بعد تسعة أشهر قضيتها بين المستشفيات و المصحات و شتى المخابر … و بعد عمليات جراحية ثلاث كادت تقعدني عن الحركة و ربما الحياة… أجدني اليوم أقر بحقيقة كتمتها في نفسي حتى لا تكون سبب إزعاج و حيرة لعائلتي و أصدقائي و رفاق دربي.

لقد أنهكني المرض وفت في ساعدي و أحالني إلى جرح… إلى ألم… إلى صرخة و دموع… أخفيها اضطرارا أمام القريب و البعيد… لأن معركتنا مع الاستبداد حتمت علينا أن لا ننحني مهما عصفت بنا رياح الظلم و القهر، علمتنا أن نحبس دمعة, أن نواري حزنا, أن نكبت خوفا قد يغري الخصوم فيوقعون بنا و يزيدون في إذلالنا و التنكيل بنا.

لقد كان هدا شعوري بعد أن لازمني المرض و رفض أن يفك قيده عني، بعد أن زاد ني إلى ضعفي نيلا و تعجيزا.

كانت الأيام تمر عسيرة. وكنت أراوح فيها بين الأمل و الألم، بين إشراقات خاطفة و حزن استقرت ملامحه بوجهي. لقد كان الليل أقسى علي من النهار…يغدو الزوار و يغيب الأطباء و الممرضون و تهدأ الحركة، ليحل بالغرفة سكون مخيف تتوجس النفس منه… وها هو المرض ينفرد بي كالذئب المتربص بفريسته فلا يأكل من الغنم إلا ما قصا.

كيف لك و الحال أنك مقعد في سرير أن تهرب من هذا الذي كشّر عن أنيابه ليفتك بك… هل يجدي الفرار..؟ هل تنفع الاستغاثة..؟ هل يحمي الظلام من الظلام؟

عندما يشتد بك المرض لا يترك لك حلولا كثيرة… فإمّا أن تسلّم و تنحني و تلغي بقايا المناعة، فيعصف بك الداء حينئذ و يحيلك إلى عدم… و إمّا أن تقاوم و تستبسل و تذبّ عن النفس و تصيّر الألم قوة و تجعل من القوة سلاحا يرد المعتدي.

كنت على وشك أن أخسر المعركة لولا ثلاث نفحات نسمت وحلّت بالنفس محلاّ طيبا.

أما الأولى، فنفحة من إيمان أحالتني إلى عظمة الله عزّ و جلّ و إلى ضعف الإنسان… ذكّرتني أن كل أمر المؤمن خير… و أن لكل حدث معنى. فالمرض تدبّر… و الألم طهور… و الصبر فضيلة.

وأما الثانية، فنفحة من حبّ. هل أدع مرضي يعصف بقلب أمّ مشفق تدعو لي بالشفاء ليلا نهارا… هل أتجاهل حيرة رفيقة درب تريد أن نكمل المشوار كما بدأناه سويّا… هل أدير الظهر لتوسلات أبناء أشجنهم طول سقمي و أضعفهم ضعفي.

وأما الثالثة، فنفحة من وفاء. إنه الوفاء لوطن مثخن…مريض…يستعطف أبناءه أن فكّوا قيدي…إنه الوفاء لأصدقاء جمعهم حب هذا الوطن وتعاهدوا ألّا يأمنوا أو يرتاحوا حتى يأمن وطنهم و يرتاح.

عندما أدركت أن المرض لن يأتي على جسدي و همتي فحسب، و إنما سيطول لا محالة أحبتي و أصدقائي ووطني. عندما أيقنت أنه لن يترك ذرة حياة من حولي إلا أفناها، انتفضت و استجمعت الإيمان و الحب و الوفاء و قررت أن أخوض معركتي معه و أصده عن نفسي و عن كل غال و نفيس لدي..أهلي و أصدقائي و وطني.

غادرت المستشفى على أن أعود إليه بعد شهر لإجراء عملية جديدة…عدت واجف القلب, فحصني الطبيب و عاين آخر التحاليل و الصور بالأشعة. ابتسم قائلا: أهنّئك. لقد غلبت إرادتك مرضك.. لن تجرى العملية. ذرفت عيناي دموع الحمد و الاطمئنان.

إن رحلتي مع المرض محنة صارت و الحمد لله منحة..بدل أن تقصم ظهري، قوّته. هي رحلة علمتني و أنا سقيم ما كنت أجهله و أنا سليم.

أمّا اليوم، فالعزم أشد على مدافعة مرض أعنف و أفتك…إنها الديكتاتورية أو مرض الشعوب، كما يحلو للبعض وصفها. إن تجربتي علمتني أن لا مهادنة و لا ملاطفة ولا تعايش مع المرض. فإما مقاومة و بقاء وإما تسليم وفناء.

المعركة ضد مرض الديكتاتورية أنا حريص اليوم على خوضها بأسلحة الإيمان و الحب والوفاء التي أثبتت نجاعتها ضد أعتى الأمراض. وهذا يعني أنني لن أغضب الله (الإيمان), و لن أحقد (الحب)، ولن أخون (الوفاء) مهما اشتدت المعركة أو طالت.

باريس في 25مارس 2004

د.شكري الحمروني

*هذا النّص أهديه إلى كلّ الّذين اشتكوا ولو ساعة من مرض الديكتاتورية. أريد أن أعبّر لهم عن وفائي و مودّتي. أريد أن أعتذر لهم إن ساءهم منّي يوما أمر. أتمنّى أن أفرح و إياّهم غدا إن شاء الله بالشّفاء من هذا الدّاء الخبيث الذي أصابنا جميعا. أخيرا أهدي هذه المساهمة المتواضعة إلى رجلين عزيزين إلى قلبي… تمنيت لو كانا قريبين مني: سامي بن غربية ابن مدينتي المقيم في هولندا و مرسل القصبي ابن بلدي المقيم في ألمانيا. إن ما يقومان به من جهد لنصرة قضايا الحق في بلدنا الحبيب لجدير بالشكر والتنويه. بارك الله فيهما.