caisse-generale-compensation-tunisie-ar

يتركز الجدل السياسي هذه الأيام حول إصلاح نظام الدعم ، ومع ذلك، فإن الغالبية العظمى من التونسيين لا يعرفون هيكلة هذا النظام وتفاصيله. ولهذا فمن الضروري أن نتعمّق في فهم طبيعة هذا الصندوق وتفاصيله قبل البدء في عمليّة الإصلاح.

الخلط بين المصطلحات

من العلامات الأولى للجهل بنظام الدعم هو الخلط بين ” الصندوق العام للتعويض” ودعم الطاقة ودعم النقل. وهو الفخّ الذي وقع فيه العديد من الصحفيين والسياسيين وحتّى الاقتصاديّين.

في مقابلة مع مجلة “الاقتصادي المغاربي”، تحدث أنطونيو نوسيفيرا عن “أنّ دعم الطاقة جزء من الصندوق العام للتعويض”، بينما عمد العديد من وزراء الترويكا وحكومة مهدي جمعة في خطاباتهم، إلى دمج الميزانيّات المختلفةلمنظومات دعم القدرة الشرائيّة (صندوق التعويضات، دعم الطاقة، دعم النقل) والحديث عنها ككيان واحد.

يمكن تفسير هذا الخلط، إمّا لعدم الفهم الجيّد لهذه الأنظمة، أو، من ناحية أخرى، قد تكون جزءا من إستراتيجية سيّئة للتواصل، ولكنها فعالة نسبيا. فمن خلال التركيز على محور دعم الطاقة عند تناول موضوع التعويضات أو مسألة الدعم، فإنّ ذلك يخلق انطباعا لدى الجمهور بأن كلّ نظام الدعم (صندوق العام للتعويض، دعم الطاقة، دعم النقل)، هو من يثقل ميزانيّة الدولة. وبذلك يصبح من السهل الحدّ من الدعم على الاستهلاك مهما كانت طبيعة الموّاد المدعمة.
إنّ ما يجب أن نعرفه هو أن نظام الدعم ينقسم إلى ثلاثة أنظمة مختلفة ومستقلة عن بعضها البعض: الصندوق العام للتعويض، دعم الطاقة ودعم قطاع النقل العمومي. وقد تناولنا في مقالات سابقة مسألة دعم للطاقة، وسنركّز في هذا المقال على موضع الصندوق العام للتعويض.

الصندوق العام للتعويض

خلال الحرب العالمية الثانية ، دفع ارتفاع أسعار المواد الغذائية في السوق الدولية الإدارة الاستعمارية للإعلان عن إنشاء صندوق للتعويضات بموجب مرسوم صادر عن الباي في 28 جوان 1945. وكان هدفه الأصلي أن يكون بمثابة وسادة تحمي الأسر التونسية من ارتدادات ارتفاع أسعار الحبوب.
بعد الاستقلال، تطورت دور الصندوق العام للتعويض عبر إرساء سياسة تخطيط للتغذية والتموين. [ 1 ] وقد كان تحسين الوضع الغذائيّ للأسر التونسيّة من بين الأهداف الصريحة لبرنامج دعم المواد الغذائية. [ 2 ] كما ظلّ هدفها الأساسيّ أن تلعب دورا في دعم القدرة الشرائية للمواطن.

خلال ستّينات القرن الماضي، ساعد الصندوق العام للتعويض في ضمان استقرار التضخم والأجور، حتى يتّم بناء الاقتصاد الوطني التونسي. إلا أنه وبمرور السنوات، أجبر التضخم الذّي ناهز نسبة 6 ٪ ، الدولة على خلق ضرائب على المحروقات لدعم الصندوق العام للتعويض.
تحت ضغط من مؤسسات “بريتون وودز”، حاولت الحكومة مضاعفة سعر الخبز بدعوى التخفيض من ميزانيّة الصندوق العام للتعويض، إلاّ أنّ هذه الخطوة واجهت معارضة عنيفة وواسعة والتّي تعرف باسم ” انتفاضة الخبز لسنة 1984 “.

فشل هذه المحاولة لم يمنع السلطات التونسية من السعيّ للضغط على ميزانيّة الصندوق العام للتعويض، إمّا عن طريق الحد من عدد من المنتجات المدعومة من جهة ، أو بالترفيع المتتالي لأسعار الموّاد المتبقية، إذ رُفع الدعم عن مكعبات السكر والأعلاف الحيوانية، والزيت النباتي ولحم البقر والأسمدة منذ عام 1996.
عشية ثورة 14 جانفي كانت الموّاد المدعومة من الصندوق العام للتعويض كالآتي: مشتقات الحبوب (الخبز والسميد والكسكسي والمعكرونة)، والزيت النباتي و الأوراق المعدة لتصنيع الدفاتر المدرسية.

ومع ذلك، فإن تعدّد الأهداف الموكولة إلى الصندوق العام للتعويض (دعم تكاليف الإنتاج، أسعار المستهلك، استقرار الأسعار، وسيولة واستمرارية التوريد) لا يجعل منها متناسقة فحسب، بل نطاق سياسة التعويض يمتد إلى أبعد من حماية القدرة الشرائية للطبقات ذات الدخل المنخفض ضد تقلبات السوق العالمية، إلى ضمان حدّ أدنى من الدخل للمزارعين المعنيّين.
بالإضافة إلى ذلك، فإنّ نظام التعويض يضمن إمدادات منتظمة للسوق المحلي بمنتجات مدعومة بأسعار مستقرة نسبيا، والتي تأخذ بعين الاعتبار القوة الشرائية للمواطنين.

في عام 2011 ، وقبل ساعات قليلة من فراره، أضاف بن علي منتجات أخرى إلى قائمة الموّاد المدعّمة: الطماطم المعلبة والسكر والمعكرونة والكسكسي، كما تم استعادة دعم الحليب نصف الدسم بعد أن تم رفعه في سنة 2009. هذه الخطوة التي تمثّلت في توسيع قائمة الموّاد المشمولة بالدعم ، تزامنت مع ارتفاع أسعار الحبوب في السوق الدولية، ممّا أدّى إلى ارتفاع مخصّصات الدعم.

evolution-bidget-caisse-generale-compensation-tunisie

متاهة البحث عن الإنصاف والعدالة الاجتماعيّة

في سنة 2012، نشر صندوق النقد الدوليّ تقريرا لتقييم الاقتصاد التونسي، مقترحا على الحكومة التونسية الحد من دعم المواد الغذائية والطاقة. ووفقا لصندوق النقد الدولي، فإنّ هذه التدابير هي “إجراء مرغوب فيه من زاوية العدالة الاجتماعية، لأنّ أغنى فئات السكان هم الذين يستفيدون من الإعانات الغذائية والطاقة.”

في الملحق السابع من التقرير، وردإنّ الأسر التي تتمتّع بأعلى مستويات الدخل تستفيد أربع مرّات أكثر من دعم الموّاد الغذائيّة من الأسر المحدودة الدخل. وما يقارب 40 مرّة أكثر على مستوى الدعم في مجال الطاقة.
ومع ذلك، فقد فلم يتمّ نشر أي دراسة متخصّصة حول دعم الطاقة أو الصندوق العام للتعويض لتأسيس إجماع حقيقي حول هذه القرارات المرفوضة شعبيّا.

وبعد ذلك بسنة، بادر المعهد الوطني للإحصاء (INS )، ومركز البحوث و الدراسات الاجتماعية ( CRES ) والبنك الأفريقي للتنمية (BAD) إلى نشر تقرير عن توزيع الدعم في الصندوق العام للتعويض، وقد كانت الإحصائيّات هذه المرة أكثر وضوحا، إذ تضمّنت المعدّلات السنويّة للدعم للفرد الواحد، وحسب الفئة الاجتماعيّة للسكان بالدينار.

وقد وضّحت تلك الأرقام حقيقة انتفاع الفئات الميسورة من منظومة الدعم بشكل أكبر من الفئات الضعيفة. ولكنّ ما ورد في التقرير من انتفاع الأسر الميسورة يبلغ أربع مرات ضعف انتفاع الأسر الأقلّ دخلا بمنظومة الدعم هو خاطئ تماما: فالفرق لا يتجاوز 21,9 دينار سنويا. وهذا يعادل ربع الدعم التي تستفيد منه الأسر الميسورة خلال سنة كاملة.

بالإضافة إلى ذلك، تم إقرار ضرائب عديدة على هذه الفئات “الميسورة” لتمويل الصندوق العام للتعويض، كضريبة 1 ٪ على الدخل التي تمّ إقرارها سنة 2012 والتي تشمل من تتجاوز مجموع مرتّباتهم السنويّة 20 ألف دينار. وقد دخلت حيز التنفيذ في عام 2013.
وبالتالي فإن الموظفين الذين ينتمون إلى الطبقة الوسطى والغنيّة ستدفع 200 دينار سنويا إلى الصندوق العام للتعويض. رغم أنّهم، ووفقا لتقرير البنك الأفريقي للتنمية، ومركز البحوث والدراسات الاجتماعية، لا يستفيدون إلا بما يقارب 90 دينار سنويّا من صندوق التعويض. وهو ما يبرهن لنا أنّ الذين لا ” يستحقون ” الدعم من وجهة نظر الدولة هم من يدعمون العائلات الفقيرة والمعدمة.

يتضمّن التقرير السالف الذكر أن دعم المواد الغذائية قد ساعد أيضا على الحدّ من الاختلال الاجتماعي. [ 3 ] ومع ذلك، بناء على الملاحظات التي سبقت سنة 2012، فإنه يعتبر أن النظام يبقى غير مثاليّ. إذ اعتبر المحللون في المعهد الوطني للإحصاء أن نظاما قائما على تحويل مبالغ ثابتة بصفة سنوية لكلّ فرد محدود الدخل سيكون منصفا.

إلا أن قراءة التقرير، ستمكّننا من أن نفهم أن هذا النموذج القائم على الحسابات الرياضية قد أهمل العديد من العوامل الهامة التي غيرت تماما الوضع. كان التفكير الرئيسيّ منصبّا على استهداف المنتفعين بالدعم، ومع ذلك، فمن المهم النظر في مصادر تمويل الصندوق العام للتعويض. إذ وكما أشرنا سابقا، فإنّ ضريبة 1 ٪ التي تم إنشاؤها في عام 2012 ستؤدّي إلى أن الأسر التي يبلغ دخلها السنوي أكثر من 20,000 دينار ستعمل على تمويل الصندوق العام للتعويض، من خلال شراء المنتجات المدعّمة وبذلك تغطّي الضريبة انتفاعهم بالدعم. فهل ما يزال بوسعنا القول أن هذه الأسر تنتفع بالدعم؟

وحتى إن بنينا تفكيرنا حسب منطق استهداف الدعم لمستحقّيه، فإنّ تقسيم ميزانيّة صندوق التعويض حسب الشرائح المستهدفة يستند إلى إحصائيات سنة 2011 والنتيجة ستكون ما يلي: استفاد 7.5 ٪ من الأسر الميسورة من الدعم الغذائي، 60.5 ٪ من الطبقة المتوسطة ، 9.2 ٪ من الأسر الفقيرة و22.8 ٪ من المطاعم والمقاهي والسياح والتهريب.

financement-caisse-generale-compensation-tunisie

تجدر الإشارة إلى أن اختيار سنة 2011 كسنة مرجعيّة أدّى إلى عدم دقّة النتائج وانحيازها. إذ خلال هذه السنة تطوّر التهريب بحيث استحوذ على 22.8 ٪ من الميزانية . وبالتالي فإن الأرقام الباقية لا تحمل أيّ دلالات حقيقيّة وواقعيّة. كما تجب الإشارة إلى أنّ الفئات الغنيّة لا تحصل سوى على أقل من 10٪ من ميزانية الصندوق العام للتعويض.

إنّ خطاب الحكومة الذّي يصرّ على أن الغالبية العظمى من دعم المواد الغذائية تذهب إلى أولئك الذين لا يستحقون ذلك لا يمكن أن يكون ذات مصداقية، إلاّ إذا أخذنا في الاعتبار أن الطبقة الوسطى لا تستحق أن تنتفع بالدعم من قبل الدولة. فإذا كان هذا هو الحال ، فإنه لا بد من توضيح ذلك للمشاركين في الحوار الوطني للاقتصاد كي يكونوا على نفس الموجة.

اعتمدت المؤسسات المالية الدولية (IFI) تقسيما مختلفا للطبقات الاقتصادية والاجتماعية. في تقاريرها، فإنّ الإشارة إلى الطبقة المتوسطة كانت نادرة للغاية، إذ ينقسم السكان إلى فقراء وغير الفقراء. لذلك فإنّ الدراسات وعمليات المحاكاة التي تمّ إجراؤها لا تتناول سوى مسألة مكافحة الفقر وهو ما أدّى إلى غياب مفهوم دعم القدرة الشرائية عن أهداف منظومات الدعم.

على الرغم من ذلك، فإن نتائج المحاكاة هي صادمة: أن احتمالات رفع الدعم عن المواد الغذائية الأساسية ستؤدّي إلى ارتفاع معدلات الفقر على المدى القصير ب3.6٪ و معدل الفقر المدقع ب1.7 ٪. و حتى محاولة تغيير السلوك الاستهلاكي للعائلات الفقيرة (خفض استهلاكها و / أو توجيه الاستهلاك نحو الموّاد الأقل تكلفة من تلك المدعمة لملائمة دخلهم بما يكفي لتلبية احتياجاتهم الغذائية) ستفشل في استعادة معدل الفقر الحالي بعد زيادة.

نظام التحويل المباشر

في خطابه الأخير، تحدّث رئيس الحكومة مهدي جمعة عن إصلاح الصندوق العام للتعويض. وأشار إلى نظام التحويلات المباشرة. وقد كان هذا النموذج من أشكال الدعم موضوع دراسة المعهد الوطني للإحصاء، و البنك الإفريقي للتنمية ومركز البحوث و الدراسات الاجتماعية بعد أن تمّ تطبيقه في العديد من الدول. وقد أظهرت المحاكاة على مستوى تقييم عدم المساواة (دون الأخذ بعين الاعتبار الفئات المستهدفة بالدعم ومصادر تمويل الصندوق العام للتعويض)، أن هذا النظام لا يتجاوز النظام الحاليّ سوى بنسبة بسيطة للغاية على مستوى المساواة. [ 4 ] ومن الناحية العملية، فإن هذا النظام غير عملي بسبب صعوبة تحديد الأشخاص المستهدفين بالدعم. إنّ قاعدة البيانات المتوافرة حاليّا قد تكون بمثابة أداة لتحديد هوية المعنيّين بالدعم، وهي تشمل قاعدة بيانات البرنامج الوطني لمساعدة الأسر المعوزة و المتابعة الطبية المجانيّة، فضلا برنامج الحصول على الرعاية الصحيّة بأسعار منخفضة .

أخيرا، إن مثل هذه الإصلاحات التي ستطبّق على الصندوق العام للتعويض ستفقده أهدافه الثانويّة: كبح التضخم ، وتعزيز القدرة التنافسية لأسعار المنتجات التونسية ( الحليب والخبز ، والمعكرونة ، الكسكسي ) وتيسير الوصول إلى الموّاد الغذائيّة لجميع المواطنين.

أين يكمن الخلل الحقيقيّ

في عام 2003 ، وقبل بداية الحديث عن إصلاح الصندوق العام للتعويض، قامت دائرة المحاسبات بعمليّة تدقيق كشفت العديد من أوجه القصور في مراقبة الموّاد المدعّمة من قبل الديوان الوطني للحبوب والمركز الوطني البيداغوجي على مستوى إجراءات خلاص معاليم الدعم.

بعد عشر سنوات، هل يمكن أن نُرجع الزيادة في دعم الموّاد الغذائيّة مرّة أخرى إلى وجود خلل في إدارة الأقسام المساهمة في تسيّير وإدارة الصندوق العام للتعويض؟ قد يكون من الحكمة إذن إجراء تقييم لإدارة الصندوق العام للتعويض قبل السعي إلى تحسينه.

هوامش

[1] تحليل سياسات الأمن الغذائي في تونس CIHEAM – Options Mediterraneennes.

[2] تحليل أثر الدعم الغذائي وبرامج المساعدة الاجتماعية على الفقراء والضعفاء، المعهد الوطني للإحصاء .

[3] وكشفت التحاليل أيضا أن عدم المساواة الذي تمّقياسه بمؤشر “جيني”، بلغت 37.4٪ في عام 2010، ولكنه كان سيناهز 38.5٪ في غياب دعم المواد الغذائية .

[4] مؤشر جيني للنظام الحالي هو 0.374، في حين أنه في حالة التحويلات المباشرة، سيكون 0.372.