احتضن مسرح الحمراء بالعاصمة الدورة الأولى لتظاهرة ”فرايجيّة“ التي انطلقت يوم الجمعة 22 ديسمبر وامتدّت على ثلاثة أيّام، ببرنامج راوح بين السينما والرقص والغناء. كان تنظيم هذه الدورة عفويّا بشكل مُلفت، حيث أطلق مجموعة من الشباب الذين يرفضون الظهور إلى العلن وأن تُحسب هذه المبادرة على أسماء معيّنة، نداء على فايسبوك إلى محبّي الفنّ كي يقدّموا عروضهم فوق خشبة مسرح الحمراء بشكل تطوعيّ. انطلاقا من هذه الفكرة اجتمع شباب من مختلف الفئات العمريّة وفتحوا النقاش حول الحق في الثقافة، الثقافة المحكومة بهاجس البناء والتطوير. اختار منظّموا تظاهرة ”فرايجيّة“، الذين يجمعهم حبّهم للفنّ ورغبتهم الشديدة في إضفاء طابع ديمقراطيّ على الثقافة، أن تكون العروض مجانيّة حتى يثبتوا لأنفسهم ولغيرهم أن إمكانية تنظيم تظاهرات بصفر ميزانيّة ممكن، حتى لو لم يدم ذلك طويلا. “فرايجيّة” هي فرصة بالنسبة إلى الفنّانات والفنانين المُشاركين للتعرف على بعضهم البعض وتكوين شبكة علاقات ثريّة، قد تفتح لهم آفاقا جديدة في التفكير وفي الإبداع.

يبدو اسم ”فرايجيّة“ في الظاهر مُوغِلاً في السلبيّة ويُحاكي الأنماط الفكريّة الاستهلاكيّة، متفرّجون يستهلكون الفنّ وليست لديهم أية قدرة على ردّ الفعل وعلى تحويل طاقاتهم إلى أعمال تنقل عن قصد خبراتهم المتراكمة، لكنّه في العمق يدعو إلى إعادة التفكير في مفاهيمنا الجاهزة للفنّ، لتتحوّل ”فرايجيّة“ إلى نسق فكريّ يقلب المعادلات والقوالب الكلاسيكيّة وينتقل بالفنّ إلى مرحلة الإثبات، مثلا إثبات وجود فنّ الشارع المُهمّش والمقصيّ في ظلّ تحكّم الدولة مُمثّلة في وزارة الثقافة في المشهد الثقافيّ الرسمي.

”فرايجيّة“: مبادرة منفلتة من السائد

تراوحت العروض خلال هذه التظاهرة بين حفلات غنائية حميميّة لفنّانين لا يبحثون عن الدعم والمنح الوزاريّة وعرض أفلام وثائقيّة لشباب قد لا يعرفهم أحد ولكنهم مُبدعون وفي حالة تأهّب دائمة. أفلام لطارق طيبة ومالك بوركاش وعبد الله شامخ وأحمد الجلاصي ويوسف صنهاجي ومالك خميري وماهر حسناوي وعبد الحميد بوشناق. أفلام  تحدّثت عن معضلة الموسيقى البديلة في ظلّ الموسيقى السائدة التي تروّج لها الأجهزة الرسميّة وتدعمها، تحدّثت عن الرقص في كامل تجليّاته، الرقص الذي نمَى ضمن ثقافة الشارع. وتحدّثت عن المسالخ البلديّة المهجورة في تونس وإمكانيّة تحويلها إلى فضاءات ثقافيّة أسوة بتجربة المغرب، عندما تحوّل المسلخ البلدي بالدار البيضاء سنة 2008 إلى فضاء يَنشط فيه طلبة الفنون الجميلة ويرقص ويغنّي داخل أسواره عشرات الفنّانين.

إلى جانب هذه العروض، تمّ تخصيص جزء كبير من البرنامج لفن السْلام Slam مع ليليا بن رمضان وحمدي مجدوب ومهدي خميلي وصابرين غنودي وزينب شعبوني وغيرهم. السلام هو نوع من الشعر، متحرّر من القواعد الكلاسيكيّة وارتبط ظهوره بالفضاءات العامّة، في محاولة لجعل هذا الفنّ أقلّ نخبويّة ممّا هو عليه وفي متناول الجميع. نلاحظ في تونس وجود حركة شعريّة أو لنقل حركة أدبية شبابية مغايرة لما اعتدنا عليه. جيل جديد من الكتّاب ينمو على هامش أزمة المثقّف العربي والصراعات داخل أروقة وزارة الثقافة وبين القائمين على مؤسّساتها، على هامش أزمة النشر وأزمة القراءة وأزمة اللغة وجميع الأزمات التي نعرفها والتي لا نعرفها. شباب يكتب بالعاميّة والفصحى بأساليب مبتكرة وبلغة لا تمشي فوق الصّراط المستقيم. هذا الجيل الجديد من الكتّاب لا يهتمّ بأيام قرطاج الشعريّة التي ستنطلق دورتها التأسيسيّة الأولى في شهر مارس المقبل، وقد عيّن لها الوزير الحاليّ للشؤون الثقافية محمد زين العابدين مديرة فذّة هي جميلة الماجري. وجميلة الماجري تدّعي أنها شاعرة وكانت مديرة لاتحاد الكتّاب التونسيّين زمن بن علي وتتبجّح بكونها أوّل امرأة تترأس الاتحاد سنة 2008. قد لا يعرف الكثيرون جميلة الماجري ولكن ربّما يذكرها العديد عندما حضرت مع حسن بن عثمان الحلقة التلفزية التي بُثّت في 13 جانفي 2011 على القناة الوطنية الأولى (تونس 7 سابقا) بعد الخطاب الشهير للرئيس الهارب زين العابدين بن علي، وقد دافعت باستماتة عنه وقالت ”نحن نعيش لحظة تاريخية بعد هذا الخطاب ولنكن في مستوى هذه اللحظة التي أعلن فيها سيادة الرئيس عن إطلاق الحريّات“. هذه هي جميلة الماجري التي أرادها الوزير الحالي أن تكون مديرة لأيام قرطاج الشعريّة، غير مبال بما يحصل خارج مكتبه الفخم من حركيّة أدبيّة لا تؤمن بمنطق تدجين الثقافة الذي يعدّ أحد ركائز السياسة الثقافية في تونس.

سياسة ثقافية مهترئة

كانت الثقافة أحد ركائز دعم الهويّة الوطنيّة بعد الاستقلال، ففي تلك الفترة بدأنا نتكلّم فعليّا عن سياسة ثقافية في تونس قوامها نشر الثقافة وتعميمها وفكّ ارتباطها بالتوجّه النخبويّ الذي كان سائدا في فترة الاحتلال الفرنسيّ، وبالتالي فإنّ الدولة هي الجهة الوحيدة التي تتولّى مهمّة تدبير الشأن الثقافيّ على المستويين التشريعيّ والتنفيذيّ. قبل إنشاء وزارة الثقافة سنة 1970 كانت هناك مؤسسة حكوميّة تهتمّ بتطبيق سياسة الحكومة الثقافيّة وهي أمانة الدولة للثقافة والمعلومات التي تأسّست سنة 1961. في فترة الستينات تبلورت سياسة ثقافية كبرى في تونس هدفها نشر الثقافة عن طريق التعليم، فأصبحنا نتكلّم في البرامج التعليمية عن مواد جديدة مثل الموسيقى والفنون التشكيليّة والمسرح. ظلّت الثقافة، إلى اليوم، مرتبطة في أذهان المسؤولين الحكوميّين ببعض المواد الفنيّة التي تُدرّس في المعاهد وبالمهرجانات الصيفيّة وبالأنشطة الترفيهيّة داخل دور الشباب ذات الإمكانيّات المحدودة.

ثقافة الدولة أو الثقافة الرسميّة هي نتاج احتكار الحكومات المتعاقبة للسياسة الثقافيّة واجترارها لآليّات إنتاجيّة متآكلة وأفكار جاهزة تدور في فلك البروباغندا وتلميع صورة الدولة. الدولة هي الراعية الرسميّة للعلم والمعرفة والفنون والآداب التي تستمدّ وجودها من مؤسّساتها وهياكلها ولجانها. من بين الخطوط العريضة لسياسة الدولة الثقافيّة، على مرّ سنوات متعاقبة، هي نشر الثقافة في الجهات. لكنّ إطار تطبيق هذه السياسة ظلّ خاضعا لإجراءات مركزيّة لم تنفع معها محاولات إشراك فاعلين من القطاع الخاصّ. الشراكة بين القطاعين العامّ والخاصّ لم تُفَعّل بشكل ناجع في المجال الثقافي الذي تُحكم الدولة السيطرة عليه. وأمام تحكّم الدولة في المشهد الثقافيّ برزت حركات فنيّة مناهضة للسائد وحوّلت ”العاديّ“ إلى ظاهرة فنيّة جماليّة جديرة بأن نفكّر فيها، وهو ما حاولت مبادرة ”فرايجيّة“ القيام به دون التمسّح على الأعتاب وانتظار دعم الجهات الرسميّة للتعريف بفنّانين وفنّانات يعملون في الخفاء وبعيدا عن الأضواء.