بسم الله الرحمن الرحيم
كتبه مرسل الكسيبي
تظل حرية الاعلام في عالم التطبيق والممارسة المحضن الذي تختبر فيه النوايا الحقيقية لمن يتشدق بالتعددية والحريات ولعل الحكم على ديمقراطية الأنظمة من عدمها يمر عبر التأمل في واقع وسائل اعلامها المرئية ,المسموعة والمقروءة .
تتعدد العناوين في الشرق والغرب وتتزاحم الصحف والفضائيات على طرق العديد من القضايا ولكن يبقى الفرق شاسعا بين من ترسخت أقدامه في هذا المجال وبين من لازال يلامس مخاوف السلطان ويراعي أبسط مقدمات غضبه .
غضب السلاطين لايرحم وهوسيف مسلط على كل من تخول له نفسه نظم الكلمات في بعد عن مقص الرقابة والقصة معروفة مذا يمكن أن يحدث لمن تجرأ على تجاوز شهوات ونزوات السادة حتى في ما يعد في الغرب من أبسط حقوق الطبع والنشر والتعبير !
من هنا تتعدد التابوهات فالحديث في بعض بلدان العالم العربي عن بعض القضايا الأخلاقية التي تتعلق بالشرف والاتجار في المخدرات وبعض مظاهر السلوك الاجتماعي والاقتصادي كالغش والرشوة والمحسوبية والغبن التجاري والكذب والخداع في المعاملات ناهيك عن سب المقدسات على قارعة الطريق تصبح مواضيع مغامرة صحفية ومن يولج في معالجة مسبباتها وتمظهراتها الاجتماعية يصبح في بلادنا مغامرا بحريته الشخصية وكرامته البشرية ان لم نقل أنه يعرض وظيفته للنسف في أبسط الحالات .
أما الحديث عن القضايا ذات البعد السياسي المباشر وبشكل نقدي وموضوعي فهو مما يضمن لصاحبه يقينا مكانا في السجن ويكفي للمرء أن يتأمل في التقارير العالمية حول الحرية الصحفية فسيجد عندها أن بلادنا العربية فازت وللحاكم الفضل والمنة بنصيب الأسد .
عند الحديث عن حرية الاعلام تجدني دوما أحلق بالذاكرة الى بداية الثمانينات وأواسطها حيث عاش العالم العربي أوج تألقه في هذا المجال ولعل بلدا مثل تونس كان في تلكم الأيام بلدا متميزا في صحافته المكتوبة بكل المقاييس بل ان عناوين مثل الرأي والشعب والمستقبل والأيام والمغرب العربي وحقائق وجملة من العناوين الأخرى الواردة علينا من المشرق أوالمهجر كمجلة العالم والوعي الاسلامي ومجلة الأمة والعربي ومجلة المجلة وسلسلة من الكتب الصادرة في تلك الحقبة كسلسلة كتاب الأمة ودائرة المعارف ستظل منقوشة في ذاكرة المثقف التونسي والمتابعين للشأن العام الذين لم يكن عددهم في تلكم الأيام كعددهم في هذه الأيام التي طغت فيها ثقافة الساندويش والهامبورغرالاخباري والاشهاري المنتسبين ظلما وعدوانا الى عالم الاعلام.
أجزم يقينا أن تلكم الأيام كانت ظاهرة جزيرة مقروءة في تونس الخضراء بل انني أقطع الشك باليقين اذا نوهت الى أن تلك المرحلة التاريخية كانت متفوقة على أداء قناة الجزيرة القطرية اذا ماأخذنا بعين الاعتبار أن الصحافة التونسية انذاك كانت لاتجد حرجا في التطرق الى كل القضايا الداخلية بعين نقدية وبمنطق يتجاوز كل الخطوط الحمر الموضوعة لوسائل اعلامنا العربي وهوماتعجز عنه قناة الجزيرة الفضائية هذه الأيام اذا ماتعلق الأمر بوضع داخلي وسياسي لدولة قطر الشقيقة والصديقة.
المفترض في تاريخ الأنظمة والشعوب هو وجود حالة من الترقي في الأداء والأساليب مما يعني أن التعثر والتأخر بل التقهقر المشهود في حال اعلامنا التونسي بات أمرا غير مفهوم وغير مبرر بكل المقاييس فبقدر ماتتعدد الأسماء واللافتات بقدرما تتبخرالروح والمضامين حتى أن نظرة سريعة على متن ماتقدمه صحافتنا الوطنية او مشاهدة سريعة ليوم واحد لقناة تونس سبعة تعطيك الانطباع بأننا أمام حالة تصحر حقيقي للثقافة والسياسة والفكر والابداع .
مشاهد الجسد العاري والخبر التافه المتعلق بعالم الراقصات والفنانات والعرافين والعرافات ,أخبار الفيديو كليب ومشاهير الموضة تتصدر اليافطات والعناوين ,أخبار الكوارجية الفاتحين قد غدت تملأ الافاق وكأن العرب والمسلمين قد استعادوا لتوهم أرض العراق وفلسطين …
قصص الاعتداء الجنسي والجريمة والاثارة الكلامية تملأ الصفحات الداخلية للصحف واعلانات مدفوعة الأجرللمشعوذين بعناوينهم وأرقام هواتفهم تحتل مساحة واسعة لأغلب العناوين
.
أهل الاختصاص يبدون مواقفهم من كل الظواهر الاجتماعية الا المتخصصين في شؤون الشريعة فانهم محرومون من ابداء الرأي واذا ماتعلق الأمر بقضايا ذات طابع اجتماعي على علاق! ة متينة بما هو سياسي ترى الجميع يتحدث فيما هو نفسي وقانوني واقتصادي وتربوي ويظل الجميع يحوم حول الحمى دون أن يقع فيه !
الأسباب الرئيسية لمثل هذه المشكلات فيما هو تدهور أخلاقي حاد نجم عن سياسات تجفيف الينابيع والتغريب القسري والمتعمد في أحيان كثيرة وجملة من السياسات الأخرى في مجال الاعلام المرئي والمكتوب أضف الى ذلك خيارات سياسية كبرى للدولة ساهمت في تفشي بعض الأمراض الاجتماعية كالتزلف والكذب والنفاق الاجتماعي والمحاباة للأشخاص على حساب المبادئ والقيم والولاء المغشوش لبعض الجهات والرغبة المفجعة في تحقيق المكانة الاجتماعية على حساب الكفاءة والمهنية الى غير ذلك من أمراض تنخر لب المجتمع …كل هذه الأمرا! ض يتم الحديث عن بعضها في وسائل اعلامنا وكأنها اليوم سقطت على التونسيين والتونسيات من اعلى السماوات المفتوحة دون أن يكون للأبعاد الداخلية فيها أي ناقة ولا أي جمل.
أمام هذا الواقع المر الذي يتعاطى معه اعلامنا بأسلوب الخجل والخوف المبالغ فيه في أكثر الأحيان نجد انفسنا اليوم في تونس أمام مشهد سقوط اعلامي حاد ظاهره كثرة اللافتات! وباطنه الخواء الفكري والثقافي والسياسي المريب .
ان السقوط الاعلامي الذي نعاني منه اليوم يعود في أحد أبعاده البعيدة عن العيان الى غياب الاستقلال المادي أو غياب الجهات الصناعية والاقتصادية الممولة في بعد عن هيمنة الدولة مما يضمن لنا رئات اعلامية مقتدرة على التعاطي مع هموم الناس والتعبير عن طموحاتهم ولعل هذا الاشكال لم يعد اليوم حكرا على الاعلام الذي يقدم نفسه داخل البلاد على أن! ;ه مستقل بل أصبح يتعداه أيضا الى الاعلام الحزبي والمهجري حيث أن الجهات المانحة باتت تلقي بظلالها كديناصورات تبتلع حرية الكلمة وتصادر الرأي المخالف وتعتمد التشويه عليه.
معالجة مثل هذا السقوط أصبحت أيضا مشروطة بالاضافة الى عنصر الاستقلال المادي بعنصر الوضوح النظري حيث أن الربط القاتل بين الولاء الحزبي والمشاريع الاعلامية يمكن أن يؤدي الى عملية اغتيال سياسي للمنابر الاعلامية ,اذ أن هذه المنابر تصبح مع تراكم الوقت والزمن مجرد بوق للزعامات والأشخاص والتنظيمات على حساب المبادئ والتطلعات والرأي الاخر الذي يصادر في خضم تغليب فقه الجهاز على فقه الرؤى ومصالح الأوطان .
غير أن هذا لايجعلنا اجمالا أمام مشهد اعلامي قاتم في ساحات الوطن ولعل متنفسا أحدثته بعض الفضائيات الخارجية والتي يشتغل معها طاقم تونسي مقتدر بالاضافة الى منابر متعددة على شبكة الانترنيت أحدثت فجوة تاريخية في فضاء اعلام حر بدأ يشق طريقه في هدوء جماهيري متابع لقضايا الناس وهمومهم في بعد عن رقابة الرقيب وقدرته السابقة على شل نبرات الصوت المخالف ,الا أن هذا لايعني أن المشوار قد اختصر وأن عملية الاصلاح الاعلامي قد قطعت شوطا كبيرا وأن أبواق الدعاية والتشويش الحزبيين قد شلا وأن ماينزل للأسواق من صحائف أو مايتلقاه الناس في تونس عبر الفضائيات الرسمية لم يعد مما يشكل الرأي العام الداخلي …فالذي يرى هذا مازال واهما, ولكن بين ماكنا عليه قبل ثورة الفضائيات والانترنيت وبين ماأصبحنا عليه بعد حصول هذين الثورتين هناك باب كبير للأمل بأن يسقط جدار الصمت المريب وتتجه وسائل اعلامنا نحو عملية اصلاح كبرى تضع البلد وسياساته على طاولة الفحص والعلاج حتى لا تتجه بنا مدارات الزمان الى حالة جديدة من حالات الاحباط واليأس السياسي أمام تعثر جملة من الشعارات في منطقتنا ونجاحها في مناطق أخرى من العالم! , ولعل الحديث عن الديمقراطية الحقيقية والاصلاح السياسي الحقيقي هو أخصب الاستثمارات الاعلامية في قاطرة أي تنمية مستديمة تنشدها النخب ويجمع عليها رجال اعلام أفذاذ ووطنيون في تونس اليوم والغد.
أخوكم مرسل الكسيبي
ألمانيا الاتحادية
في 20 ربيع الثاني 1426 ه الموافق ل 28 ماي من سنة 2005
الهاتف القار 00496112054989
الهاتف المنقول 00491785466311
reporteur2005@yahoo.de
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
iThere are no comments
Add yours