نواة :هل تخفي المواجهات العروشية العنيفة إرادة اجتماعية مكبوتة من أجل فرض سلطة القبيلة أم هي انعكاس لضعف التغيير “الدولاتي” وعدم شموليته؟

المولدي لحمر: صيغة هذا السؤال تُخفي قناعة عامة يجري من خلالها تمثل بعض مظاهر الصراعات المحلية في البلاد، وتُعتمد هذه القناعة في التحليل دونما تحري نقدي ومساءلة. لو أعدنا صياغة السؤال لحصلنا على القول التالي: القبلية هي البنية المخفية والمكبوتة للحياة الاجتماعية في الأرياف التونسية، والجماعات المحلية عبارة عن قبائل تريد فرض سلطتها لكن الدولة تكبتها، وعندما تضعف الدولة تتحرر الإرادة القبلية. وإذن لا يمكن فهم ما يجري إلا بوصفه تمظهرا لبنية قبلية جوهرانية لا يغيرها الزمن.

في الواقع عندما تكشف هذه المسائل للمحللين الذين ليس لهم في جعبتهم سوى فكرة القبيلة، ستلاحظ أنهم يتراجعون ويبدؤون أولا بالتنسيب، ثم باستدعاء فكرة السياق، ليقولوا بعدها أن المسالة معقدة وتحتمل الكثير من التأويلات، ثم ينتهوا باقتراح صفقة “تفاهم مغشوشة علميا” مفادها أن الظاهرة قبلية ولا قبلية في نفس الوقت، آملين أن يكون هذا الحل مريح للجميع، وإذن مغيب للجواب الصحيح، ما يسمح بالعودة من جديد لفكرة القبيلة، والتمعش الفكري منها كلما حانت الفرصة.

هل العنف الجماعي ظاهرة عروشية خاصة؟

لننتبه: العنف الجماعي ليس ظاهرة عروشية خاصة، أي ليس متأصلا في بنية العروش وحدها، فالعروش تتعايش باستمرار بعضها مع البعض رغم صراعاتها. العنف مرتبط بالصراع على الموارد والمكاسب الاجتماعية والسياسية والرمزية. فكل جماعة، سواء كانت قرابية أو مهنية أو سكنية أو دينية، في المدينة أو في الريف، يمكن في ظروف ما أن تتحول إلى كتلة بشرية عمياء تمارس العنف، ولا ضرورة للقرابة كي تتشكل هذه اللحمة. والأديان حولت التعصب القبلي أو المهني إلى تعصب ديني. ما يجري هو أن تكتل الجماعات في ظروف ما يستدعي تفعيل الروابط الاجتماعية الأقوى في ذلك السياق، وتحديدا الروابط التي تغطي الشقوق والخلافات وتعارُض المصالح الخاصة الحينية. في الأحياء الشعبية للمدن الكبرى المغاربية، وفي الظروف الاستثنائية الخطيرة، تكون الجيرة والمعرفة المتبادلة والاشتراك في الحاجة إلى الأمن هي الروابط الأساسية، وتضعُف روابط القرابة والمهنة. وهذا ما جرى في المدن الكبرى خلال الأيام الأولى للثورة، ويمكن أن نلاحظ أنه رغم أن لجان الأحياء كانت تشكل وحدات متلاحمة تتصرف باسم الأحياء ومستعدة لممارسة العنف الأعمى للدفاع عن مصالحها الحينية، فإنه لا أحد تعامل معها تحليليا على أنها قبائل. خلال الإضرابات العمالية تصبح المهنة والاشتراك في نفس الحقوق الروابط الأهم المبلورة للوحدة، وتضعُف روابط القرابة والجيرة. في الأرياف تكون روابط التكتل الأقوى هي القرابة والجيرة، وتضعف روابط المصالح المهنية والفئوية.

كما نرى، فالمجموعات متشابهة في الواقع، لكن بعضها يستند إلى إرث جماعي أكثر استمرارا في الزمن، مثل القرابة والجيرة في الأرياف وما يسمى الموارد المشتركة. في حالة الفوار وغيره هناك أراضي جماعية يجري عليها صراع يجند القرابة والجيرة، لكن نفس المجموعات تتفتت خلال الانتخابات السياسية، أو يضرب بعضها مصالح البعض في الميدان التجاري، أو أنها تتوحد لا على أساس القرابة بل على أساس مصالح التهريب عبر الحدود على سبيل المثال. ما يجعل هذا النوع من المجموعات يختلف عن المجموعات العمالية التي هي أيضا لها موارد مشتركة، مثل المؤسسات المشغلة ومواردها الشاملة، هو أن العمال الذين يعملون على سبيل المثال في قطاع النقل لا يتخاصمون جهويا على الموارد المشتركة التي تأتي لهم من هذا القطاع (عمال شركة النقل بتونس ضد عمال شركة النقل بزغوان، أو حتى أصحاب المؤسسات في حد ذاتهم هنا وهناك …) فالقرابة والجيرة لا أهمية لهما في هذه الحالة، بل هما يهددان لحمة الجماعة. الفرق الكبير هنا هو أن العمال ابتكروا آليات تكتل فوق القرابة والجيرة، وهي النقابة، بينما في حالة المجموعات المحلية الريفية دمرت الدولة الحديثة آليات العمل السياسي المحلي التقليدي، ولم تستطع هذه المجموعات، التي كانت تشكل ما يسمى القبائل، بلورة آليات حديثة تتماشى مع ما أحدثه العصر من تحولات عميقة داخلها. لقد رد أحد المعتصمين في الفوار بشكل فوري ومتقدم سياسيا على برهان بسيس، الذي تحذلق بالإشارة إلى أنه لا يمكن توزيع جزء من دخل شركات النفط على مجموعات قبلية وجهوية مختلفة، حين قال له هذه لن تمر نحن كلنا أبناء الجهة ولسنا قبائل.

إذا وضعنا الصراع في سياقاته الراهنة، كيف لنا أن نصف بالضبط ما يجري؟

ما يجري هو فقط صراع على الموارد من خلال محاولة استدعاء القرابة والجيرة، ولكن الكل يعلم أن لا أفق لهكذا تمشي، لأن العصر الحديث منع مثل هذه الاستراتيجيا من أن تحقق أهدافها، وهي أن ينتصر فريق على فريق بشكل كاسح ويطرده من الأراضي المتنازع عليها، ليصبح شريدا في المنطقة تتلقفه بالضيافة والحماية مجموعات أخرى تُحضر للأخذ بالثأر لاحقا. بالطبع لا يمكن تركهم يتخاصمون ويتحاربون، ولكن لو تُركوا وشأنهم لأدركوا في النهاية حماقة ما يفعلونه. ومع ذلك فأنا أظن أن العنف اندلع من أجل أن تتدخل الدولة وتساعدهم على الحل، لأنهم يعرفون أن آلياتهم القديمة لم تعد تصلح وهم يريدون حلا. والحكمة أن نساعدهم على الحل…فقط. عندها يتلاشى وهم القبيلة …ومعه وهم أبطال التحليل بالقبيلة.

استمرار ظاهرة أراضي العروش التي تنجم عنها أغلب المواجهات العنيفة –خصوصا في الجنوب- هل تعكس مقاربة رسمية للحفاظ على الأساس القبلي رغم مسار التفكيك الذي دشنه مشروع التحديث مابعد- الاستعمار؟ هل نحن إزاء تناقض وماهي أسبابه؟

أراضي العروش لا توجد فقط في المناطق التي تندلع فيها هذه الأحداث، وإذن لماذا لا تكون الظاهرة شاملة لكل الحالات؟ المحللون بالقبلية يتجاهلون هذا المعطى لأنه يفسد عليهم منطق تحليلهم. ومع ذلك ينبغي أن نعي أن الدولة التونسية الحديثة نشأت وتشكلت وتأسست على أساس مبدإ ثقافي-سياسي عريق (ككل الدول الحديثة) يقول بأن استقلالية المجموعات المحلية على أساس قرابي أو عرقي أو ديني مرفوضة، ومطلوب تفكيك الأسس التي تقوم عليها. في الماضي كانت الدولة التونسية تتمثل التركيبة السكانية بطريقة لا تجعل مما نسميه اليوم قبيلة وحدات مستقلة ومتلاحمة ينبغي التعامل معها على هذا الأساس، بل تتمثل السكان على أنهم رعايا مكونين من قرى ونجوع وعروش تقودها عائلات تحتكر السلطة المعنوية داخل هذه الكيانات التي ينخرها التنافس وأحيانا الصراع. ولذلك فهي لم تكن تتصرف على أن جلاص أو المثاليث أو الهمامة يشكلون كتلا متلاحمة بل على أنهم مجموعات قرابية يقودها شيوخ ولا تتحالف إلا في ظروف محددة، وقادة هذه الوحدات غير مستقلين عن الدولة التي تستعملهم ضد بعضهم البعض، كما تفعل اليوم الدول الرأسمالية عندما تضرب النقابات ببعضها. فإن حدثت صراعات محلية فهي تبدو عادية لأنها تقوم حول الماء والمراعي والأسواق والزعامة السياسية الجالبة للجاه والمال. وإذن لم يكن مهما بالنسبة للدولة التونسية التقليدية ماهي الروابط التي تُستعمل في خلق اللحمة خلال هذه الصراعات. وألفت النظر هنا إلى أن رئيس الدولة الباجي قائد السبسي سليل لهذا التمثل القديم، وقد أظهر ذلك في تعليقه على ما يجري في ليبيا بعد سقوط القذافي حينما قال: “تو يريضوا كيف يوفا من عندهم الكرطوش !”

الاستعمار فصّل خرائط للقبائل، وتعامل معها على أنها وحدات ترابية وسياسية حقيقية ومتجانسة، واعتبرها إلى جانب الزوايا الطرقية مصدر الخطر خلال عملية الاحتلال. والنخب السياسية التونسية ورثت هذا التمثل لأنها كانت تعمل بفكرة الوطنية وتعمل على بناء دولة مركزية منافية لشتى الانتماءات الأخرى (نموت نموت ويحي الوطن، وليس يحي جلاص على سبيل المثال). وحينما يتصارع الريفيون اليوم على الموارد، مستخدمين مؤقتا رابطة القرابة (لأنهم يمكن أن يضعوها في المؤخرة عندما لا تستجيب هذه الرابطة للهدف ويقدمون عليها أخرى) ينهض في مخيلة المثقفين والسياسيين التونسيين ما كان يسميه بورقيبة “الشيطان النوميدي”، ويبدؤوا في الصياح: قبلية ! قبلية ! أما في الواقع فقد دفن المؤرخون القبيلة التونسية منذ مدة، وأثبت الثورة التونسية أن ما يسمى القبيلة لم يكن له أي دور في الأحداث، بل أن الثورة قد أنهت بشعاراتها وأهدافها وقادتها المحليين فكرة القبيلة. لاحظ أن من وجد حلا لمشكلة الكامور هو الاتحاد العام التونسي للشغل، الذي هو مؤسسة نضال من أجل الحقوق مبادئها التأسيسية منافية للقبلية، لقد وجد خطابها صدى لدى المحتجين بينما تعثرت الأحزاب التي أرادت استغلال روابط القرابة في حل المشكلة، وحتى خسرت مصداقيتها…..وفي الأخير بقي بعض الصحفيين الذين يحتكرون منابر الميديا يلوكون فكرة القبلية ببلاهة لافتة.

النزعات العروشية التي تستيقظ بين الفينة والأخرى، هل تشكل إشارة سوسيولوجية بأن الاجتماع التونسي مازال يتأرجح بين “الوطنية” و”القبلية”؟ 

“العروشية تستيقظ” عبارة تجعل من القبيلة تنينا أو وحشا أسطوريا كالذي في مخيلة الصينيين أو الأنجليز، يخرج من وقت لآخر من العدم في مشهد عجيب ومرعب، ثم يتوارى بنفس الطريقة مثل الشبح. كل ما في الأمر هو أن هناك موارد مشتركة لم تجر قسمتها في عصر تفشت فيه الاستقلالية والفردانية الاجتماعية، وتسيطر فيه قيم السوق والمال والربح. الناس هناك لا يتخاصمون على أراضي مرعى، أو مصادر ماء، أو طريق قوافل يُمكن فرض حق المرور منها على التجار أو حق حمايتهم من اللصوص وكسب منافع من ذلك (يسمى زطاطة في المغرب). الكثير من الناس في تلك المنطقة لا يملكون أراضي، لكن لهم رأس مال مخيالي جماعي يعطيهم الحق في أن يكون لهم سهم في الأراضي التي تحمل اسم الجد المشترك المزعوم والتي لم تجر بعد قسمتها. من هو الأحمق الذي سيقول أنا لا أريد أن آخذ نصيبي من هذه الأرض إن صح أنها لنا. هل تعتقد أنه لو أن الناس اتفقوا في البداية على أنهم سيقتسمون الأرض التي “سيفتكونها من غيرهم” (على اعتبار أن كل طرف يعتبر نفسه على حق) بالتساوي، ثم أن أحدهم قام بعملية حسابية فوجد أن نصيبه سيكون ربع هكتار في أرض صحراء مقابل المشاركة في المعارك مع احتمال الموت، هل تعتقد أنه سيشارك؟ أنا أشك في ذلك.

من المرجح أن تكون المشاركة في الصراع خاسرة على المستوى الفردي، ولكن مع ذلك ينخرط فيها الكثير من الناس، كيف لنا أن نفسر هذا؟

بقي كيف يحصل أن يشارك الكثير من الناس في عملية قد تكون خاسرة على المستوى الفردي. جواب السياسيين هو أن العملية مدبرة من خصومهم كي يتغلغلوا في الوسط الاجتماعي الذي يعملون هم أيضا على التغلغل فيه. أما جواب علم الاجتماع والأنثروبولوجيا فهو أن مثل هذه الصراعات على المصالح لا يمكن أن يُجمع الناس حولها باسم المصالح الفردية، إنما باسم الشرف والهمة والرجولة كقيم جماعية، وهي قيم تغطي تحديدا على المصالح الخاصة.

أنا أقول لك: انتظر إلى الأخير، وانظر كيف ستقسم هذه الأراضي إن قسمت، ومن سيحصل وعلى ماذا، وبأي حجة. أنا لا أستغرب أن يقول قائل منهم، حينما يحس بأنه قد لا يحصل على شيء من هذه المغامرة: لماذا لا نعبر عن حبنا لتونس بتسجيل هذه الأراضي باسم الدولة التونسية. إنها ورقة جوكر يمكن أن يسحبها الخاسرون في اللحظة الحاسمة. الآن اذهب وقل هذا الكلام إلى جهابذة السياسة في النخبة الحاكمة واطلب ربك أن يفهموك. عندما أرى بعضهم في مراكز القرار مُنصَبا مستشارا، يحلل و “يدبر” على الحكومة، أحس بالصداع ويحزنني أمر بلادي.