السلطة متصلبة جدّا.. والحركة متسرّعة جدّا
أجرى الحوار الطاهر العبيدي
بعد محاورتنا للعديد من قيادات حركة النهضة التونسية، الذين تمّ إطلاق سراحهم من السجن أخيرا، للتعرّف على بعض طروحاتهم تجاه الماضي والحاضر والمستقبل، ورصد ملامح رؤاهم حول المشهد السياسي بكل تضاريسه وتجلياته، وكذلك محاولة استجوابنا للطبقة السياسية التونسية بكل مكوّناتها، لجسّ نبضها حول هذا الملف، ارتأينا إنصافا لتخصيب الرؤى المتعددة والمتنوعة، أن نستضيف في هذا المجال أحد قواعد حركة النهضة العاديين، السيد عبد اللطيف الوسلاتي الذي أمضى بالسجن 15 سنة وثلاثة أشهر، والذي يمكن أن يكون تعبيرة من التعبيرات السائدة للسواد الأعظم في صفوف قواعد حركة النهضة التونسية، لسماع وجهات نظرها واقتناص انشغلاتها وتوجّساتها، والتي ربما قد تفرز انعكاسات وآثار مستقبلية، لإعادة التشكل والصياغة من جديد داخل هذا التيار.
هل حقيقة ما يروج أن إطلاق سراح بعض المساجين الإسلاميين، تمّ مقابل الإمضاء على الالتزام بعدم ممارسة العمل السياسي، في حين رفض آخرون؟
لم يقع إمضاء من هذا النوع، لكن هناك مراقبة إدارية يومية، حيث أنا شخصيا أمضي يوميا في مركز الشرطة، والحضور إجباري وإلا يعودون بي إلى السجن، والجهات الأمنية تقول أن الإمضاء هو قرار من وزير الداخلية، في حين أني قرأت هذا القرار ولم أجد فيه هذه النقطة، بل ينصّ على المراقبة وعدم مغادرتك لمنطقتك وغير مسموح لك بالتنقل، ومتى أردت ذلك يجب الإعلام مسبقا بيومين.
ما هي التهم التي وجّهت إليك، والتي بسببها دخلت السجن، وكيف كانت ظروف الاعتقال وظروف السجن؟
إنها التهم المعهودة والتي هي نصيب كل إسلامي، وأنا شخصيا وجّهت لي التهم التالية: الانتماء لجمعية غير مرخص فيها – عقد اجتماعات غير مرخّص فيها- التحريض على العصيان- الكتابة على الجدران- إعداد محل للاجتماعات- وقد قضيت سبع سنوات ونصف وأطلق سراحي، وفي نفس اليوم وبينما أنا بصدد تقبّل التهاني من طرف الأهل والجيران، وقع إعادتي للسجن من جديد من أجل نفس التهم، التي بسببها قضيت سبع سنوات ونصف، وقد أعيدت محاكمتي من جديد، وكان الحكم هذه المرة 9 سنوات وثلاثة شهور، وقد قضيت إجماليا خمسة عشر عاما وثلاث شهور، وقد طرحوا لي سنة ونصف، أما ظروف الاعتقال فلا يمكن أن تتصور العذاب وبأشكال مختلفة، منها المعروفة للجميع “الدجاجة المشوية” والفلقة، واللكمات وصب الماء البارد في حالة الإغماء، والمبيت ليالي كاملة وأنت مقيّد، والضرب المبرّح على الأجساد العارية،هذا بالإضافة إلى الكلام البذيء والاستفزاز الكبير، وأوله سب الجلالة في كل لحظة والقسوة التي لا مثيل لها، ويتواصل العذاب في السجن، حيث تنتفي تماما كرامة الإنسان، فهناك يا سيدي عالم آخر وواقع متوحّش يعجز اللسان عن وصفه، وخصوصا بالنسبة للإسلاميين الذين ل!
ا تنتهي معاناتهم، بل هي امتداد للاعتقال، فالضرب متواصل لمجرّد مطلب بسيط، إضافة إلى العقوبات ” بالسلون” والعزلة وكل أنواع الحرمان، والمساجين الذين يحظون بالاحترام في السجن هم أصحاب القضايا الأخلاقية الشنيعة، وهؤلاء تسلطهم الإدارة على المساجين الإسلاميين لزيادة تنغيص حياتهم أكثر مما هي منغّصة، والظاهرة الملفتة والواضحة، هي تفشّي الرشوة وتكاد تكون بندا قانونيا مرخص فيه، باختصار السجن مهما حدثتك فلا يمكن أن تستوعب ما وراء الأسوار من انحطاط أخلاقي وقيمي، ومظالم وحكايات غريبة، وتعسّف على مساجين الرأي وخصوصا المساجين الإسلاميين، فالكل عليهم القوانين الحرّاس مساجين ذوي الصبغة العدلية مساجين ذوي الصبغة الأخلاقية، باختصار الكل مشترك في تدمير وتحطيم المساجين الإسلاميين…
ما هو حسب رأيك مصير بقية المساجين هل هناك من وعود لإطلاق سراحهم ولماذا لم يشملهم العفو؟
شخصيا لم أسمع بأي وعود، بيد أن ما لاحظته في المدة الأخيرة أن الإدارة وأجهزة الأمن بدؤوا يعاملوننا باحترام ويستمعون لنا، وسمعت أنه كان عندهم خبر بأن الأكثرية سيطلق سراحهم..
ما هي التأثيرات النفسية والفكرية لهذه المحنة وانعكاساتها عليك وعلى عائلتك؟
عائلتي عانت الكثير وتحملت بسببي كل لأنواع الإهانة والرعب والزيارات المفاجئة والمباغتة، والتي أساسها الترهيب، خصوصا وأن والداي طاعنين في السن وقد تعرّضا للإهانة، كما أن زوجتي وقع ضربها وإجبارها على طلب الطلاق، وتمّ ذلك تحت الإكراه، رغم أن لي ولد اسمه أيوب، ولد لما دخلت السجن، بخصوص تأثير سنوات السجن، فأنا مؤمن أنه لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا، وأومن بالقضاء والقدر، وما يهمني هو مرضاة الله وطاعته، وأصدقك القول أن السجن زادني قربا كبيرا وكبيرا جدا من الله، حيث أصبح هميّ الوحيد هو الاشتغال من أجل الآخرة، وأصبحت الدنيا ورائي، وقد كان السجن رغم قساوته فرصة لي أن حفظت فيه القرآن وهذا أعتبره مكسبا كبيرا.
في السجن هل كنتم على دراية ولو بصورة خافتة بالعمل الحقوقي، سواء في الداخل أو في الخارج الذي يقام لفائدتكم؟
هناك تعتيم إعلامي كبير وتام وكل شيء ممنوع، حتى الزيارات الكلام فيها ممنوع، وكل زيارة يكون معك عون، ومعه كراس يكتب أي كلمة وبالتالي فنحن في عزلة تامة عن الفضاء الخارجي.
سمعنا بالعديد من إضرابات الجوع التي تقام في السجون، فكيف كانت تتمّ في ظل الحصار الشديد هل كانت تتمّ بصورة فردية أو جماعية؟
الأكثرية بصورة جماعية، وكانت احتجاجا على فكّ المصاحف، وأذكر أنهم منعونا من صلاة الصبح، وقد أصدروا أمرا بصلاة الصبح بعد الساعة الثامنة صباحا، فقمنا بإضراب احتجاجيا على هذا الأمر، فاضطروا لإلغائه، وكذلك من أجل صلاة الجماعة، وهناك إضرابات فردية تخصّ المطالب الفردية.
كيف ترون هذا الإفراج هل هو مؤشر لغلق الملف، وكيف تعاملت معكم السلطة الجهوية في مدينتكم؟
في اعتقادي هناك مؤشرات إيجابية، ويظهر ذلك من خلال شكل تعامل أمن الدولة معي مثلا، هناك نوعا من الليونة والتسامح في الخطاب حين أذهب إلى مركز الشرطة للإمضاء، كما لاحظت معاملة مختلفة بعيدة عن الإهانة والإيذاء بالكلام الجارح، وهذا يبدوا لي وحسب اعتقادي نوعا من المؤشّرات..
بعد خروجك من السجن بعد كل هذه السنين، كيف بدا لك المجتمع التونسي، وما هي أهم المتغيرات التي بدت لك أكثر انتباها من غيرها؟
الأشياء الملفتة جدّا من وجهة نظري هي الانحدار الأخلاقي الشديد وعدم الحياء المكشوف، اللباس العاري والمظاهر المنافية للأخلاق في الشارع، وانتشار فيروس الخيانات الزوجية، وتفشّي ظاهرة الرشوة بشكل علني ودونها لا تقضى المصالح، كذلك التعتيم الإعلامي البارز، ومحاولة غبن الإسلام في كل تجلياته…
ما هي التحديات والعوائق التي تواجهك لاندماجك من جديد في المجتمع؟
أرى نفسي حقيقة غريبا، ومما زاد في غربتي هو أني أتحاشى الناس كي لا أسبب لهم إزعاجا أمنيا، حيث كلما يعترضني في الطريق العام بعض الأصدقاء والجيران، ولمجرد رد السلام والتحية يتعرضون لبعض الاستجوابات، لهذا فإني أتحاشى رؤية الناس حتى لا أسبّب لهم المتاعب حيث أني مراقب…
هل تعتبر سنين السجن تجربة وان كانت كذلك ففي أي اتجاه وما هي مخلفاتها؟
هي تجربة على ما فيها من معاناة إلا أنها زادتني قربا من الله وتمسكا بالإسلام وتمكّنا، عرفت فيها التضحية في سبيل مرضاة الله تعالى، وأعطتني جرعة روحية كبيرة جعلت كل الصعاب تهون في سبيل مرضاة الله، كما علمتني الثبات من أجل الدفاع عن القيم النبيلة قيم الإسلام، وعلمتني معنى الصبر وتحمّل البلاء والتشبّع بالروح الإيمانية، المقاومة لكل صنوف الاهتزاز والضعف..
في رأيك هل سنين السجن تساهم في تغيير الرؤى الفكرية، أم أن الزمن عند المساجين راسب في سنوات ما قبل المحنة؟
بصفة عامة الزمن في السجن متوقف عند سنين ما قبل المحنة، والسجين الإسلامي تحديدا ممنوعا من إي حق إعلامي سواء تلفزة أو راديو أو حتى جريدة قديمة، وهناك محاصرة وتعتيما كليا، بحيث يبقى السجين في حالة عزلة تامة عن الفضاء الخارجي، مما يجعل الزمن راسبا بكل ما تحمل هذه الكلمة من معنى..
لو نبشنا في الماضي حسب رأيك هل كان بالإمكان تفادي ما أمكن تفاديه وكيف ذلك؟
حسب تصوري كان يمكن تفادي هذه الكارثة، لو وقع تجنب المصادمة والقبول ببعض التنازلات مقابل بعض المكتسبات، حتى لا تختل كليا دفاعات المجتمع كما هو حاصل الآن، حيث أضحى المجتمع التونسي عاريا من كل حصانة روحية، ويفتقر لأدنى إصلاح، كان بالإمكان تفادي هذه الضربة القاسمة وهذا الانهيار السريع، والاكتفاء بمهمة الإصلاح دون الاستعجال السياسي، وعدم زجّ كل الأطر في معركة خاسرة، لم يقع لها الإعداد سياسيا وفكريا واجتماعيا وثقافيا، حيث حتى من كان بعيدا ولا ينتمي، فقط يؤمن بالإصلاح وقع ضربه، بعجالة لقد تحطمت صروح المجتمع وضرب الإسلام التقليدي بسبب سوء التقدير السياسي، حتى بات من يساند المشروع الإسلامي مساندة عاطفية، ومن بعيد أضحى فريسة لاضطهاد…
عادة الانتصار السياسي يحجب العيوب والعثرات حتى ولو كانت كبيرة، أما الإخفاق السياسي فيفتح أبواب الحديث على مصراعيها لإبراز مواقع الفشل والأخطاء، حتى ولو كانت طبيعية فما هي نظرة المساجين ؟
بالنسبة للمساجين الأكثرية يشعرون بألم، ويعبّرون عن لوم كبير تجاه الحركة التي لم تحسن التقدير في مواجهتها السياسية، وهناك نوع من الغضب تجاه المنهج والأسلوب الذي اتبع من طرف الحركة.
المساجين الإسلاميين منهم القياديين والقيادات الوسطى والمتعاطفين والمناصرين فكيف ينظر هؤلاء لهذه التجربة وهل من مراجعات وتقييم؟
هناك عتاب كبير من طرف الأكثرية، كان تصورهم أن الحركة كما يشاع من قبيل الأراجيف أنها قوية سياسيا، وكنا ننتظر ونعيش على بعض الأوهام، غير أن المدّة طالت فعرفنا ضعف الحركة، غير أننا لم نتصور أنها بمثل هذا الضعف، وتأكد لنا أن السلطة أقوى سياسيا..
في رأيك من المسؤول على هذه التراجيديا، هل هو تصلب السلطة أم العلاقة التصادمية، أم هي محاولة إقامة فخ سياسي أوصل إلى مثل هذه الوضعية؟
أتصور أن السلطة متصلبة جدا وحركة النهضة مغرورة جدا ولم تحترم التدرّج في السنن لهذا فإنها وقعت في الفخ من حيث لا تدري فكانت الكارثة التي التهمت الكل..
هناك تيارات داخل حركة النهضة تتجاذب الرؤى، بين من يطرح عفو تشريعي عام مقابل عفو فلبي عام، وبين من يطرح المحاسبة وبين يطرح العفو التشرعي العام، وبين من يقول عفا الله عما سلف وبين من يطالب بالعفو الإنساني، وبين من ينادي بإعادة التشكل وبين هذا وذاك، وأنت الخارج من السجن، هل هذه الآراء يطرحها المساجين؟
هذه الآراء تطرح، وأهمها العفو التشريعي العام، غير أنه يبقى مطلبا صعب التحقيق على الأقل في الوقت الحاضر، حيث يعني أن السلطة تعترف بأخطائها، وبالتالي فإن مطلب العفو الإنساني أكثر طرحا من غيره، حتى يخرج المساجين على الأقل من هذه الوضعية الأليمة..
ما هو النداء الذي تودّ توجيهه؟
أقول لحركة النهضة أن تصلح أمورها مع السلطة لتخفيف المضايفات على المساجين، ويكفي من العنتريات التي لا تزيد إلا في الضرر، وأن يستحوا ويتقوا الله في إخوانهم، فهم يوجدون في أوربا ويتكلمون بأريحية، ومن كان في الزنزانات الانفرادية والمآسي اليومية، ليس كمن كان في الخارج بعيدا آلاف الكيلومترات عن أرض الوطن..
****************
المصدر موقع العصر بتاريخ 17 / 5 / 2005
iThere are no comments
Add yours