في العقود الأربعة الأخيرة، قدم ثلاثة مفكرين شيعة من الجنسيتين العراقية واللبنانية ثلاث نظريات يصح أن تجمل تحت حد نظرية واحدة نطلق عليها اسم الحكومة الإسلامية الانتخابية. ومع ملاحظة النقاط المشتركة الكثيرة بين آراء هؤلاء المفكرين، يمكننا أن نعتبر كتاباتهم ثلاثة تقارير مختلفة لنظرية واحدة، وليس ثلاث نظريات

JPEG

التقارير الثلاثة هي:

1- تقرير الشهيد آية الله السيد محمد باقر الصدر (ره) في سنة 1378ه‍، الذي سجّله في التعاليم الحزبية لحزب الدعوة (الأسس الإسلامية). وقد أشرنا إلى أن هذه كانت النظرية السياسية الأولى للشهيد الصدر، وقد عدل عنها فيما بعد مع تطور فكره السياسي، علماً أنه يستعيد بعضاً من نظريته الأولى هذه بوضوح في نظريته الأخيرة، خلافة الإنسان وشهادة (إشراف) المرجعية.

2- تقرير المرحوم آية الله الشيخ محمد جواد مغنيه (ره) 1325 – 1400ه‍) وقد عرض الشيخ نظريته هذه في آخر سنة من حياته في كتاب الخميني والدولة الإسلامية.

3- تقرر المرحوم آية الله الشيخ محمد مهدي شمس الدين الفقيه اللبناني المعاصر الذي نشر سنة 1410 ه‍ نظرية ولاية الأمة.

سوف نقوم في البداية بعرض ما كتب أولئك المفكرون من آراء، ثم نقدم نظرية الحكومة الإسلامية الانتخابية، على ضوء الأسس المشتركة فيما بينهم.

التقرير الأول: رأي الشهيد الصدر

(1) الإسلام مجموعة العقائد والشرائع التي جاء بها الرسول الأعظم (ص) من لدن الله عز وجل. والعقيدة هي المفاهيم المنزلة حول الخلق والخالق والحياة السابقة واللاحقة، وموقع الإنسان ومسؤوليته أمام الله، أما الشريعة فهي القوانين والنظم التي تشمل وتنظم سائر نواحي الحياة الإنسانية الروحية والفكرية الاجتماعية الاقتصادية والسياسية، إلخ.

(2) المسلم على قسمين: واقعي وظاهري، والمسلم الواقعي هو الذي يعتقد بوجود الله واليوم الآخر ورسالة النبي، ويعبّر القرآن عن المسلم الواقعي بالمؤمن في مقابل الكافر، أما المسلم الظاهري فهو الذي يشهد بوحدانية الله ورسالة النبي (ص)، ولا ينكر ضرورياً من ضروريات الدين، ويعتبر هذا مسلماً، حسب عرف الدولة، له ما للمسلمين من حقوق، وعليه ما عليهم من واجبات.

(3) الحكومة الإسلامية صاحبة الحق الشرعي في جميع أنحاء الكرة الأرضية، وعلى كافة سكان المعمورة إطاعة الدولة الإسلامية. وتختلف معاملة الدولة الإسلامية للناس حسب إسلامهم أو عدم إسلامهم، وكونهم أهل ذمة أو من سائر الكفار، ولكن من الناحية العرفية فالوطن الإسلامي هو المكان الذي يسكنه المسلمون في جميع أقطار العالم.

(4) الدول على ثلاثة أشكال:

أ- الدولة القائمة على قواعد فكرية مضادة للإسلام، كالدول الشيوعية والدول الديموقراطية الرأسمالية.

ب- الدولة التي لا تملك أية قاعدة فكرية، كالدول التي تقوم على أساس الإرادة الشخصية للحاكم، أو التي تقع تحت سيطرة الملل الأخرى وتدار على أساس مصالحها. وهذه الدول كافرة حتى إذا كان الحاكم أو الشعب الذي يخضع لها مسلماً.

ج- الدولة الإسلامية، وهي التي تقوم على أساس الإسلام وتستمد قوانينها من الإسلام، أي أنّ الإسلام يكون مصدرها للتشريع، وتبني نظرياتها على أساس المفاهيم الإسلامية، في مجالات الوجود والحياة والمجتمع.

الدولة الإسلامية على ثلاثة أنواع أيضاً:

أ- الدولة التي يسير التشريع والتنفيذ فيها بدون أي تقصير، وبصورة كاملة على أساس الإسلام. وهذه الدولة تتحقق مع حاكمية المعصوم عن الأخطاء والأهواء، مثل حكومة الرسول (ص) أو الإمام أمير المؤمنين (ع)؛ ويجب على المسلمين لمثل هذه الدولة الطاعة التامة وعدم عصيان تعاليمها.

ب- الدولة التي تتعارض في بعض أحكامها التشريعية والتنفيذية مع الإسلام، بسبب جهل الحاكم أو طبيعة الموقف الخاص. ويجب على المسلمين تنبيه الحكومة على مثل هذه الانحرافات دون أن يخلعوا طاعتها لا سيّما حيث يخطأ الحاكم عن حسن نية، أو في الأمور التي يجب المحافظة فيها على وحدة الكلمة (مثل الجهاد والضرائب…)، حيث يجب على المسلمين اتباع الحكومة والحاكم مع إمكانية العمل بالاجتهاد الخاص المخالف لاجتهاد الدولة في الأمور العادية التي لا تقتضي وحدة الكلمة.

ج- الحكومة التي تخالف القواعد الإسلامية الأساسية في التشريع والتنفيذ عمداً بسبب اتباع الشهوات أو الآراء الارتجالية، على المسلمين السعي إلى إسقاطها لافتقارها، بحكم مخالفتها تلك، إلى شروط الحكم كالعدالة، على أن لا يؤدي ذلك إلى الحرب الداخلية. وفي حال استمرار الدولة المنحرفة في الحكم، تجب إطاعتها فقط في الأمور التي تتوقف عليها مصلحة الإسلام العليا (مثل الدفاع عن حدود المسلمين في مقابل هجوم يشنّه الكفار).
عليه فالدولة لا تخرج عن الإسلام لمجرّد إخلالها ببعض القوانين الإسلامية.

(5) الدولة مظهر الوحدة السياسية العليا للشعب. وهذه الوحدة يمكن أن تقوم على أساس إقليمي أو قومي أو فكري. والمقصود من الوحدة الفكرية إيمان مجموعة من الناس بنظرية واحدة حول الحياة. والدولة الإسلامية دولة فكرية تلتزم بحدود الفكرة التي تؤمن بها، أما الرسالة الإسلامية فعالمية وليست إقليمية أو قومية.

(6) تلتزم الحكومة في الدولة الإسلامية برعاية شؤون الأمة حسب الشريعة الإسلامية، وتتحقق إسلامية الحكومة بأمرين: (أ) تطبيق القوانين الإسلامية المختلفة؛ (ب) إدارة المجتمع على أساس الإسلام.
أما أهداف الدولة الإسلامية ومهامها تتلخص في الآتي:

(أ‌) بيان الأحكام الشرعية (القوانين الدينية الثابتة).

(ب) إصدار التعاليم (القوانين التفصيلية التي تُقنَّن على أساس الأحكام الشرعية في الظروف الزمانية المختلفة)، حيث يتحصّل من مجموع هذه التعاليم النظام الإسلامي الذي يراعي في بقائه تلك الظروف الزمانية والمكانية والشروط المتعلقة بها.

(ج) تطبيق الأحكام الشرعية (الثابتة والمتغيرة) على الأمة.
(د) القضاء في المخاصمات التي تقع بين أفراد الأمة والدولة على أساس الأحكام (الثابتة) والتعاليم (المتغيرة).
للدولة الإسلامية شكلان:

الشكل الأول: الشكل الإلهي أي حكومة المعصوم (ع) التي تستمد صلاحيتها من الله بصورة مباشرة، وتعين من قبل الله بدون أي دور للأمة، أو لآرائها.

وتعتبر حكومة الرسول الأعظم (ص) بإجماع المسلمين وحكومة الأئمة الاثني عشر بإجماع الشيعة من هذا القبيل. وتشكل العصمةُ من الأخطاء والأهواء الضمانة الأساسية لحكومة كهذه.

ويمكن اعتبار المهمة الأولى لدولة الحاكم المعصوم (بيان الأحكام الثابتة) عملاً تبليغياً، والمهمة الثانية والثالثة عملاً حكومياً، والمهمة الرابعة عملاً قضائياً.

الشكل الثاني: الحكومة الشوروية، أو حكومة الأمة وتقوم طريقة الشورى على أساس الآية الشريفة (وأمرهم شورى بينهم) في الأمور التي لا مانع فيها من الله أو رسوله (ص). ومن الواضح أن مسألة شكل الحكومة في عصر الغيبة لم تبحث في أي نص خاص لدى الشيعة أو السنّة. والشورى شكل جائز في عصر الغيبة، ومن هنا يصح أن تقوم الأمة بممارسة سلطتها في تطبيق الأحكام الشرعية ووضع التعاليم وتنفيذها (الأحكام المتغيرة التي يسميها الشهيد الصدر بأحكام منطقة الفراغ، في المرحلة الثانية من تطور فكره السياسي)، على أساس الأحكام الشرعية الثابتة. وتختار الأمة حكومة محددة تتفق مع مصلحة الإسلام والمسلمين. وتعتبر مختلف أشكال الحكومة الشوروية شرعية ما دامت ضمن الحدود الإسلامية. وبالطبع فمن المرفوض قيام أي شكل من أشكال الشورى تعارض الأحكام الشرعية كتسليم زمام المجتمع الإسلامي إلى الحاكم الفاسق.

(7) الشروط التي يجب مراعاتها في حال عدم قيام الشكل الإلهي الخالص، وعدم وجود نص شرعي على كيفية خاصة للحكم في عصر الغيبة هي التالية:

أ- يجب أن تكون المؤسسات الحكومية وشكل الحكومة ضمن الحدود الشرعية، ولا تتعارض مع أي حكم شرعي ثابت.

ب- ينبغي أن ينسجم شكل الحكومة الانتخابية ومؤسساتها مع مصلحة الإسلام (وخاصة مع رسالة الإسلام العالمية).

ج- يجب أن تنسجم الحكومة الانتخابية ومؤسساتها مع مصلحة المسلمين، من حيث الرسالة الإسلامية، أو من حيث الرفاه المادي.

ومن الواضح أنّ رعاية الشروط الآنفة في اختيار شكل الحكومة الانتخابية ومؤسساتها المناسبة يتوقف على وعي الأمة بالإسلام من ناحية، والاطلاع على ظروف العصر والعلاقات الدولية من ناحية أخرى، على أن يتمتع جميع أفراد الأمة، نساء ورجالاً، بالحق في هذا الاختيار. وفي حال عدم حصول الوعي الكافي لدى أفراد الأمة يجب العمل على بلورة مثل هذا الوعي. وعند تبلوره على نحو كاف يتم انتخاب حكومة تتوفر فيها مقومات التصدي للحكم بواسطة الأمة.

(8) الأحكام الشرعية الثابتة تستنبط من الأدلة الأربعة، وهي تطبق بدون تغيير في كل الأماكن والأزمان. أما القوانين والتعاليم التي تتكفل بتنظيم الأمور الحكومية التفصيلية، والتي لا نص عليها في الشريعة، فهي بالنص تتغير حسب اختلاف الزمان والمكان، وتستنبط من الأحكام (الثابتة) الشرعية في ظل الأحوال والظروف المتغيرة.

وهذه الأحكام المتغيرة يمكن وصفها بالصيغة الشرعية، وذلك استناداً إلى أسسها، أي الأحكام الثابتة، ورعاية شؤون الأمة، وحفظ المصلحة العليا للإسلام والمسلمين.

(9) الأهداف الأربعة للدولة هي التالية:

أ- بيان الأحكام الشرعية الثابتة؛

ب- وضع الأحكام المتغيرة؛
ج- تنفيذ الأحكام الثابتة والقوانين المتغيرة؛
د- القضاء.
وإذا كانت هذه الأهداف لازمة للدولة غير أنها ليست جميعاً من شؤون رعاية الأمة، فالمهمتان الأولى والرابعة، أي الإفتاء والقضاء، من مهام المجتهدين الجامعين للشرائط، والأمة والحكومة الانتخابية لا حق لهما في بيان الأحكام الثابتة الشرعية ولا في نصب القضاة وعزلهم، وإذا وجد في الأمة مجتهد عادل واحد، وانتخب هذا المجتهد لرئاسة الدولة الإسلامية، يقوم هو بالتصدي لبيان الأحكام الشرعية وتنفيذها. وإذا كان هناك مجتهدون متعددون وكانت اجتهاداتهم تختلف، وكان على الدولة أن تتخذ موقفاً معيناً، فإنّ الحاكم يجب إما أن يكون مجتهداً أو يتبنى فتوى أحد المجتهدين. ولا يحق له في أية صورة أن يقف أمام اجتهاد أحد المجتهدين، وهؤلاء أحرار في بيان آرائهم. وفي غير هذه الحالة فإنّ الناس أحرار في العمل بفتوى أي مجتهد.

لا يحق للدولة أن تسلّم منصب القضاء لغير المجتهدين، ولا يحق لها أن تمنع أي مجتهد جامع للشرائط من ممارسة القضاء، وفي حال تعدد الفقهاء العدول الجامعين للشرائط واختلافهم في الأحكام التي يجب أن يتحد فيها القانون، يقوم الحاكم المنتخب باختيار أحد الأحكام. وعلى جميع الفقهاء الالتزام برعاية ذلك القانون (إما بالأصالة في حالة موافقة المجتهد لذلك القانون، أو بالوكالة من قبل ذلك المجتهد الموافق في حالة الاختلاف معه).

التقرير الثاني: رأي آية الله مغنية

وقد ابتكر موضوع الدلالات الاجتماعية واختلافها مع مداليل ألفاظ الروايات، ودور عنصر الفهم الاجتماعي في الاجتهاد والاستنباط. وقد كتب عشية انتصار الثورة الإسلامية كتابه الخميني والدولة الإسلامية، ومما جاء في مقدمته:
“قرأت كتاب الإمام الخميني الحكومة الإسلامية بشوق بالغ، وقبلت جميع أفكاره المستدلة ما عدا موضوعين، الأول هو أنّ الإمام الخميني يعطي كافة صلاحيات النبي (ص) والإمام المعصوم (ع) إلى الفقيه، ولكني لا أثبت إلاّ بعض الصلاحيات الحكومية للفقيه. والآخر هو أنّ الإمام الخميني يعتقد بأنّ الواجبات المالية في الإسلام ليست مقررة للفقراء فقط، وإنّما هي تشكل ميزانية الدولة الإسلامية، وأنا أعتقد أنّ الواجبات المالية في الإسلام موضوعة للفقراء والمساكين”.

يمكن تقرير نظرية مغنية بالشكل التالي:

(1) حاجة المجتمع إلى قيام الدولة ليست أمراً تشريعياً قابلاً للنفي أو الإثبات، وإنّما هي أمر ضروري وحتمي، والآيات والروايات التي تدل على ذلك هي إرشادية تحكي عن الواقع.

(2) عند حضور المعصومين (ع) فإنّ أمور الدين والدنيا ورئاسة الدولة وتنفيذ الأحكام من مهام ولايتهم، وعلى الجميع، راشدين وقاصرين وعلماء وجهال إطاعتهم.

(3) في حالة غيبة المعصوم (ع) تنحصر ولاية الفقهاء العدول بالفتوى والقضاء والأمور الحسبية، وعليه فولايتهم أضيق من ولاية المعصومين؛ ومردّ ذلك إلى افتقاد الفقهاء للعصمة وعلم الغيب.

وإذ تقصر الأدلة الشرعية عن إثبات أي حق للفقهاء العدول خارج دائرة الفتوى والقضاء والأمور الحسبية فإن الفقيه العادل لا يملك أية ولاية سياسية شرعية على الأمة، ولا ولاية للفقهاء على الأفراد الراشدين.

(4) الدين ليس بعيداً عن السياسة، ولا بد من تشكيل الحكومة في المجتمع من أجل تنفيذ الكثير من الأحكام الإسلامية، ولكن مهمات الدولة لا تنحصر في الأحكام الإسلامية، ولكن مهمات الدولة لا تنحصر في الأحكام الدينية، ولا نص في كثير من القوانين الاجتماعية، مما يدل على تفويضها للعرف والعقلاء. وفي هذا المجال يمكن الاستفادة من التجارب الإنسانية ما دامت لا تحلل حراماً ولا تحرم حلالاً.

(5) إنّ مقياس إسلامية أية دولة هو إسلامية القوانين والنظام، أي قيامها على الكتاب والسنة كما يستنبطها الفقهاء العدول. وليس المقصود من الدولة الإسلامية هيمنة الشيوخ والفقهاء على الحكومة واحتكارهم السلطة السياسية، وإنّما المقصود من ذلك أن تكون الشريعة الإسلامية مصدر كل القوانين والممارسات وميزانها، إذ إنّ كل ما يعارض الشريعة محكوم بالبطلان، والشروط الأساسية في إسلامية الدولة هي الكفاءة والعدالة والأمانة، وأن يكون هدفها النهائي إحقاق الحق وإزهاق الباطل، حتى يأمن في ظلها الأبرياء ويخافها المجرمون. وليس لرئيس الدولة الإسلامية أن يكون فقيهاً أو مجتهداً، ويكفي فيه الالتزام بالشريعة الإسلامية. ومن ثم فالمقلد الملتزم يستطيع أن يصبح رئيساً للجمهورية. وإنّ كل دولة تعمل بالإسلام هي دولة إسلامية حتى لو لم يكن رجالها فقهاء.
وكل دولة تتجاوز الضوابط الإسلامية ليست إسلامية، حتى لو كان أعضاؤها من خريجي النجف أو الأزهر. وإنّ إسلامية الحكومة ترتبط بالفعل وليس بالفاعل، وبالجوهر لا بالقشر والظاهر.

(6) ينتخب رئيس الدولة الإسلامية بواسطة الشعب، ما دامت المصلحة العامة في انتخاب كهذا، وأنه لا عصيان فيه لأوامر الله ونواهيه لا سيما أن الإسلام يؤيد حرية الناس، ونحن لا نعرف طريقاً سوى الرجوع إلى آراء الناس العامة. وبطبيعة الحال يكون انتخاب رئيس الدولة وهيئة الوزارة والمحافظين والمسؤولين من بين الأخصّائيين الأمناء.

(7) لا يختلف الفقهاء عن سائر الناس في اتباع السياسة التي ترتأيها الحكومة؛ ومهام الفقهاء تنحصر في ثلاثة أمور:

أ- استنباط الأحكام الشرعية من الأدلة التفصيلية، وبيانها بصورة قوانين واضحة وبعيدة عن التعقيد. وفي حالة عدم وجود نص في الكتاب أو السنّة، يقوم الفقهاء بالاجتهاد على أساس المبادىء العامة والمصلحة العامة، وعلى الحكومة المنتخبة العمل بتلك القوانين.

ب- القضاء على أساس الشرع المبين.
ج- الدعوة إلى الخير وإلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وفي سوى هذه الأمور يتساوى الفقهاء مع الناس.

(8) الثوابت الشرعية هي العقائد والعبادات وقوانين الإرث والزواج والطلاق، أما المعاملات فهي، بصورة عامة، الأحكام المتغيرة في الإسلام. والمعاملات كما هو معروف ذات موضوعات غير ثابتة.

التقرير الثالث: رأي آية الله شمس الدين

يتحدث آية الله الشيخ محمد مهدي شمس الدين، الفقيه المعاصر اللبناني، في بعض كتبه، عن موضوع الدولة، ويطرح في هذا الصدد أفكاراً تستحق أن توصف بالجديدة.

(1) الأحكام الإلهية الثابتة، أي الشريعة، أحكام نهائية ولا يجوز تجاوزها تحت أي ظرف. ومن الأحكام الثابتة الأحكام المربوطة بنظام العبادات ونظام العائلة والمسائل الجنسية (المتعلقة بجسم الإنسان وجسم الآخرين)، ومسائل الربا، ولا أحكام ثابتة في الشريعة الإسلامية غير هذه. بما معناه أن لا أحكام ثابتة في ما يخصّ النظام السياسي والحكومة، بل إن الأحكام التي تتكفل بتنظيم العلاقات الاجتماعية المختلفة، الاقتصادية والسياسية، والعلاقات الدولية، أحكام متغيرة ومرتبطة بالزمان، تتغير بتغير المصلحة الاجتماعية وينتهي مفعولها. وهي أحكام ناشئة من إرادة المجتمع في تنظيم أمور نفسه، وهي أحكام شرعية. ويطلق في الفقه على أحكام كهذه تعبير تبريرات، ويقولون: “إن التبريرات حتى إذا ذكرت في الفقه فإنّها ليست بأحكام شرعية، وإنّ كثيراً من المسائل غير الفقهية تبحث في الفقه”.

(2) بيان الأحكام الثابتة الشرعية من مسؤولية الفقهاء، وقد عيّن الفقهاء في زمان غيبة المعصوم (ع) بمنصب القضاء، أما أكثر من ذلك فلم يثبت أي دور خاص للفقهاء في مجال السلطة السياسية أو الحاكمية، كما لم تثبت الولاية العامة للفقهاء، ولا يعتبر الفقهاء نواب الإمام المعصوم في إدارة الأمور السياسية، ولا ولاية للفقيه على الأمة.

(3) في عصر غيبة المعصوم (ع) تملك الأمة الولاية على مقدراتها في إطار الشريعة الإسلامية، والإنسانُ مسؤولٌ عن نفسه والمجتمع وليّ نفسه. وذلك بسبب أن الأمة حاكمة على مصيرها ومقدراتها وتنتخب شكل النظام السياسي على أساس الشورى في جميع المراحل. ولا يعتبر الفقه شرطاً لرئيس الدولة الإسلامية المنتخب.

(4) يجب أن تنسجم الدولة مع طبيعة المجتمع الذي تنطلق منه، وأن تمتزج في أعماق الأمة وعقول الناس، وأن تستفيد من التجربة الإنسانية.

وتأتي شرعية الدولة في عصرنا من مراعاة الأمور التالية:

أ- الحفاظ على ثوابت الشريعة.

ب- الدفاع عن جميع أفراد الشعب المسلمين وغير المسلمين.

ج- توفير مقدمات التطور للثقافات الموجودة في المجتمع.
ولا أساس فقهياً لإقامة الدولة العالمية الإسلامية في عصر الغيبة.

أصول نظرية الحكومة الإسلامية المنتخبة بعد تعرفنا على التقارير الثلاثة من لسان القائلين بها، يمكننا توضيح نظرية الحكومة الإسلامية المنتخبة، كما يلي:

(1) تقوم الدولة الإسلامية (الإلهية المحصنة) على الشرعية الإلهية المباشرة والتعيين الخاص، ولا يمكن تحققها إلاّ في زمان حضور المعصومين(ع).

(2) في عصر الغيبة تنحصر مهمة الفقهاء بالأمور التالية:
أ- الإفتاء واستنباط الأحكام الشرعية الثابتة من الأدلة الأربعة.

ب- القضاء في الخصومات بين أفراد الشعب، وبين الشعب والحكومة.

ج- الإصلاح والدعوة إلى الخير.

(3) لا يملك الفقهاء، بسبب فقههم، أيّ امتياز سياسي على الناس، ولا ولاية شرعية لهم في إدارة الأمور السياسية بل يقوم الناس في عصر غيبة المعصوم(ع) بإدارة الأمور السياسية للأمة الإسلامية. ويستطيع الناس تنظيم أمورهم الاجتماعية على أساس المصالح في الظروف الزمانية والمكانية المختلفة، ويجب في الحكومة المنتخبة أن تراعي الأحكام الشرعية الثابتة مراعاة كاملة ومصالح الناس كذلك. وليس للناس، في أي حال من الأحوال، أن يتعرضوا لسنّ الأحكام المتغيرة بصورة تتعارض مع مصالح الإسلام والأحكام الشرعية الثابتة. أمّا شكل إدارة المجتمع والسياسة فأمر عقلاني ولابد من الاستفادة من التجارب الإنسانية، (بشرط عدم تعارضها مع الشريعة).

(4) شكل الدولة الإسلامية قائم على الشورى، أي لا بدّ من الرجوع إلى الرأي العام (أو آراء الأكثرية في حالة عدم التوافق)، في جميع الأمور السياسية ولابد من انتخاب رئيس الدولة من قبل الشعب.

(5) تتحقق إسلامية الدولة بإسلامية القوانين وانسجام النظام مع الدين ومتابعة أهداف الدين.

………………………………………..

* المصدر : نظريات الحكم في الفقه الشيعي