المقالات المنشورة بهذا القسم تعبّر عن رأي كاتبها فقط و لا تعبّر بالضرورة عن رأي نواة

لكن هذا الحلم لو بقي مجرد حلم فإنه سريعا ما سيتحول إلى كابوس تماما كما حصل للتونسيين مع الأحلام الكبيرة التي جاءت بها الثورة. لذلك فمن الضروري ترجمة ذلك الحلم إلى واقع من خلال خطة قابلة للتنفيذ ولو بالتدرج بشرط أن تكون جميع الخطوات وتبريراتها واضحة ومفهومة من أغلب التونسيين حتى يقتنعوا أن التغيير إلى الأفضل ممكن حتى وإن بدا بطيئا في البداية. ترجمة الحلم إلى واقع يكون في رأيي بتحديد مجموعة أولويات تعتمد على الركائز الأساسية وتحترم مجموعة المبادئ العامة. هذه الأولويات، التي يجب أن تكون محدودة العدد، يمكن النظر إلى بعضها كمسكنات يحتاجها مريض بصفة مستعجلة لوقف الحمى والألم وبعضها الآخر كدواء ومضادات حيوية للقضاء على المرض نفسه. أما الركائز والمبادئ فإن العمل على ترسيخها ببرامج طويلة المدى يلعب دور التلقيح الذي يضمن عدم عودة المرض ويمكن المريض من مناعة  دائمة.

المبادئ العامة والركائز الأساسية

في رأيي المبادئ العامة يجب أن تشكل بنود عقد اجتماعي ينظم علاقة المواطنين بالدولة وأيضا ببعضهم البعض ويهدف أساسا لترسيخ مفهوم وعقلية المواطنة بما فيها من حقوق وواجبات. هذا العقد يمكن تلخيصه في ثلاثة مبادئ عامة وهي (بدون ترتيب) الحريات العامة والخاصة، المساواة في الفرص وأمام القانون، الديمقراطية وسلطة الشعب. هذه المبادئ يجب أن تكون المرجع لكل البرامج والقوانين والخيارات والقرارات بحيث لا يقبل تجاهلها أو التغاضي عنها، ولو جزئيا، بأي شكل من الأشكال وتحت أي مسوغ كان.

أما الركائز التي سيبنى عليها الحلم والتي يجب أن تشكل العمود الفقري وأسس أي برامج قصيرة ومتوسطة وطويلة المدى فيجب أن تكون حسب رأيي كالآتي (ودون ترتيب): الثقافة، احترام البيئة، التكنولوجيا المتطورة، التعليم والتكوين المتواصل.  فقد ثبت على مر التاريخ أن الحضارات تبنى أساسا على الثقافة والفنون وغزارة الانتاج الفكري للشعوب بما يشكل أساسا صلبا وعميقا لكل تطور علمي وتكنولوجي واقتصادي لاحق. لكن إلى جانب هذه الفائدة الاستراتيجية طويلة المدى فيمكن للثقافة أن تلعب دورا آنيا من خلال السياحة الثقافية مثلا أو للتعريف بالبلاد وشعبها في كل أنحاء العالم من خلال إنتاجها الثقافي والفني. أما المحافظة على البيئة فهي الضامن الأساسي لحياة سليمة وصحية وشرط ضروري لجودة الحياة، فعدم إعطاء حماية البيئة الأولوية التي تستحقها هو تدمير أكيد للبلاد على المدى الطويل وأيضا القريب. أما التكنولوجيا المتطورة بجميع مجالاتها فهي عالميا العنوان الأبرز للمرحلة القادمة وهي ليست خيارا بل إن الشعوب التي لن تستطيع اللحاق بالركب التكنولوجي وتفشل في أن تكون عنصرا فاعلا فيها ستتخلف بشدة وستعيش على هامش الحضارة، هذا إن عاشت. أخيرا، ونحن ندخل عالما متقلبا ومتغيرا ومتطورا باستمرار وبسرعة كبيرة فإن المراهنة على التعليم والتكوين المستمر هو أيضا ضرورة قصوى وشرط أساسي للحصول على قوة عاملة مرنة وقادرة على التأقلم واكتساب مهارات جديدة عصرية بالسهولة والسرعة التي يقتضيها العصر الجديد.

هذه الركائز التي يجب أن تراهن عليها البلاد يجب أن تشكل البوصلة التي تبرز للمواطنين إلى أين تسير بنا السفينة وتعطيهم فكرة عن تونس وكيف نريدها أن تكون بعد عشرة وعشرين وثلاثين سنة كما يجب أن توضح لهم أسباب اختيار حلول معينة بدل أخرى حتى لمشاكل آنية وذات أولوية وبالتالي تبين الفلسفة والأرضية الفكرية التي تسير عليها البلاد لتحقيق أهدافها الكبرى في تحقيق الازدهار والرقي.

الأولويات على المدى القصير والمتوسط

ولكن حتى يصبر التونسي ويساهم في مسيرة التغيير يجب أولا أن يرى بعض مشاكله الآنية بدأت تجد طريقها للحل تماما كما يطالب المريض الذي يشكو من الحمى وشدة الألم ببعض المسكنات في انتظار أن تعطي المضادات الحيوية أكلها وتقضي على أصل الداء. هذه الأولويات (أي المسكنات المستعجلة) فهي في رأيي  كالآتي (دون ترتيب):

  • محاربة الإرهاب
  • محاربة الفساد (الكبير والصغير)
  • نظافة الشوارع
  • مساعدة الفئات الأضعف في المجتمع
  • معالجة عجز الميزان التجاري (بالحد من التوريد العشوائي وإيجاد حل لمسألة الفسفاط)
  • فرض احترام القانون (ولو باستعمال سياسة التدرج حسب الوضعيات)
  • التحكم في الأسعار (بالتصدي للاحتكار والتهريب وبالحد من تدهور قيمة الدينار)

أما المضادات الحيوية أو الأولويات التي يجب البدء في معالجتها حالا لكن قد تظهر نتائجها على المدى المتوسط فهي في رأيي كالآتي (دون ترتيب):

  • إصلاح الإدارة
  • إصلاح صندوق الدعم
  • إصلاح التعليم (العمومي والخاص)
  • مقاومة التلوث
  • الحد من هجرة الكفاءات
  • حزمة إجراءات قانونية وتقنية لتحريك الاقتصاد (في اتجاه إرساء منوال تنمية جديد قائم على المعرفة)

أذكّر أن كل هذه الإجراءات يجب أن تحترم أو على الأقل لا تتعارض مع المبادئ العامة الثلاثة وأن تعتمد وتلبي جل أو على الأقل واحدة من الركائز الأساسية الأربعة وذلك حتى لا تكون إجراءات عشوائية دون تناغم ودون أهداف موحدة تعمل على تحقيقها. مثلا، إصلاح الإدارة يجب أن يعتمد كليا على التكنولوجيا المتطورة دون تأجيل وأن يحترم البيئة بالتقليل من استعمال الورق مثلا. أما إصلاح التعليم فيجب أن يكون باعتبار التعليم ركيزة وطنية لها الأولوية القصوى من ناحية الاستثمار (في البنية التحتية والموارد البشرية) وأن توجه البرامج التربوية بحيث تثمن التكنولوجيا المتطورة في جميع الاختصاصات وأن تشكل الثقافة واحترام البيئة أعمدتها الأساسية. أما الإصلاحات الاقتصادية فهي أيضا يجب أن تأخذ البيئة بعين الاعتبار فتركز على الطاقات المتجددة كخيار استراتيجي وتوجه الاستثمارات نحو المشاريع ذات القيمة التكنولوجية العالية كما يجب أن تتخذ الدولة من الاستثمار في الثقافة كأحد أولوياتها بتشجيع السياحة الثقافية وذلك بتثمين الإرث التاريخي لتونس مثلا وأيضا باعتبار الثقافة والفنون رافدا مهما للاقتصاد الوطني على عديد المستويات وذات جدوى على المدى القصير والمتوسط وليس فقط على المدى الطويل. محاربة الفساد تكون بتكثيف استعمال التكنولوجيا المتطورة ومحاربة الإرهاب تكون أمنية لكن أيضا عن طريق الثقافة والتعليم، والحد من هجرة الكفاءات يكون عبر توفير بيئة سليمة ومنتوج ثقافي ثري وتعليم راقي يضمن مستقبل أبناء هاته الكفاءات.

أكيد كل المجالات ستكون فيها تفاصيل قد يصعب إبرازها من خلال هذه الركائز والخطوط العريضة الأربعة وحدها لكنها، كما ذكرت، ستعطينا البوصلة والاتجاه وفي أحيان كثيرة ستجعلنا نفكر خارج الصندوق ونبتكر حلولا جديدة لمشاكل وتحديات بقيت مستعصية علينا لسنين طويلة وربما لعقود أو حتى لقرون خلت وتجعلنا نرتقي بطموحاتنا من مجرد الحد الأدنى من العيش الكريم إلى السعي لبناء دولة قوية وعصرية تكون في مقدمة الدول المتطورة والغنية.