Uncategorized

يحس العقل البشري بمحدوديته كل حين. ولكنه، تجاه المسألة الدينية مارس إلى أقصى حدٍ تجربة المحدودية وعرف صعوبة تجازوها وإمكانيته. هنا، في هذا المجال، انعقدت وتراكمت سلسلة من التجارب الحسية، تجري اليوم محاولة لفهمها بصورة أفضل. وهذا ما قمنا به، عندما تفحصنا الظروف الاجتماعية والتاريخية للحياة الدينية في إسلام اليوم. ويبقى علينا أن ننظر في اللغة التي هي الفضاء الذي فيه ترتسم ما حفظته الذاكرة الجماعية (الدائمة في عملها الانتقائي والتزويري) من المعاش الاجتماعي التاريخي.

ومهما غصنا في أعماق التاريخ الزمني لأي دين، نصطدم بهذا الحد (الذي لا يمكن تجاوزه؟)، حد الظرف التاريخي واللغوي، عند الإنسان: إن فضاء التواصل لا يغطي تماماً فضاء الواقع: أو هو يوسِّعه بفضل فيض الحس، أو هو ينقصه ويضيقه من جراء توزع الحس وضياعه، أو هناك تطبق (اللغة الدلالية، بالنسبة إلى الأشياء المحددة). إن اللغة الدينية تتميز عن غيرها من اللغات، في أنها تعرض صوراً رمزية للحياة أكثر مما تقدم تعابير مباشرة عن الحياة والوجود. لقد اكتشفت اللغة الدينية، بشكل فريد نادر المثال، (بعض اللغات الشعرية تقترب منها) الوظيفة الرمزية.

ولكن في العلاقات العادية القائمة بين الناس واللغات ـ وهذه العلاقات هي عائق أخذ يُفرض علينا ـ تبسط الرمزيات، وتوجز بإشارات، أو ربما بعلامات تدل على معاني واحدة، والرمز الذي يشغل الفكر دوماً يُستعَاض عنه، عندئذٍ، بالأمر، أو القاعدة المحددة، أو البلاغ: وهذا ما حصل ويحصل أيضاً فيما خصّ اللغة القرآنية.

ولكي يُفهَم قصدنا من الرمز الديني، نذكر ملاحظة مضيئة للقديس أوغسطين:

“بالنسبة إلّي، إني أقول بجرأة، ومن صميم القلب، إذا أُتيح لي، عن طريق إحدى كتاباتي، أن أصل إلى ذروة السلطة، فإنني أفضل أن أكتب بشكل يجعل لكل فكرة يدركها أي كان، صدىً منبثقاً من كلامي، لأن ذلك خير لي من أن أقتصر على فكرة واحدة حقة، شبه أكيدة تستبعد كل الأفكار الأخرى العارية من أي زور يجرحني”.

ليس من قول يعبر ويميز الكتابة الدينية أفضل من هذا القول. وكلام القرآن يحقق بالضبط الغاية المنشودة التي عبّر عنها أحد أكبر المتمرسين بالكتابات الدينية: كل الحقائق، وكل التوق، والآمال التي خالجت وتخالج قلوب الأجيال من المسلمين تجد أصداءً لها قوية في عدد كبير من الآيات. إننا نعلم أن المسلم في حديثه وخطابه، وفي كل كتاباته، وفي كل مناسبة من حياته ـ غير الصلوات ـ يستشهد بآية أو أكثر مناسبة. وهناك عُرْف آخر يقوم على تزيين المنازل من داخلها بتدوينات الآيات على الجدران، وعلى عتبة الباب، أو على لوحات، مما نجد له مثيلاً في الجوامع، والمزارات والعمارات العامة. ومنن السهل تبيين أن النصوص تُخَتار، فضلاً عن الحافز الفني والديني، تبعاً لقوتها على إحياء الرمز القرآني في النفوس. وقد أُتيح لي أن أطّلع في عدة بيوت على الآية التالية:

(ولسوف يعطيك ربك فترضى) (5,93)

في إطار الآية الأول، كان الوعد موجهاً للنبي، في بداية رسالته يوم كان “يتيماً” “ضالاً” و”عائلاً”. ولكن الآية من حيث اللغة هي وحدة لغوية، بيانية، إنشائية قائمة بذاتها لا تحتاج لإطار لكي تبرز دلالاتها المتنوعة المتجددة مع الأوضاع، بالنسبة إلى كل مستمع أو قارئ. ونجد فيها أدوات التخاطب “أنا وأنت” التي ترد في كل الصياغات القرآنية، كما نجد فيها أحد الطروحات المنظمة للرمزية الدينية (فضل الله/ الاعتراف بالجميل، والعبادة). وبعد التواصل المحدود المقصور على وقت النزول، تعمل الآية على بعث الحضور الرحماني الكلي القدرة لكل نفس راضية مطمئنة لأنها سعيدة أو هي في حالة البؤس والتعاسة.

هذا الانتقال من حالة خطاب محددة ـ عرضة لكل التصويبات السوسيولوجية والتاريخية، والسيكولوجية ـ إلى عالم من المعاني التي تتجاوز الفرد والمجتمع والتاريخ، يتأمّن ويتحقق بفضل عدد كبير من الآيات التي تعمل، بآنٍ واحد، كمجرد وحدات تركيبية وكوحدات ذات بنية رمزية.

ويمكن إبداء ذات الملاحظة بشأن كل اللغة القرآنية. من وجهة النظر هذه، من العبث إذكاء الخصام المستمر منذ قرون بين القائلين بنظرية لاهوتية حول الرمز وأولئك الذين يقفون عند التحليل المتعلِّق بالدلالة.

في نظر الأولين، إذا تكلم الإسلام عن السماوات السبع والأراضين السبع وعن الخطأ والخير وعن الألم وعن السعادة… فإننا نجد فيه رموزاً ذات معنى بلاغي، إنما دون إنكار المعنى الحسابي أو “الواقعي” للكلمات والتعابير. ونفس الشيء بالنسبة إلى المسيحيين، قيامة المسيح ليست ذكراً رمزياً فقط، بل هي حدث فعلي، مؤرخ وموقَّع. إن العالم بالدلالة يكتفي بالقول بأن الرمز لا هو حق ولا هو باطل وأنه، بخلاف الإشارة اللغوية، يقيم علاقة غير ضرورية بين فضائين غير قابلين للقياس (رامز/ مرموز). المهم أن فضاء الرمزية الدينية هو مكان تفتح سيكولوجية غريبة تؤدّي بذاته إلى سلوكات ذاتية خصوصية. وأنه بسبب وجود وعي للخطيئة التي أوجدتها الرمزية القرآنية، لا يندمج أي تغيير اجتماعي ضمن النسيج الوجودي للمجموعة، إلاّ بعد صدامات مختلفة الشدة. وهذا ما يفسّر اللجوء إلى الهيئات صاحبة الصلاحية لإضفاء الشرعية أي لإنقاذ تماسك داخلي مشترك بين كل المؤمنين. يرتكز التغيير على الرمزية لكي يفسح لنفسه مجال القبول، في حين أن الرمزية تطلق، بمناسبة كل تغيير، واحداً أو أكثر من المعاني الاحتمالية الكامنة. عندما يكون التاريخ بطيئاً، والتغيير خفياً، تنزع الرمزية إلى أن تكون مجرد مجموعة من العلامات تدل، بصورة ميكانيكية، على سلوكات وعلى صيغ مركَّزة مستقرة. وعندما تتزعزع المجتمعات بفعل الأحداث الداخلية أو الخارجية الكبرى ـ وهذا ما هو حاصل منذ دخول الغرب الحديث إلى المجتمعات الإسلامية ـ تصبح الرمزية بغية الجميع بإلحاحٍ، ولكن إجاباتها وصيرورتها، في الإطار الجديد، تتعلّق بالوضع الاجتماعي الثقافي لكل مجموعة أو طبقة.

……………………….

المصدر : الاسلام.. الأمس والغد

ترجمة : علي المقلد