بعد سقوط قرطاج في منتصف القرن الثاني قبل الميلاد دخل الرومان الى تونس-أفريكا و تحوّل هذا البلد البوني الثري الى ولاية رومانية تابعة لمجلس شيوخ روما le sénat و اصبحت الاراضي ager publicus اي اراضي عمومية ملك سكان روما تُشرف عليها إدارة الإمبراطور التي تأسست في القرن الاول ميلادي.
و لمّا قرّر الأباطرة الرّومان جعل افريكا مطمورة لروما و لإمبراطوريتها و ذلك لقربها من إيطاليا حُذيت هذه الولاية بين القرنين الاول و الثاني ميلادي بعِناية خاصة و بُرمجت بها مشاريع كبرى لجعلها اكبر مُموّل للإمبراطورية الرومانية (التي كانت تمثل العالم آنذاك).
و نجحوا في جعلها اكبر مركز للإنتاج الفلاحي و الصناعي و للتجارة البرية و البحرية لانّهم وضعوا كل الظّروف الملائمة لتمكينها من القفزة الاقتصادية التي خططوا لها.
ففي المراحل الاولى كُلّف الجيش الروماني و المهندسون بانجاز مسح و تقسيم و جَرْد لكامل تراب الولاية حتى يكون قاعدة لتِعداد السّكان و الدّواب و الاراضي المستغلة و البور و الغابات و لاحتساب و استخلاص الضرائب ثم بدأت الأشغال الكبرى بمدّ شبكة طرقات عنكبوتية تربط بين الشمال و الجنوب و المناطق الداخلية والمدن الشرقية و الموانئ و امتدت الحنايا على مئات الكيلومترات لربط السدود و أحواض تجميع مياه الأمطار و الثلوج و العيون بالمدن و القرى و الارياف و الضيعات الفلاحية.
و مَنح الأباطرة الافارقة امتيازات جبائية هامة في الفلاحة و الصناعة و التجارة البرية و البحرية و شجّعوا على استقرار القبائل و الرُحّل بتوزيع الاراضي العمومية الصالحة و غير الصالحة للفلاحة و امتلاكها شريطة استغلالها بدون انقطاع-لا يفوق سنتين.
و أحسن مثال يجسّد هذه السياسة الفلاحية الناجعة هي نقيشة حصّاد مكثر- le moissonneur de Mactar- الذي تحوّل من عامل يومي خلال الحصاد الى ملاّك لارض فلاحية مكّنته من تسلّق السلّم الاجتماعي و من المساهمة في تسيير مدينته.
كل هذه الإنجازات و كلّ القرارات ساهمت في توسيع الاراضي الفلاحية المستغلة لانتاج الحبوب و الأشجار المثمرة (خاصة الزيتون) على حساب الاراضي البيضاء و السباسب و الغابات (اليوم نستغل ثلث ما كان يُستغل آنذاك) و شجعت هذه السياسة الجبائية و امتداد الطرقات و الحنايا على بعث مصانع كبرى للفخار و على ظهور مراكز انتاج فلاحي في المناطق الداخلية و على تنشيط المواني و التجارة و رفع الانتاج و تنويعه و تصديره في كامل الامبراطورية التي تمتدّ على 3 قارات و على رفع العائدات الجبائية. و مكنت ايضا من ادماج الافارقة في الدورة الاقتصادية العالمية و وصل التُجّار و الانتاج الإفريقي الى اصقاع العالم.
فلنأخذ مثال انتاج الفخار الأفريقي-التونسي الذي صمد امام الزمن و أثبت اليوم ضخامة حجم الانتاج و التصدير اذ كان يُصدَّر في شكل اواني أكل و طبخ و جِرَارٍ-حاويات لنقل المنتوجات الغذائية عبر المسالك التجارية البرية و البحرية. و يُعتبر توزيع هذا الفخار على مدى 8 قرون أحسن مثال يُبرهن على انتشار المنتوجات الافريقية و دورها في تأمين غذاء روما و غذاء و ملابس جيشها و تمويل باقي الامبراطورية بالرخام و الملابس و الأغطية الصوفية و الزيت و الزيتون المُملّح و الحبوب و الخمر و القاروم garum و الفواكه الجافة و الثمار الجافة و اللحوم الجافة …
و مكّن هذا الازدهار الاقتصادي من انتشار السِّلم الاجتماعي -علما و ان افريكا لم يكن بها جيشا فالجيش كان موجودا بالجزائر- و ازدهرت الأنشطة الثقافية و الترفيهية كالمسرح و الألعاب و الصيد التي جُسّدت على لوحات الفسيفساء.
و بازدهار الاقتصاد ازدهر العمران و انتشرت المدن و المنشآت و تَرَوْمن الافارقة و سيّروا شأنهم العام و مُدنهم و كان أعيان المدن يتقدمون الى الانتخابات المحلية للوصول الى مناصب بلدية مُقابل تشييد و ترميم المنشآت العمومية و تنظيم الألعاب الترفيهية لسكان مدنهم.
ان هذا الثراء الذي اصبحت عليه افريكا جعلها تتعرض الى نهب بعض الولاة و موظفي الإمبراطور و الى الغزو الوندالي و الاسلامي للحصول على ثرواتها خاصة الذهب الاسود-الزيتون/الزيت و بينت البحوث الاثرية و التاريخية ان هولاء الغزاة لم يُخرّبوا بلادنا.
و لكوني مؤرخة لا أستطيع الا ان أطالب بانجاز مشاريع كبرى في البنية التحتية بكامل البلاد و ان أدعم إرجاع الاراضي العمومية المفتكّة عبر التاريخ القريب لاصحابها و إعادة توزيع البقية على اليد العاملة الفلاحية و على المُعطّلين عن العمل و تشجيعهم على التنظّم في جمعيات اشتراكية تضامنية على منوال جمعية حماية واحات جمنة مع امتيازات جبائية مقابل احياء و استغلال الاراضي و الضيعات المنهوبة و ذلك للنهوض بالفلاحة و الرفع في الانتاج لتحقيق الأمن الغذائي و لتقليص البطالة و المساهمة في تمويل خزينة الدولة.
إنما الاقتصاد سياسة لها أهدافها و مخطّطاتها و برامجها و مشاريعها مع وضوح الرؤيا و ليست ارتجالا و محابات و ولاء و هروبا من الواقع .
الاقتصاد الاجتماعي التضامني حقّ و العدالةالاجتماعية لا مفرّ منها.
جمنة هي تونس الماضي و الحاضر و المستقبل.
إنما التاريخ عبرة.
iThere are no comments
Add yours