بقلم مرسل الكسيبي

بسم الله الرحمن الرحيم

لاشك أن قراء هذا المنبر ورواد غيره من المنابر التي أحدثت ثغرة في جدار الصمت الاعلامي التونسي كانت على حالة من الترقب والقلق وهي تنتظر مايمكن أن تكون عليه ردود التيار المحافظ داخل النهضة كحركة وتيار تجاه سلسلة من الكتابات التقييمية والتحليلية لمسار الحراك السياسي على مدار أكثر من شهرين عجا بالحافل من الأحداث والتطورات التي كان لزاما على المهتم بالشأن العام التعليق عليها والتوضيح فيما لبس منها والتبين والتوقف فيما لم ينجل من أطوارها وحيثياتها,بل ربما تكون سهام المتأملين والمتابعين على مدارالسنوات الفارطة قد عاشت حالة من القلق والتأهب وهي تتحين المناخ المناسب للصدع بالرأي المكتوب بعدما جفت حناجرها داخل منتظمها الحزبي وأفقها الفكري وهي تطالب بالتنادي الى الوقاية قبل العلاج بل الى الاصلاح بعدما أن تعذرت الوقاية من حدوث الخلل والزلات.

اليوم أجدني مرة أخرى مرسخا لتجربة الحوارالسياسي الاصلاحي على صفحات الواب بعد أن اقتنعت بأن الشأن العام ليس شأنا تنظيميا داخليا وليس مسألة تحتكرها الأحزاب داخل دكاكينها الضيقة في تغييب للشعب والمواطن عما هو عليه حال البلاد والعباد , وللمرة الألف أؤكد أنني بعد أن ترسخت لدي هذه القناعات وارتاح اليها الضمير أمام الله والنفس بت لا أخاف على مابذلته من تضحيات في مدى زمني قارب العشرين سنة أو أكثر من مطرقة التنظيم وعباد الدكاكين مهما ضخم حجمهم واشتد بأسهم …اذ أنني أحتسب كل ضرر لحق بي وكل بلاء نزل علي عند الله جل جلاله وأقول أولا واخرا حسبنا الله ونعم الوكيل.

حينئذ نعود للحديث عن الاصلاح واتجاهاته وأدعو المحافظين الجدد من اخواننا في الوطن والدين من اللذين حركتهم الحمية على الوطن أو الغيرة على الحركة أو حتى من الذين حرضتهم القيادة على ذلك بعد أن باتت سياسة الناطق الرسمي المتخفي مرضا يصيب النخب والقيادات كلما دعت الحاجة الى المواجهة الشجاعة والتعاطي مع الملفات المطروحة في الساحة دون أدنى حرج.
الاصلاح الذي عنيناه -ونحن نتحدث في تواضع جم عاتبنا عليه أحد أقرب أصدقائنا ليس اتهاما نوجهه لأحد أو ادانة أردنا أن نثقل بها كاهل من نحب من بني وطننا- هو مطلب ملح لم نستمع اليه تساوقا مع الأجندة الأمريكية وانما هو دعوة ربانية أصلها في القران والسنة النبوية الشريفة وفرعها في الميراث الحضاري للفلاسفة والمفكرين ودعاة الرأي الحر على مدار تاريخ البشر.

و تداعيا حرا مع هذه الفكرة فهواصلاح مطلوب باتجاه أشخاصنا الضعيفة لأننا لم ندع لها الكمال والاكتمال ولذلك ندعوغيرنا الى توسيع دائرة النصح والمشورة حتى تكون كتاباتنا تعبيرا صادقا عن الرأي العام والضمير المغيب ولايدعي البعض بأننا حلقة ضعيفة في كوكبة السياسة أومجرد أشخاص لايهم شأنهم اذ العبرة بالمبادئ والأفكار! وكأن المبادئ والأفكار خلقت دون رجال يعتنقونها أوعقول تذود وتدافع عنها أوأناس يدحضون مااعتل منها أو تجاوزته تداعيات الزمان والمكان أو يراجعون مااضطرب منها على ضوء فقه النصوص القطعية ورودا ودلالة.

ولقد وددت في هذا السياق وتحقيقا للتعادلية والتوازن بين من أمسك بزمام سلطة الحركة ومن بقي في أسفل الهرم ينتظر قرارات القيادة أن تخرج اراؤنا جميعا الى حوار مؤدب وأخلاقي ولكنه واضح وصادق وشفاف وأيضا أخوي على صفحات الواب حتى لا تبقى للقيادة امتيازات احتكارالصناعة السياسية ورهن مصائرنا ومصائر غيرنا الى المتشنج من المواقف والبيانات والحال أن الشريعة والشرائع تتسع الى فقه الرخص وتقدمها في كثير من الأحيان على الأخذ بالعزائم.

كل هذا يقودني بوضوح الى الحديث عن مصداقية مانكتب في اطار المطالبة بالاصلاح وهنا أؤكد أن مانحبره من حروف وكلمات ومعاني متألمة وموجوعة لم يكن أبدا أجندة لاخرين يريدون تحقيق مطامحهم على حسابنا نحن معشر المشاكسين , فماكتبه الأخ الهاشمي الحامدي على سبيل المثال لم يكن لدينا الا نصا بشريا مقروءا أخذنا منه ماأخذنا ورددنا منه مارددنا ولكن لم تغلب علينا حزازيات الصراع كما فعل اخرون تورطوا فيه معه بل أردنا أن نصل ماانقطع ونصلح مافسد من أجل أن تكون المصالحة الوطنية الشاملة ليس مجرد شعارات جوفاء وانما تصديق بالعمل.

ولو رجعنا الى روح الشريعة السمحاء بعد ابعادها عن نزوات ونزغات اهواء ابن ادم فان الصلح اللذي نشدناه كان اختبارا منا لمدى استعداد الأنفس لتجسيده في الصف الاسلامي الحركي قبل أن نرفع مطلبه الى المعارضات الأخرى أو الى سلطة الاشراف اذ أن العفو قبل أن يكون من شيم الكرام هو مطلب الهي عظيم شرفه الله بايات أحسب والله أعلم أنها من أعظم اي القران الكريم “وسارعوا الى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض اعدت للمتقين133 اللذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين 134واللذين اذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب الا الله ولم يصروا على مافعلوا وهم يعلمون 135أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم وجنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ونعم أجر العاملين 136- ايات كريمة مقتطفة من سورة ال عمران –

بعد هذا كله هل مازال لبعض الاخوة أن يشككوا في نوايانا أو بعض الأطراف أن تحمل الأمر على دروشة سياسية في غير محلها فالحنكة السياسية ليست حكرا على أحد وانما عين الحنكة أن تفك المعارضات اشتباكاتها الداخلية قبل أن تتحدث عن فك الاشتباك مع السلطة .

واذا كان الاصلاح المرجو في مستواه الأفقي مطلوبا أي بين الأخ وأخيه فان اصلاح السياسات وماترتب عنها من مفاسد ظاهرة بات اليوم أوكد من أي وقت مضى ,ولا يكفي أن يكون الأمر حبرا على ورق اذ أنني أعلم أن النهضة التي أحببناها ومازلنا ننشد فيها الخير والاصلاح خلدت ملحمة أدبية وسياسية في أواسط التسعينات عندما أدانت جزءا من تاريخها وأقرت بسلسلة من أشنع أخطائها وعدلت بوصلة تطلعاتها على التواضع الى الاخرين وتقديم تنازلات عظيمة من أجل ترسيخ مصالح الأوطان وتثبيت عرى الهوية وابعادها عن روح الانتقام السياسي.

ان ماننشده اليوم في بعد عن كل مزايدة هو الرجوع الى الحق والفضيلة وتثبيت هذه الأدبيات في سياسات عملية نلمسها في الخطاب السياسي والمبادرات العملية الجادة والمجددة التي تفك الاشتباك قطعيا مع سلطة الاشراف ومع المحترزين داخل الصف المعارض وترتيب البيت الداخلي والوطني على قاعدة المشاركة لا المغالبة والمساهمة لا الاحتكار والنسبية لا الرغبة في الانتصار.

أما في اطار العلاقة بالمنتظم الدولي فأبارك مسار الحركة اللذي قطع مع فقه التشرنق وامتد الى روح الوصال والتعاون مع كل شركاء تونس واصدقائها ولا أظنني هنا محترزا الا على جزء واحد ألا وهوالمتعلق برؤية قيادة الحركة لطبيعة العلاقة مع سلطة الاشراف الحالية اذ أنني أدعو صراحة الى توظيف هذه العلاقات من أجل تعزيز اللحمة الداخلية وتثبيت المكاسب وقطع الطريق على كل المحرضين على سياساتها الداخلية برغم اختلافي الواضح مع جزء منها وذلك تقديرا مني الى أن الخارج اذا مارتأى الدخول على خط الصراعات الداخلية فانه لن يرحم ضعفنا وبعدها تأتي الأجندات الخفية.

مرة أخرى أدعو قيادة هذه الحركة الى الالتفات الى معاناة الناس داخل الوطن ولا أقصد هنا أن سلطة الاشراف لم تقدم حلولا أو علاجات ولكن أعتبر أن هم المواطن ليس هما سلطويا فقط أي هو واجب الحاكم حصرا وقصرا وانما هو واجب الجميع من اللذين ارتاوا في انفسهم اهلية المشاركة في الحياة السياسية العامة ولا أجدني هنا الا مناديا مرة أخرى سلطة الاشراف كي تضع حدا نهائيا لمأساة المساجين السياسيين كما أدعوها الى ايقاف كل المحاكمات ذات الطابع السياسي وأعتبر ذلك من طرفها مدخلا الى كل اصلاح حقيقي شامل ولايفوتني في هذا السياق تثمين كل انجازعرفته البلاد على مدار حوالي عشرين سنة وأقدر أن شموع الانجاز سوف تشتعل بعد سنتين وقد أخليت تونس من سجناء الرأي وأعلن العفو التشريعي العام ودخلت تونس ساحة الاعلام الحر والتأم شمل الجميع حكاما ومعارضين من أجل تدارس القضايا الوطنية الكبرى في بعد عن المزايدة والاتهام وحديث السجن والسجانين.

والى مصافحة أخرى باذن الله نعانق فيها الأهل والأحباب وتراب الوطن ونشتم فيها رائحة تونس والياسمين.

أخوكم مرسل الكسيبي

ألمانيا الاتحادية

في 1 ربيع الثاني 1426 ه

الموافق لتسعة ماي من سنة2005 م