Uncategorized
لماذا لايدمج الإسلاميون في عملية التطور الديمقراطي

السؤال الحقيقي الذي يجب أن يطرح فيما يتعلق بعلاقة حركات الإسلام السياسي بعملية الإصلاح الديمقراطي يتمثل في معرفة:

هل هذا التيار يمتلك عيوبا هيكلية تحول دون انفتاحه الديمقراطي، وأن الإشكاليات التي تمنع اندماجه في عملية التطور الديمقراطي هي إشكاليات جينية، ترجع إلى بنية خطابه، وإلى طبيعة النص العقائدي الذي ينطلق منه ويمثل نوعا من التداخل مع الإسلام؟ أم أن المشكلة ترجع أساسا إلى طبيعة السياق السياسي المحيط بهذه الظاهرة والقادر – في حال إذا كان سياقا ديمقراطيا – أن يعيد تشكيل هذا الخطاب الإسلامي وفق قواعد العمل الديمقراطي

JPEG

مثل النقاش حول حركات الإسلام السياسي أحد أبرز محاور الجدل حول قضايا الإصلاح في العالم العربي, خاصة بعد أن ربط الخطاب المتحفظ علي بدء الإصلاحات السياسية, بين عملية التطور الديمقراطي, وبين فرص وصول التيار الإسلامي السلمي إلي السلطة وانقضاضه علي عملية التحول الديمقراطي الوليدة.

والحقيقة أن هذا الموقف جاء في إطار أجندة متكاملة لتعطيل عملية الإصلاح السياسي والديمقراطي في العالم العربي, بدأت بالحديث عن رفض التدخلات الخارجية في شئوننا الداخلية, وضرورة التمسك بخصوصيتنا الحضارية والسياسية, وانتهت بأن لوحت بخطر الديمقراطية لأنها ستؤدي إلي وصول الإسلاميين إلي الحكم.

وهكذا فإن خطاب تعطيل الديمقراطية امتلك مستويين للتعامل مع قضايا الإصلاح السياسي والديمقراطي, الأول خاطب به قوي الداخل مستثيرا فيها مشاعر الغيرة الوطنية ضد تدخلات الخارج, والثاني خاطب به قوي الخارج متجاهلا فيه هذه المشاعر الوطنية التي أبدت قدرا يعتد به من التعاطف مع التيار الإسلامي, وصار من حقها أن تنتخب التيار السياسي الذي تراه مناسبا لحكم البلاد حتي لو كان إسلاميا, بشرط أن يحترم النظام الجمهوري وثوابت النظام المدني في مصر متمثلا في الدستور الوطني الذي لايميز بين المواطنين بسبب اللون أو العقيدة أو الدين.

والسؤال الحقيقي الذي يجب أن يطرح فيما يتعلق بعلاقة حركات الإسلام السياسي بعملية الإصلاح الديمقراطي يتمثل في معرفة هل هذا التيار يمتلك عيوبا هيكلية تحول دون انفتاحه الديمقراطي, وأن الاشكاليات التي تمنع اندماجه في عملية التطور الديمقراطي هي إشكاليات جينية, ترجع إلي بنية خطابه, وإلي طبيعة النص العقائدي الذي ينطلق منه ويمثل نوعا من التداخل مع الإسلام؟ أم أن المشكلة ترجع أساسا إلي طبيعة السياق السياسي المحيط بهذه الظاهرة والقادر في حال إذا كان سياقا ديمقراطيا أن يعيد تشكيل هذا الخطاب الإسلامي وفق قواعد العمل الديمقراطي؟ والحقيقة أن تاريخ كل الأفكار والحركات السياسية لم يكن مجرد نص أيديولوجي منزوع عن سياقه الاجتماعي بل كان نصا مندمجا في السياق, فمن الصعب أن نفصل الشيوعية الأوروبية التي راجت في الستينيات والسبعينيات عن السياق الليبرالي الذي عاشته أوروبا الغربية, وأدي إلي أن تكون تجارب الغالبية الساحقة من أحزابها مختلفة عن نظيرتها في بلدان أوروبا الشرقية التي عاشت في ظل الشمولية ونظام الحزب الواحد, كما من الصعب أن نفصل خطاب التيارات الإسلامية علي امتداد العالم العربي عن طبيعة النظم السياسية القائمة والواقع الاجتماعي المحيط بها.

كيف قرأت الظاهرة الإسلامية؟
تعدد المداخل والأحكام

مثلت الظاهرة الإسلامية المعاصرة مدخلا خصبا لاستخدام العديد من الاقترابات المنهجية والمعرفية في محاولة لفك طلاسمها باعتبارها عالما ثقافيا خاصا مغلقا, أو من أجل مواجهتها واستبعادها من الساحة الفكرية والسياسية باعتبارها خطرا ظلاميا هائلا, وأخيرا أو نادرا من أجل فهمها كظاهرة سياسية ـ اجتماعية يمكن استيعابها ودمجها في قلب الحياة السياسية, وفي داخل عملية التطور الديمقراطي التي تشهدها كثير من المجتمعات العربية والإسلامية. ويثير الاقتراب من الظاهرة الإسلامية في الحقيقة تداخلات مع أكثر من حيز معرفي آخر, بعضها يتعلق بالحيز الديني والمقدس, وبعضها يتعلق بالإطار الثقافي والحضاري, والبعض الثالث يتعلق بالواقع الاقتصادي والاجتماعي.

ولعل السؤال الذي يمكن طرحه في هذا السياق يتعلق بعلاقة ظهور التيار الإسلامي في مصر والعالم العربي, والتراث الثقافي والحضاري لهذا العالم؟ وهل جاء ظهور تيار الإسلام السياسي نتيجة أزمات اجتماعية, أم نتيجة إرث ثقافي خاص؟لقد تميزت كثير من الإجابات علي هذا السؤال بالانحياز الكامل لجانب علي حساب آخر, حيث اعتبر البعض أن ظاهرة الإسلام السياسي هي ظاهرة محض ثقافية ترجع إلي خصوصية الثقافة العربية الإسلامية وإلي طبيعة النص الديني الإسلامي واعتبر البعض الآخر أنها محض ظاهرة اجتماعية ترجع إلي الازمة الاقتصادية والتعثر الديمقراطي والسياسي. وفي الحقيقة فإن للظاهرة الإسلامية لها بعد ثقافي يفسر وجودها بشكل أولي علي الساحة الفكرية والسياسية, وآخر اجتماعي ـ سياسي يفسر انتشارها أو انحسارها, وتبينيها للاساليب الديمقراطية أو العنيفة, وهنا تصبح طبيعة السياق السياسي والاجتماعي المحيط بالحركات الإسلامية هو المحدد لمضمون الخطاب الإسلامي وإمكانات تطوره. والحركات الإسلامية هي بالأساس ظاهرة اجتماعية ذات بعدين أحدهما ثقافي والآخر اجتماعي, فالمجتمعات الإسلامية التي أنتجتها لها خصوصيتها ولكنها لاتمثل استثناء وتفردا عن التاريخ الإنساني, ولا نسقا خالدا لايتغير بتغير الزمن والبيئة الاجتماعية والسياسية.

ويمكن القول اجمالا إنه من الصعب أن نجد ظاهرة اجتماعية أخري غير الظاهرة الإسلامية عبرت عن هذا التداخل بين الحقل الثقافي والاجتماعي, وربما ايضا من الصعب أن نجد حقلا آخر غير الحقل الديني والمقدس استدعي هذا الكم من المداخل وأحيانا الاحكام الثقافية القاسية والساكنة عادة. ويمكن في الحقيقة التمييز بين عدة مداخل في التعامل مع الظاهرة الإسلامية والموروث الثقافي الذي أنتجها متمثلا في الإسلام:

الأول: كتابات المدرسة الاستشراقية الغربية في قراءتها للعالمين العربي والإسلامي طوال القرنين الـ18 و19 التي كثيرا ما يعاد إنتاج بعض مفاهيمها علي يد الإدارة الأمريكية الحالية, وبعض الساسة والاكاديميين الأوروبيين بصورة تبدو كأنها أكثر انسجاما مع القواعد الديمقراطية الحديثة, وأقل صراحة ومباشرة من المدرسة الاستشراقية التقليدية, وان أخذت منها كثيرا من جوانب النظرة الاستعلائية التي وضعت العالم العربي والإسلامي في مرتبة أدني من نظير الغربي.

الثانية: الكتابات العربية العلمانية أو الإسلامية التي نظرت إلي الحركة الإسلامية باعتبارها ذات بنية ثقافية خاصة لاينطبق عليها الاقترابات المعروفة في العلوم الاجتماعية, وكأنها ظاهرة غير إنسانية لاتتأثر بالسياق الاجتماعي والسياسي المحيط بها. وبرغم تناقض كلتا القراءتين من زاوية الحكم القيمي علي الحركات الإسلامية, فالأولي نظرت لها بصورة شديدة السلبية, والثانية نظرت لها بصورة إيجابية, إلا انه في كلتا الحالتين تم النظر إليها باعتبارها ظاهرة سرمدية لاتتغير ولاتتأثر بالبيئة الاجتماعية المحيطة بها بل وكثير من الأحيان تتجاهل وجودها وتأثيرها علي خطاب وبنية الحركات الإسلامية.

ثالثا: القراءة الثقافية الاجتماعية التي دمجت بين الدلالات الثقافية لوجود الظاهرة الإسلامية والاقترابات الاجتماعية من أجل فهم تطور هذه الحركات السياسية والعقائدية, في محاولة لتجاوز القراءات الثقافية الساكنة التي نمطت المجتمعات العربية والإسلامية, أو القراءات العلمانية أو المتعولمة التي حاولت أن توحد بين كل المجتمعات الإنسانية بصرف النظر عن البيئة الثقافية لكل مجتمع. وهنا سنجد تصاعدا كبيرا في حجم الكتابات الغربية والعربية الحديثة التي قرأت الحركة الإسلامية باعتبارها ظاهرة اجتماعية تتأثر بالسياق السياسي المحيط وقابلة للتطور والانفتاح برغم مرجعيتها الإسلامية وخصوصية خطابها الديني.

ولعل البداية الحقيقية في فهم تعقيدات الظاهرة الإسلامية ستبدأ بالتمييز بين العوامل التي أدت إلي وجودها من الأساس, وبين الأسباب التي أدت إلي انتشارها. فالغالبية الساحقة من الكتابات التي اقتربت من الحركات الإسلامية عرفت خلطا واضحا بين عوامل الوجود وأسباب الانتشار أو التراجع.

وقد ظهرت كتابات كثيرة قادها الماركسيون في سبعينيات القرن الماضي وأرجعت أسباب وجود الحركات الإسلامية إلي مقولات من نوع تردد نظام عبدالناصر في حسم مسألة علمانية الدولة واستمرار الصيغة التوفيقية التي عبرت عن هذا التزاوج بين الدين والدولة, وعدم جذرية سياسته الاجتماعية برغم أن كثير منهم اعتبروها الآن سياسات متطرفة إضافة إلي مشكلة الفقر والأزمات الاقتصادية, التي أدت إلي ظهور تربة مواتية لصعود التفسيرات الدينية, كما ركزت كتابات العلمانيين الليبرالية واليسارية علي دور النظم الشمولية وهزيمة67 في وجود الظاهرة الإسلامية, وأخيرا عظم الخطاب الرسمي العربي من دور القوي الخارجية وغياب العدالة الدولية والانحيازات الأمريكية الدائمة لإسرائيل, باعتبارها كلها دوافع تقف وراء تصاعد الجماعات الإسلامية ونمو العنف علي السواء. ويمكن القول إن كل هذه التفسيرات قد تساعد علي فهم أسباب انتشار التيار الإسلامي في مرحله تاريخية ما, وأسباب تراجعه في مرحلة أخري, لكنها في كل الأحوال عاجزة عن تفسير سبب وجود التيار الإسلامي, وتعبيره بمفرده أو أساسا عن هذه الأزمات الطبقية والنكبات الوطنية دون غيره من القوي السياسية الأخري. نفس الأمر ينسحب علي ظاهرة أخري صاحبت بعض أجنحة الحركات الإسلامية وهي العنف. فإذا كان هذا العنف تعبير عن أزمة ما ـ وهو بدهي ـ فلماذا لانجد مثيلا له في مجتمعات وثقافات أخري غير مجتمعاتنا العربي أي بمعني آخر لماذا يأخذ العنف في أغلب الثقافات الأخري أشكالا مختلفة عن هذا العنف الاستشهادي الذي نراه في فلسطين أو هذا العنف الانتحاري الذي رأيناه في واشنطن ونيويورك؟ فكثير من المجتمعات الواقعة خارج الوعاء الحضاري الإسلامي كما في أوروبا أو أمريكا اللاتينية شهدت في فترات كثيرة من تاريخها دورا متصاعدا لجماعات ثورية مارست العنف ضد الاحتلال الأجنبي وضد السلطة المحلية علي السواء, ولكنه في كل الأحوال كان عنفا مختلفا في طبيعته عن العنف الاستشاري الذي نراه في فلسطين المحتلة.

والحقيقة أن هذه القرارات السياسية تعجز عن فهم أسباب هذا التمايز بين العنف الديني عربيا, وبين العنف الثوري غربيا, أو بين المعارضة الإسلامية في مصر أو المعارضة اليسارية في أوروبا, نظرا لأن المدخل الثقافي ـ الاجتماعي هو وحده القادر علي تفسير أسباب هذا التمايز, وفهم التحولات التي تشهدها الحركة الإسلامية من الانتقال من العنف إلي السلم, أو من الخطاب الدعوي والاخلاقي إلي الخطاب السياسي والمدني الحديث. ومن هنا فإن العامل الرئيسي وراء وجود الظاهرة الإسلامية من الأصل لايرجع إلي دوافع سياسية اجتماعية, إنما يرجع بالأساس إلي وجود كامن ثقافي قادر علي أن يدفع بها إلي حيز الوجود دون أن يسهم في تشكيل صورتها.

وعليه فإن أسباب الانتشار والتراجع أو دوافع تبنيها في سياق تاريخي معين لاساليب عنيفة, وفي سياق آخر لاساليب سلمية هي كلها أسباب ودوافع اجتماعية وسياسية لا علاقة لها بالمكون الثقافي. وهنا تكمن أهمية دمج القراءة الثقافية التي تفسر وجود الظاهرة, مع القراءة الاجتماعية التي تفسر أسباب انتشارها أو تراجعها والصور المختلفة التي تأخذها عنفا أو سلما.

تحديات الدمج

ستبقي مسألة دمج تيارات الإسلام السياسي السلمي في عملية التطور الديمقراطي ليست بالخيار السهل, لكنه لا بديل عنه لإجراء إصلاحات ديمقراطية حقيقية, تساعد في فرز نخبة مدنية جديدة قادرة علي منافسة الإسلاميين في الانتخابات التشريعية وفي النقابات لاتحتاج فيها كـ التلميذ البلديد إلي مساعدة أولياء الأمور من الأجهزة الإدارية والأمنية لانجاح عناصر لاتتمتع بشرعية شعبية وسياسية حقيقية في الشارع المصري. وذلك لأن هذا التيار وعلي عكس ما هو شائع عنه يعبر عن بنية تنظيمية وسياسية حديثة, فالتصويت له يتم علي أساس برنامجه السياسي وتوجهاته الفكرية, وليس أساسا لاعتبارات عصبية أو مالية, كما انه نجح في أن يكون له وجود مؤثر في أكثر من نقابة مهنية عبر آلية ديمقراطية وانتخابات حرة, كما أنه أبدي انفتاحا أكبر تجاه قضايا حقوق الأقباط والمرأة وتسامح بالمعني النسبي مع الانشطة الفنية والأدبية, مقارنة بتجمعات دينية أخري من الشيوخ الرسميين الذين يشكلون جزءا من مؤسسات الدولة.

والحقيقة أن الفارق بين الجانبين لا يرجع في الواقع إلي أن التيارات الإسلامية السلمية متمثلة في الاخوان المسلمين قد ولدت أكثر انفتاحا من تلك القوي الرسمية الأخري, إنما لكون واقعها التنظيمي واستهدفها العمل الجماهيري والسياسي وتفاعلها مع قوي وتيارات سياسية أخري داخل النقابات وتحت قبة البرلمان قد يسهم في تطوير خطابها علي عكس من بقي خلف مكتبه, يتحرك كموظف وفق آليات عادة معدة سلفا, فخرجت منه فتاوي التحريم ومطاردات المثقفين والكتاب ومصادرة الكتب.وهكذا لم تعد المعركة بين حركات الإسلام السياسي السلمي والدولة, ترجع إلي أنهم تيار ظلامي يواجه الدولة المدنية الحديثة كما يتصور البعض, إنما لكونهم تيارا سياسيا عجزت معظم النخب العربية الرسمية علي منافستهم بكوادرها المترهلة في أي ساحة انتخابية.والحقيقة أن كثيرا من التصريحات الظلامية والمنافية لقيم العمل والابتكار والابداع التي ينص عليها الإسلام تخرج من منابر المساجد أو من شاشات التليفزيون الرسمي, لكنها ظلت مقبولة أو جري التغاضي عنها لأنها ظلت خارج الحيز الخطر وهو الحيز السياسي, وساهمت في تعايش ثقافة التبلد والتواكل جنبا إلي جنب مع ثقافة المسلسلات والفوازير. وعليه فان معركة الإسلام السياسي السلمي مع النظم العربية هي ليست معركة بين الظلاميين والعلمانيين, إنما هي في كثير من الأحيان بين السياسيين والبيروقراطيين, وبين الديناميكية والجمود, وأصبحت عملية دمج حركات الإسلام السياسي السلمي في عملية التطور الديمقراطي, تستدعي تجديدا شاملا في بنية الدولة والحكم, حتي تمتلك القدرة علي مواجهة الإسلاميين في الانتخابات التشريعية دون الحاجة إلي تدخلات الأمن والإدارة.

والحقيقة, أن دمج حركات الإسلام السياسي في عملية التطور الديمقراطي في مصر سواء كان ذلك في قبول شرعية حزب الوسط علي طريق دمج الفصيل الأساسي متمثلا في الاخوان المسلمين, ستستدعي بالضرورة دمج الديمقراطية داخل مؤسسات الدولة والحزب الحاكم, بما يعني البدء بإحداث تجديد شامل داخل النخبة الحاكمة وضخ دماء جديدة قادرة علي المنافسة السياسية. وعليه فان هذا التحول الإصلاحي سيؤدي إلي التعامل مع الظاهرة الإسلامية الموجودة قبل الإصلاحات وفي ظل الشمولية أو الديمقراطية المنتظرة في ساحة جديدة تتسم بالوضوح وعدم المواربة, وقادرة علي أن تدفعهم نحو التحول لكي يصبحوا بصورة كاملة تيارا سياسيا مدنيا, لايضفي أي قدسية علي خطابه السياسي, ويعتبر نقده هو نقدا لبرنامج دنيوي وليس دينيا.

مشكلات الإسلاميين

سيظل هناك جانب كبير من المسئولية ملقي علي عاتق الإسلاميين حتي يمكن دمجهم في عملية التطور الديمقراطي لا يتعلق كما يري البعض بالتفتيش في نياتهم إذا كانوا مؤمنين حقا بالديمقراطية أم لا فهذا التخوف يمكن سحبه علي كل القوي السياسية في مصر من اليسار إلي اليمين, إنما يجب أن يتركز علي مسألة الممارسة المدنية للتيار الإسلامي وفي التمسك بالقواعد القانونية والدستورية, كإطار حاكم للعمل السياسي, وليس أي تفسيرات دينية خاصة تضع أي تيار سياسي في حيز متفوق علي التيارات الأخري لأنه مثلا تيار إسلامي. وسنجد أن كثيرا من قيادات وأعضاء التيارات الإسلامية السلمية يتصور أن من يختلف معه يعني بدرجة أو باخري الاختلاف مع الإسلام, وانه ينظر بدرجة كبيرة من الريبة والتعالي إلي التيارات السياسية التي تنقده باعتبارها تنقد الأمناء علي الإسلام وحراسه الأوفياء, والحقيقة أن أزمة التفوق والاستعلاء علي التيارات الأخري نتيجة لنظرة التيار الإسلامي لنفسه باعتباره حارسا لقيم الإسلام جعلته في كثير من الأحيان لايعي أن هذه القيم هي مسألة تدخل في صميم الاختيار الشخصي للأفراد, وأن الانتقال إلي الاختيار العام, يجب الا يتمتع بأي حصانة خاصة أو استثنائية إنما هو يخضع لدوافع دنيوية محضة يتوقف نجاحه فيها علي قدرته علي التنمية الاقتصادية والسياسية بصرف النظر عن مرجعيته ومنطلقاته الفكرية. الإسلامية أما ما يحققه من نجاحات أو اخفاقات مادية فهو الذي سيحاسب عليه دون أي حصانة دينية أو سياسية.

ولعل النجاحات التي حققتها تجارب بعض التيارات ذات الأصول الإسلامية كما في تركيا مثلا, ترجع إلي هذا الفصل التام بين الحيز الديني والسياسي, بحيث أصبح معيار نجاح الإسلاميين هو انجازاتهم الاقتصادية والسياسية وليس شعاراتهم المقدسة والدينية حتي لو كان خصومهم علمانيين وغير مؤمنين, فقد تحالفوا معهم في بعض الأحيان وصار الحكم عليهم هو الانجاز وليس الشعار. وعليه فأن تمسك التيار الإسلامي بمرجعية دينية لايثير في حد ذاته أي تحفظ إنما يجب أن يعي أن برنامجه الذي يقدم للناخبين هو برنامج مدني من الوارد نقده ورفضه وفي حال خسارته الانتخابات من الوارد تغييره أو التراجع عنه فيجب ألا يحتمي بأي قدسية خاصة.

وهكذا سيصبح من المهم البحث عن صيغة جديدة للتعامل مع التيار الإسلامي السلمي تبدأ بالتوافق علي وضع قواعد قانونية ومدنية منظمة للعمل السياسي وضابطة لعملية التحول الديمقراطي. والحقيقة أن الإصلاح الديمقراطي لن يخترع الإسلاميين ولن يعطيهم قوة خاصة, فهم موجودين في مصر منذ أكثر من ثلاثة أربع قرن, وقد جربت الحلول الاستئصالية والاستبعادية ولكنها فشلت, وأصبح من المهم امتلاك نظرة ديناميكية للخريطة السياسية, لاتنظر لها بشكل ساكن ولاتتوقف فيها احلام النخبة السياسية عند أخمص القدمين, بل لابد من امتلاك قدر أكبر من الخيال والرهان علي أن الديمقراطية هيPROCESS وليست قرارا أمريكيا أو حكوميا بتشكيل لجنة هنا أو تغيير وزارة هناك, وأن عملية دمج الإسلاميين تعكس جانبا من عملية تحول شاملة نحو الإصلاح.

فمن المؤكد أن التيارات الإسلامية ليست تيارات واحدة فتنظيم الجهاد أو بقاياه ليس هو الاخوان المسلمين, وحركة طالبان الأفغانية وشبكة القاعدة ليستا مشروع حزب الوسط في مصر, ولا حزب العدالة والتنمية في تركيا, وأن السياق السياسي والاجتماعي المحيط بها هو القادر علي أن يفرز تيارا إسلاميا ديمقراطيا كما حدث في تركيا, أو تيارا إسلاميا ظلاميا كما حدث في أفغانستان أو شموليا كما حدث في السودان. وتبقي أهمية الاقتراب من الظاهرة الإسلامية علي ضوء التفاعلات الاجتماعية والسياسية المحيط بها, فالمفارقة التركية أوضحت أن جانب كبير من القوي التي يفترض أنها علمانية أصبحت هي الأقل ديمقراطية والأكثر تحفظا تجاه الانضمام إلي الاتحاد الأوروبي, وهي التي حاربت في مراحل سابقة من أجل إبراز الوجه الأوروبي لتركيا, كما أن القوي التي انطلقت من منطلقات إسلامية صارت حاليا هي الأكثر حرصا علي الإصلاحات الديمقراطية والأكثر تحمسا إلي الانضمام إلي الاتحاد الأوروبي والتمسك بالمعايير الأوروبية واحترام حقوق الإنسان, وأصبحت البيئة الديمقراطية في تركيا, ولو أنها غير مكتملة تماما, عاملا حاسما نحو تحول الإسلاميين إلي تيار ديمقراطي محافظ ـ كما يقولون عن أنفسهم ـ وظفت فيه الطاقات الاجتماعية والسياسية لهذا التيار لمصلحة التقدم والديمقراطية, وبقي الآخرون جامدين خلف شعارات علمانية تخفي ميولا شمولية واضحة.

*خبير سياسيي واستراتيجي مصري

المصدر :
مركز الدراسات السياسية والإستراتيجية
جريدة الأهرام المصرية، عدد 13/9/2004