بولكستاين: نلاحظ أنك تقيم تمييزاً بين الإسلام كإطار ميتافيزيقي للتأمل، وبين العقائد الخصوصية للمسلم المتدين. بما أن المسيحي واليهودي يؤمنان أيضاً بالله الواحد ويعتقدان أن الكون من إبداعه وخلقه، وبما أن هاتين الصفتين تمثّلان البنية الأساسية لهذا الإطار الميتافيزيقي، فإني أريد أن أسألك: ما هو الفرق إذن بين الإسلام والمسيحية؟

أركون: كان التراث الفلسفي منذ أرسطو يميز بين التأمل الميتافيقي المقود من العقل المستقل غير المشروط بأي معطى خارجي على إرادته أو قراراته الخاصة بالذات, وبين البحث اللاهوتي المقود من قبل العقل الخاضع لمعطى الوحي. إن هذا التمييز ينطبق على الأديان التوحيدية الثلاثة. والدليل على ذلك أنها قد غدَّت طيلة القرون الوسطى الصراع نفسه بين كلا الوقفين للعقل : أي المستقل, والعقل الخاضع لمعطى الوحي أي الصراع بين العقل\والنقل, أو العقل\ والإيمان… الخ. وعندما أتحدث عن الإسلام بصفته إطاراً ميتافيزيقياً للتفكير فإني أقصد بالضبط تلك اللحظة التاريخية التي تناطح فيها الفلاسفة ذوو الاستلهام الارسطوطاليسي ـ الأفلاطوني ثم الأفلوطيني من جهة\ مع اللاهوتيين الدافعين عن معطى الوحي من جهة أخرى. لقد تناحطوا أو تصارعوا على مسائل ذات جوهر ميتافيزي من نوع: أزلية العالم أم خلقه أو هل العالم أزلي أم حادث,خلود الروح, المكانة الأنطولوجية للقوى العاقلة, السبِّب الأول والمسِّببات الثانوية,الجوهر والأعراض… الخ. وقد التقت الفلسفة وعلم اللاهوت على النقطة التالية : ينبغي على العقل أن يقوم بهذا بالتحقيق من تماسك مقولاته النظري وصحتها. ويمكن القول بهذا المعنى إن التأمل الميتافيزيقي (أو التفكير المتافيزيقي) يبحث عن عَقْلَنة العقائد التي يحاولها أتباع دين ما أو ايدولوجية ما (كالايديولوجية الشيوعية ـ الاشتراكية) إلى مجرد مضمونها النفسي والوجود، أي إلى شعارات عاطفية.

في الواقع، إن مجال العقائد الإيمانية يتسع أو ينتشر بعيداً جداً في الحياة العملية للبشر، ونلاحظ أن الاعتقاد قد أخذ يغزو حتى النظريات العلمية الأكثر عقلانية. ينبغي أن نتذكر ذلك لكي نتخلص من تلك العقلية العلموية (أو المتطرفة علمياً). فهذه العقلية لا تزال حتى اليوم تقيم التضاد المطلق بين اليقينيات المبرهنة علمياً من قبل العقل/ وبين العقائد الهلامية، أو غير المؤكدة، أو الخيالية، أو الأسطورة، أو الخاطئة أو المؤبدة حتى الآن من قبل الأديان بشكل خاص. وأقول هنا بأنه ينبغي أن نعيد الاعتبار للأديان بصفتها أنظمة معرفية لا تزال تلعب دوراً مهماً في آليات وطرائق اشتغال ملكاتنا الفكرية والعاطفية. (هذا الكلام موجَّه للغرب بالطبع حيث تهمين العقلية الوضعية العلموية، وليس للعالم الإسلامي حيث يختلف الوضع تماماً).

أعود إلى سؤالك عن مسألة الاختلاف بين الإسلام والمسيحية، ولكي نفهم هذه النقطة ينبغي أن نميز بين مرحلة العصور الوسطى، والمرحلة المعاصرة (أي منذ 1950 أساساً). ففيما يخص العصور الوسطى الأولى (أي بين القرنين السابع والحادي عشر) نجد أن نقد العقائد من قبل العقل الفلسفي والعقل اللاهوتي كان أكثر صرامة وحيوية وإبداعية في الإسلام منه في المسيحية. في ذلك الوقت بلغت الحضارة العربية -الإسلامية ذروتها. ولكن الحالة راحت تنعكس بدءاً من القرن الثالث عشر، وما انفك التفاوت يتزايد لصالح الغرب المسيحي منذ ذلك الوقت وحتى اليوم. فقد أخذت العقائد في الوسط الإسلام تسيطر في صيغتها الدوغمائية والمتصلبة التي لا يمكن مسّها أو مناقشتها حتى مجرد مناقشة. لقد سيطرت من خلال كتب التعليم الديني التقليدي ومن خلال الشهادات الإيمانية الشعبوية الموروثة والمحفوظة عن ظهر قلب، ليس هذا فحسب. بل لقد سيطرت العقائد من خلال كتب التعليم الديني التقليدي ومن خلال الشهادات الإيمانية الشعبوية الموروثة والمحفوظة عن ظهر قلب، ليس هذا فحسب. بل لقد سيطرت العقائد العتيقة السابقة على الإسلام بالهيئة التي ترسخ عليها من قبل القرآن والتراث المكتوب لكل مذهب. وهي عقائد خاصة بالتراثات المحلية التي وجدها الإسلام أمامه عندما دخل لأول مرة. ولم تنته بمجيء الإسلام كما يتوهم الكثيرون وإنما تفاعلت معه فأثرت وتأثرت؛ أو بقيت على حالها في بعض الأحيان. أي بقيت صامدة كما هي دون أن تتأثر بالدين الجديد الوافد عليها من بعيد. وأما الوسط المسيحي الغربي فقد شهد تطوراً تاريخياً جد مختلف فيما يخص هذه المسألة : مسألة العقائد الإيمانية أو الدينية. فقد تعرضت العقائد الأرثوذكسية المسيحية المضبوطة من قبل السيادة العقائدية الكاثوليكية الأوروبية في القرن السادس عشر. ثم استمر الصراع الجدلي والتثقيفي المفيد بين الفلسفة واللاهوت، أو بين العلم والدين، أو بين القانون والدين، أو بين الدولة والدين. وما انفك هذا الصراع المبدع والخلاق يغير وضع العقائد الإيمانية في المجتمعات الأوروبية وطرائق نقلها والتعبير عنها والتعلُّق بها حتى وصلنا اليوم إلى نقطة أصبح فيها أتباع اللاإيمان أكثر بكثير من أتباع الإيمان (بالمعنى الديني التقليدي للكلمة). بمعنى أن المتدينين التقليديين الذين يؤيدون الفرائض أصبحوا أقلية قليلة في المجتمعات الأوروبية الحديثة والمعلمنة.

بعد أن ضربنا هذا المثال يمكننا أن ندرك مدى أهمية تطبيق المنهجية التاريخية والاجتماعية على دراسة كل من العقائد المسلَّم بها والمعرفة العقلانية في أن معاً. ويمكننا أن ندرك مدى ضرورتها لكي نخلّص أذهاننا من تلك الكليشيهات الجوهرانية الثبوتية، وتلك الأحكام المسبقة التافهة التي تسجن الإسلام داخل قوقعة المحافظة والدوغمائية المتحجرة لكي تبرز بشكل أكبر مدى تسامح المسيحية وانفتاحها على مكتسبات الحداثة ومستجداتها. هذا ما يريدونه عن قصد أو غير قصد، بشكل سري أو علني. ولكننا نعلم أن موقف الأديان الكبرى – وبالتالي الإسلام والمسيحية – متشابه من هذه الناحية، أي الذي يقبل بأفضلية وأسبقيّة آيات الإيمان المتضمَّنة في النصوص المقدسة. إنهما يفضلانه على العقل الحر والمستقل. وهذا يعني بالتالي رفض أَرْخَنَة النصوص : أي رفض الإعتراف بأن لها منشئاً تاريخياً يمكن التوصل إليه بأن هذه النصوص مرتبطة بالمجريات الاجتماعية للتقديس والتعالي. أقصد بذلك تلك المجريات المعقدة التي تخلع القدسية والتنزيه المتعالي على معطيات معينة ليست مقدسة بحد ذاتها ولذاتها. ونحن نعلم أن الموقف الحديث للمعقل أصبح يعترف بذلك ويفهمه جيداً. ووحده العقل الحديث قادر على دمج المقدس أو استيعابه باعتباره إحدى القوى المؤثرة القادرة على تغيير القيم والنواميس، ثم باعتباره مرجعية فوق تاريخية صالحة لكل المجتمعات البشرية (بمعنى أنه لا يخلو مجتمع بشري ما من ظاهرة التقديس فهو يمثل ظاهرة انتربولوجية أي بشرية). أما العقل الذي يوجه الخطابات الأصولية المتطرفة في مجتمعات بعجزه نفسياً وثقافياً عن هضم هذه المكتسبات ومعرفة كيفية استخداها. وحيثما تسيطر الشروط السلبية لممارسة العقل في هذه البلدان، فإن العقل الأصولي يستمر في ممارسة شروره وأضراره الأكثر فداحة. بمعنى آخر فإن العقل الأصولي يجهل تماماً أفضل ما أنتجته الحداثة، وبالتالي فهو يعاديها ويكرهها كرهاً شديداً. والإنسان عدو ما يجهله. ولو أُتيح لأتباع الأصوليين السلفيين أن يحسنوا شروطهم المعيشية وأن يطلعوا على منجزات الفكر الحديث لغيروا موقفهم تماماً ن مسألة الحداثة والعلمنة والحرية والديمقراطية

المصدر: الاسلام ،أوروبا ،الغرب