه الأفكار لاينبغي أن يكون مبررا لما حدث على مدار أكثر من عشرية من انتهاكات صارخة وتعد واضح وفاضح على الكرامة البشرية
بل ان تمسك النهضة بالخيار السلمي والأساليب المتعاهد عليها عالميا في العمل السياسي التنافسي الشريف كان حريا أن يدفع القائمين عليها أي السلطة وحتى قادة الجهاز الأمني الى مكافأة هذه الأخيرة بحالة من حالات الاعتراف المتبادل على الشاكلة المغربية أو المصرية أو الجزائرية ,حيث تبرز في هذه الأقطار كما في أقطار عربية واسلامية أخرى كالأردن واليمن والكويت وتركيا وماليزيا وأندونيسيا… حالة اعتراف واضح بمزايا تشريك أحزاب مثل
حركة مجتمع السلم أو حركة الاصلاح الوطني أو النهضة أو العدالة والتنمية أو الاخوان المسلمين أو الرفاه أو تجمع الاصلاح
لست أدري لمذا تقف عجلة التاريخ فقط عندنا في تونس ,اذ أن كل المنطقة تقريبا تتجه الى التغيير في التعاطي مع هذا الملف منذ مايزيد عن العشريتين أو الثلاث في العالم العربي ومنذ مايزيد عن العقود ا! لأربعة في بقية مناحي العالم الاسلامي
وحتى تركيا الموطن الأول للعلمانية في العالم الاسلامي حيث مازال أتاتورك يحكم من قبره ,شقت طريقها الى علمانية معتدلة منذ عقود ليستقر الأمر على القطع مع الانقلابات العسكرية منذ أن قرر البلد الدخول بعضوية كاملة الى الاتحاد الأوربي
وحتى الغرب الذي كثيرا ماتعللت به الكثير من الرؤى والتصورات التامرية لم يعد يجد حرجا في حكم العدالة والتنمية في تركيا ,وحتى الولايات المتحدة بدأت تهيء نفسهامنذ حوالي العشرية الى القبول بالأمر الواقع طالما أن الاسلاميين يتعهدون باحترام نتائج صندوق الاقتراع في صورة مااذا خسروا أي منازلة انتخابية
خلاصة القول عندئذ بأن العالم كله يعيش تحولا عميقا في تعاطيه مع ملف الاسلام الاحتجاجي والوسطي الذي لايطرح العنف وسيلة للوصول الى الحك! م أو الحفاظ عليه
اليوم تقف السلطة أمام قراءة تاريخية شاذة تجاوزتها الأحداث ولاداعي أن تنتظر من جديد حدثا دوليا عنيفا جديدا كي تروج لبضاعة الخطر الاسلامي ,فلقد مج التونسيون هذا الخطاب منذ أواسط التسعينات يوم أن اكتشفوا أن اغراءات الوضع الجزائري لم تعرف طريقها الى تفكير النهضويين بل كانت يومها داعية لهم كي يؤسسوا تقييما ودراسات معمقة تؤكد على أنهم حركة سياسية سلمية تنبذ العنف وتسعى الى التغيير المتدرج بالطرق السلمية
ومع الأيام بدأ الحلف القديم مع المعارضات الايديولوجية التي أغريت بالمكافأة على الصمت يتفكك لتشهد السلطة حالة من العزلة لم تعرف لها مثيلا منذ تاريخ 7 نوفمبر ,لتبلغ هذه العزلة أوجها مع تحرك 18 أكتوبر الشهير الذي توج بمسار هيئة الحقوق والحريات
ان السلطة اليوم مدعوة الى مراجعة تجربتها السيا! سية في التعاطي مع هذا التيار المقموع الذي لن يزيده القمع الا جماهيرية وتألقا بين المظلومين والفقراء والمطحونين من سياسات العولمة كما المثقفين الذين اكتشفوا نضالية وصمود وسلمية ووطنية هذا التيار
النهضة اليوم مدعوة هي الأخرى كي تستمر في هذا الخط الوطني الجماعي والسلمي الذي يؤمن بحقوق الاخرين ولايلغيها بل يضمنها ويدافع عنها
وأظن أنه قد بات عليها الانخراط في ميثاق شرف وطني مع كل المعارضات الأخرى وذلك ضمانا لحق الجميع في هذا الوطن ورفعا لكل التباس وتأسيسا لفقه جديد يجمع ولايفرق ويبني ولايهدم ويوسع ولايضيق
أما قضايا الخصوصية المذهبية أو الايديولوجية ,فينبغي على الجميع الاقتناع بأنها غير مطروحة تماما ولاسيما في مثل هذه الظروف التي اندثرت فيها قيم الحرية والمشاركة والتناوب وحقوق التعبير والتنظم
بل انني أدعو تيار النهضة الى الايمان بخصوصية القطر اذ أن ماحصل فيه من تحولات ثقافية واجتماعية عظيمة يجعل الحديث فيه عن مشروع اسلامي خالص هو من باب القياس على اسقاط العمل ببعض الأحكام أيام عموم البلوى
وأدرك جيدا أن ماحصل من ثورة فضائيات وأساليب مسخ عقدي وثقافي منظمة لابد أن يطرح على الحركة الاسلامية المتنورة مستقبلا فقه تنزيل الأحكام وشروط تحقيق المناط على محك ميزان دقيق لابد أن يراعي جملة تطورات عميقة حصلت في مجتمعنا بحيث أنه لايمكن قياس واقع مجتمعاتنا على واقع مجتمعات السلف الأول
وأظن أن تجربتي مع هذه الحركة تجعلني أقر بأن فيها من العقول المتنورة مايساعدها على ايجاد اجابات فقهية متأصلة ضمن سياقنا المغاربي ذي الخصوصية الكبيرة
ولعل مقولة السياسة هي فن الممكن يمكن مطابقتها في هذا السياق مع قاعدة شرعية عظيمة ألا وهي درء المفاسد مقدم على جلب المصالح وعلى قاعدة أخرى مفادها بأنه لاضرر ولاضرار وهو مايطلب منا فعله حقا في بلدنا الحبيب تونس

كتبه أخوكم مرسل الكسيبي في 17-12-2005
الموافق ل16 ذي القعدة 1426 هجري