7-novembre-bis

بقلم إسماعيل دبارة، صحافي تونسي،

في مسيرتنا الشاقة والطويلة نحو التحرّر والانعتاق والتغيير نحو الأفضل والعيش في رفاه وأمن، نرتطم بأحجار الواقع المُعقّد والمتشابك، والتي تكون في أحيان كثيرة، أكثر صلابة من عزيمتنا وإصرارنا وقوتنا وارتفاع منسوب أحلامنا وطموحاتنا.

الناجحون ينتمون إلى الصنف الذي يفضّل تغيير المسار على تحطيم أحلامه على صخور الواقع الصلبة، فتلك الصخور والنتوءات لن تتضرر من الارتطام، ولو أنه سيؤثر فيها ولو قليلا، أما طموحاتنا فقد تُنسف وتتبدّد ونخسرها إلى الأبد.

هنا تأتي الحاجة إلى المراجعة والنقد المستمرين، والتحلي بالقدرة على التعامل مع معطيات الواقع وعناصره المفاجئة والمباغتة والتي تتجاوز قدرتنا على الاحتمال والصبر، وهنا أيضا تأتي الحاجة إلى سلوك مسارات أخرى قد تكون أطول وأكثر إرهاقا لنا، لكنها بالتأكيد أقّل كلفة من الاندفاع سريعا والارتطام ثم التفتت والفناء.

إعلام السابع

طريقة تعاملنا مع (اعلام 7 توفمر) تُثبت الحاجة إلى تغيير المسار، أو لنقل، الاستعداد لمحاولات كثيرة وسلك مسارات متعددة أملا في الوصول إلى اعلام نعتقد أنه يليق بتونس.

نقصد بـ(اعلام 7 نوفمبر) ذلك الاعلام الذي لم يعترف بهامش الحرية الذي اتيح للشعب التونسي ولصحافييه ولمؤسساته منذ التغيير الحاصل بموجب حراك 17 ديسمبر 2010، والذي بلغ مداه وأقصاه، يوم 14 جانفي 2011، تاريخ رحيل زين العابدين بن علي عن تونس، وتصدّع أركان نظامه.

وهو الاعلام الذي يُحمّله قطاع واسع من التونسيين مسؤولية كبرى في إعادتنا إلى ما قبل 17 ديسمبر في ظرف وجيز، وإدخالنا في ورطة إعادة «التجمع الدستوري الديمقراطي» إلى الحكم بعد أن رحل بالكثير من الدماء والتضحيات.

ومن مميزات ذلك الاعلام، هو تناقضه الجوهري، مع الأهداف والوظائف التي لأجلها ينشط الإعلام ويوصف بالسلطة الرابعة، ومن ذلك: تزييف الوقائع، الولاء للمال والمصالح قبل الحقيقة، التلون بألوان الطيف السبع حسب المتاح والمنفعة، ازدراء ذكاء المتلقي، والحنين إلى منظومة الدعاية السوداء.

هذا الاعلام لا يقتصر على أشخاص نعرفهم، أو مؤسسات عايشنا أدوارها سابقا، لأنه شمل بعد رحيل بن علي، وجوها وشخوصا ومؤسسات جديدة، لم تكن موجودة، وبعضها كان يحسب على «المناضلين»، لكنها تعمل جميعا وفق ذات الآليات وتستعمل ذات المفاهيم، وتتقمّص ذات الأدوار، حتى إن اختلفت ولاءاتها وأولياء نعمها، ولذلك هي تستحقّ تصنيفها ضمنها جوقة (اعلام 7 نوفمبر) الذي نعمل على تفكيكه أو الحدّ من تأثيره.

الطريق المسدود

سنتساءل الآن سريعا عن السبب الذي جعل الإعلام التونسي ينال النصيب الأكبر من النقد منذ رحيل زين العابدين بن علي، وعن السبب الذي يجعل سمعة الإعلاميين في الدرك الأسفل، وعن السبب الذي يجعل الصحافة التونسية تعجز عن استغلال الهامش الواسع من حرية التعبير الذي أتيح لها منذ انطلاق المسار التحرري صبيحة 17 ديسمبر 2010؟

من المهم الإشارة والتنصيص على أنّ البحث عن حلول ذات جدوى وقيمة تهمّ مجال الإعلام لوحده، هو حرثٌ في بحر متلاطم، ومحاولات يائسة لاستئصال جزء من ورم تفشى في كامل الجسد، ورم من الصعب أن تهزمه في عضو بعينه والحال أنه استفحل في كامل الجسم، وحتى إن فعلت وهزمته وحاصرت تمدده في عضو بعينه، فلن تستفيد من ذلك طالما أنّه يهتك ما تبقى من أعضاء حيوية للجسم.

لنقل إنّ السبب الرئيس الذي أفشل استراتيجيا إصلاح اعلام، هو محاولة عزلها عن سياق الإصلاح عامة، فهذا القطاع مرتبط بإصلاح أوضاع المؤسسة الأمنية والإدارة والقضاء والثقافة والتعليم وكل مجالات حياتنا، وهو إصلاح لم يبدأ بعد، أو بدأ بتعثّر، أو بدأ بسوء نية فتعثّر، فعدنا إلى نقطة البداية.

نحن نبحث منذ زمن عن حلول «اعلامية» منفردة لتحسين أداء إعلامنا ليصل إلى المستوى العالمي، وهذا هو المستحيل بعينه، فالإعلام التونسي، ليس أكثر من مشروع تونسي كسائر المشاريع الأمنية أو الصناعية أو الفلاحية أو التجارية أو الثقافية أو العمرانية، وهذا المشروع كما لاحظنا يدار بالمناهج ذاتها التي تدار بها بقية المشاريع، وفي المناخات الثقافية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية ذاتها، وبالتالي تتمثل في إعلامنا سلبيات وإيجابيات تلك الظروف التي نعيش على وقعها، وهي ظروف تمثل «حالة فشل عامة» يتخبط فيها المشروع التونسي برمته، ولا نرى له نورًا في نهاية النفق.

وعليه، من غير الممكن عزل مشروع «إصلاح الإعلام» عن كل ما تعيشه تونس من ظروف وإمكانيات ووسائل وثقافة يخضع لها كل ما يقع فوق أرضها وتحت سمائها، وإن كان هذا لا ينفي بتاتا أن للإعلام ظروفا خاصة ينفرد بها، أو «مشاكل خاصة» قد تميزه عن بقية المشاكل التي تواجه قطاع الرياضة مثلا أو الثقافة أو الأمن أو القضاء… إلخ.

بالنتيجة، على كل من يتحلى بالشجاعة للتقدم لإصلاح الإعلام التونسي، أن يكون واعيا بأنّ المسيرة تتطلّب سياق إصلاح شامل، لا معنى للعمل ضمنه إن لم تسر فيه العملية بذات النسق والصدق في كل القطاعات ذات الأهمية القصوى أو الأقل أهمية، بشكل متوازٍ ودقيق ومتزامن، فالإصلاح صيرورة وإرادة قوية قبل كل شيء، ومن الصعب جدا تحقيق الإصلاح في مجالات دون أخرى نظرا لترابط وتكامل وتشابك المصالح والأدوار والأهداف في الدول الحديثة، وما دون ذلك، هو سير في طريق مسدودة بصخور صلبة لا تقهر.

ملامح الانكفاء

يتعامل الصحافيون مع دفقِ أخبار آنية لا وجود لقوة في الأرض تبدو قادرة على حصرها وتحليلها والتثبت من مصداقيتها، ويخلّف هذا السياق الذي يشتغل فيه الصحافيون في تونس -على افتراض حسن النية- ضغطا مضاعفا، يجعل هامش الخطأ يتسع يوما بعد يوم.

لكن، ما يُبذل من جهد ووقت ومال ومداد وموائد تُمد وتُطوى، وتدبيج لمواثيق أشهر المؤسسات الصحافية واسقاطها على ما لدينا، ومؤتمرات وندوات وملتقيات في الفنادق ومقار المنظمات، وفي أروقة الحكومة والأحزاب حول موضوع إصلاح الإعلام منذ أكثر من 4 سنوات، لم يعف بعض الصحافيين من الوقوع فيما يعرف بـ«الأخطاء البدائية».

وما يجري يكشف بوضوح أن طريقة المعالجة السابقة تُحصّل إلى الآن صفرا مستديرا لا يتناغم بتاتا مع كل ذلك الجهد والمال العمومي والخاص المهدور في «إصلاح الإعلام».

الكثير من «الأخطاء البدائية» التي يرتكبها الصحافيون اليوم، هي نتاج عقلية (إعلام 7 نوفمبر) الذي نروم مواجهته بطرائق جديدة، فاجتزاء مقاطع الفيديو وبث الإشاعات أو تقاسمها أو الترويج لها أو التعليق عليها، لا يمكن أن يكون فقط «انعدام كفاءة» أو «ضعف تجربة» حتى نعالجها في سياق «الأخطاء المهنية» المألوفة، ومع تكرر هذا الصنف من التجاوزات، نكون أمام صحوة غير مسبوقة لإعلام 7 نوفمبر الذي انفرد طوال سنين بهذا النوع من العمل.

لم تكن النتائج بكل حال على قدر ما بُذل من جهد من طرف الصحافيين النقابيين، أو الهيئة التعديلية التي تشرف على القطاع السمعي البصري التي تتخبط في مشاكلها، أو مديري الصحف والدوريات أو المنظمات التي تعنى بالصحافة وحرية التعبير، أو من الحكومات المتعاقبة، ونعتقد أن ذلك يعود إلى تناول مسألة «اصلاح الاعلام» من المدخل الخطأ، أي تصور وجود حل منفرد وخاص لكل خطأ من الأخطاء التي يمارسها الصحافيون بمعزل عن السياق العام الذي يتحكم في كل جوانب حياتنا، ونعني تحديدا أفكارنا وأساليب إدارتنا لمشاكلنا، وهي إدارة لم تنتقل بعد إلى العصر ولا تبدو متوافقة مع روحه.

ما العمل إذا ؟

تختلف التقييمات كثيرا حول مسيرة أكثر من 4 سنوات مما يسمى ورشة «إصلاح الإعلام التونسي»، وحتى إن كانت المحصلة هزيلة للغاية، ومازال الإعلام يثير حفيظة السياسيين والمواطنين والعاملين فيه أيضا، فإن ذلك لا يعني ضرورة التوقف عما بدأناه. فكل الجهود التي بذلت هي حلقات من سلسلة تنقصها حلقة مفقودة على غاية من الأهمية، وهي أن عملية إصلاح صاحبة الجلالة تحتاج سياقا متكاملا ينشد الإصلاح ويقتنع به، سياق يعمل جاهدا على الخروج بثقافتنا وسلوكاتنا وانتظاراتنا مما نحن عليه اليوم، ومن ذلك تغيير الصحافي (بثقافته وسلوكه) وتغيير الجمهور أيضا (بثقافته وسلوكه).

يقال على نطاق واسع إنّ «كل شعب يحصل على الحكومة التي يستحقها»، وبقياس بسيط، يمكن القول إنّ «كل شعب يحصل فقط على الاعلام الذي يستحقه».

الإعلام هو خير مرآة لنا، ليس فقط لأن القائمين عليه بعض منا ونحن منهم وإليهم، ولكن لأنه بشكل أو بآخر ينتج ما نستهلكه نحن، وبالتالي لا بد وأن ينتج هذا الاعلام ما يرضينا حتى لا تبقى بضاعته كاسدة، ومن نكد العيش أن نخلص إلى هذه النتيجة، أي أن ما يُبث حاليا هو «ما يرضي جمهورنا» !

هذا المعطى قد يفسر – مع الكثير من الحزن والأسى- كيف امتلكت تونس آخر وكافة منجزات التكنولوجيا الإعلامية، وكادرا بشريا ذكيا، وإمكانات مالية هامة، لكن كل ذلك يوظف للدعاية والتلفيق وتملّق المسؤولين والسياسيين في الحكم والمعارضة، ونشر ثقافة التحايل على القوانين والكذب والارتزاق والتواكل والولاء لمن يدفع أكثر، إلى درجة أن أكبر الفضائح أمام المحاكم حاليا «أبطالها» صحافيون تفترض فيهم الاستقامة ونشر ثقافة المواطنة الصالحة.

الطريق الأسلم

مواجهة (اعلام 7 نوفمبر) بالتعاطي بالشكل الذي اشرنا إليه، أخذ منا خمس سنوات من الجهد والمال والوقت، وهذا الطريق الذي يعتقد كثيرون في صوابه، مكلف للغاية ويصطدم يوميا بانتصارات (اعلام 7 نوفمبر) الذي يتغذى على الرداءة والمال واللوبيات التي لن تجد أي مصلحة في اقامة اعلام ديمقراطي حر ومسؤول وقوي.

وربما حان الوقت لتغيير الوجهة، أو على الأقل، فتح جبهة ثانية ضده تكون بقلب الآية، والعمل وفق منهج «تغيير الجمهور عوضا عن تغيير الاعلام»، أي أن نصل في النهاية إلى تكريس ثقافة متأصلة لدى التونسيين تسمى مثلا «ثقافة التعامل مع وسائل الاعلام»، وبهذه الثقافة، التي تكون ركائزها القدرة على التمييز بين الغث والسمين في ما يبثّ من معلومات والتعاطي النقدي معها، ستنهار منظومة (اعلام 7 نوفمبر) تدريجيا وطوعا لأنها غير مؤهلة على التعامل مع جمهور يملك مقومات معالجة الرسالة الاعلامية بنفسه، ويتحلى بالفكر النقدي ويملك مقومات التمحيص والتثبّت والتساؤل والشك والتفاعل الايجابي، وينظر إلى الوقائع بمنظوره هو كمواطن واع ومسؤول لا من منظار من يتصدرون المشهد حاليا ويدعون الوصاية على الحقيقة وعلى العباد.

حلول ممكنة

ناضل طلاّب معهد الصحافة وعلوم الإخبار كثيرا من أجل فرض مادة «التربية على وسائل الاعلام» منذ الصفوف الابتدائية وحتى الوصول إلى الجامعة، ورغم أن الغاية الأساس من ذلك المقترح كان استيعاب العدد الهائل من الصحافيين العاطلين عن العمل حينها، إلا أن الفكرة مع بعض التطوير قد تكون حلا للتصدي لثقافة التلقي السلبي لرسائل (اعلام 7 نوفمبر) التي استطاعت الانحراف بمسار التحرر الى ما نحن عليه اليوم من عودة غير مسبوقة لوجوه الصفيح في السياسة والاعلام والبوليس والقضاء والمحاماة والإدارة وغيرها من القطاعات.

وهذا الحلّ المتاح، يحتاج كما أشرنا سابقا إلى وجود ورشة مفتوحة حول إصلاح التعليم، تسير بالتوازي مع ورشة إصلاح الاعلام، واقتناعا من أهل الذكر بأنّ إدراج مادة كهذه ضمن المقررات التربوية سينتجُ جيلا قادرا على وقف التلاعب بالعقول والمشاعر من طرف الإعلاميين المرتزقة والمؤسسات الاقتصادية والبوليسية الفاسدة التي تبرز في شكل «ميديا» تتغول يوما بعد يوم مستفيدة من حملة تجهيل وتجريف استهدفت التونسي في عقله وعاطفته ووجدانه.

من الحلول الممكنة الأخرى، التي قد تساعد التونسيين على كبح جماح تغول اعلام «الاجتزاء» و«التلفيق» و«التخويف» و«الدروشة» و«الكنوز»، تشكيل جمعيات تحمي الجمهور من سطوة الاعلام، بعد أن تم تشكيل جمعيات ونقابات تحمي الصحافيين من البوليس والأعراف. ويمكن لهذه الجمعيات أنّ تستفيد من الأخطاء الشائعة التي اقترفها (اعلام 7 نوفمبر) لدراستها وتقديمها في قالب سلس وبسيط للمهتمين بتغيير تعاطيهم مع الرسالة الإعلامية وللمقتنعين أن وقت التغيير قد حان.

يمكن كذلك للمحامين والمهتمين، النضال من أجل تقريع ممارسات يرتكبها صحافيو (اعلام 7 نوفمبر) بشكل يومي وتمضي دون عقاب، كترويج الإشاعة ونقلها والتعليق عليها وإعداد البرامج على أساسها أو التشهير بالمخالفين وهتك أعراضهم والتدخل في خصوياتهم، فالتنديد المستمر بالتجاوزات أمام الرأي وعبر كل منبر متاح، يجعل جمهور (اعلام 7 نوفمبر) يتقلّص باستمرار ويتلمّس طريقه نحو الشكّ في ما يصله من أخبار وأرقام ومعطيات.

يمكن أيضا استغلال المنابر الإعلامية التي لا تُصنف ضمن صحافة 7 نوفمبر للتعليق على مصداقية ما يُنقل، والاستفادة من بعض التجارب على مواقع التواصل الاجتماعي، التي يعود لها الفضل عادة في الكشف عن نقل جزء من الحقيقة وفضح «الاجتزاء» و«التلفيق» و«اخراج الأحداث من سياقها» أو الترويج لأحداث سابقة على أنها وقعت حديثا أو استعمال صور ومقاطع فيديو قديمة في أحداث لا تمت لها بصلة…إلخ.

نحتاج حقا إلى تغيير ثقافة جمهور الصحافة التونسية بشكل ثوري، ونحتاج حقا إلى تكوينه وتدريبه على مواجهة التوجيه والتزييف والتلفيق الذي يتعرّض له منذ عقود، فالوضع لم يعد يحتمل أو يطاق طالما أنّ المواطن البسيط تساوى مع الأستاذ الجامعي والسياسي والنقابي اليوم في التقبل السلبي لرسائل الإعلام، والتورط في الترويج للتزييف والإشاعات، بل والدفاع عنها أحيانا !
ستكون ثورة صحافيينا على ذواتهم وثورة الجمهور على ما يعتقد أنها ثوابت وحقائق، نقطة تحول حقيقية في مسيرة طويلة توقف الانحدار المهني والأخلاقي الذي يعيشه الإعلام التونسي المعادي لحرية شعبه، وتؤسس لصحافة محترمة بديلة تنير دربنا الشائك وتساعد الملايين على تلمّس طريق الرفاه والنهضة والالتحاق بركب العالم السعيد وتطليق الفوضى والعشوائية والتخلّف.