المقالات المنشورة بهذا القسم تعبّر عن رأي كاتبها فقط و لا تعبّر بالضرورة عن رأي نواة

tunisie

بقلم هيثم قاسمي،

“رأيي صواب يحتمل الخطأ و رأيك خطأ يحتمل الصواب”، هكذا حدّث الإمام الشافعي قال…
في البدء، أريد أن أنوه بالعلاقة بين الواقع و الحقيقة و الرأي لما عاينته من لبس و التباس في هذه المعاني… فالواقع هو كل ما وقع على الحواس من سمع أو بصر أو لمس أو شم أو الاشتراك فيها و هذا المفهوم لا مشكلة فيه إلى حد الآن…

أما الحقيقة و الرأي فهما معضلتان من معضلات مجتمعنا الفتي سياسيا في العموم و تواصليا في الخصوص…لنضرب مثلا تقريبيا للمعنييْن تسهيلا للفهم و ابتعادا عن تعقيدات الفلسفة و اصطلاحاتها… لكل منا رأيه في الرياضيات… هناك من يراها مادة صعبة مثلما هناك من يستسهلها… هناك من يراها مملة و هناك من يستلطفها… كل هذه آراء تدخل تحت مظلة حرية الانسان في اختياراته… هذا رأي… و لكن هناك حقائق ثابتة من نحو العملية الحسابية: 1+1=2… هذه المعادلة الأخيرة تندرج ضمن الحقائق… و الحقيقة كما تُعرّف هي مطابقة الفكرة للواقع… هي التوافق الذي يحصل ما بين المعطيات الفكرية الذهنية و مايقع تحت طائل الحواس…

ففي الواقع عندما أضم اصبعا مع اصبع آخر أجد أنني ضممت اصبعين… و عندما آكل تفاحة و آكل أخرى أكون قد أكلت تفاحتين… و هلمَّ جرَّا بالأفكار التي تخضع لامتحان الواقع فتصبح حقائق…مطلب تحرير هذه المقدمة يتأتى مما قد يعترضنا في حياتنا اليومية من نقاشات تصطدم بجدار الدغمائية و الصلابة و التحجر… و تغرق في أوحال مستنقعات اعتبار الآراء حقائق لا مزعزع لها… و في الجهة المقابلة، نفي بعض الحقائق الكونية الثابتة و اعتباره (هذا النفي) رأي وجب الدفاع عنه من نحو اعتبار العنصرية أو تعنيف النساء أو استغلال الأطفال آراء وجب احترامها…هنا نقع في الثنائية الدقيقة المعقدة التي ان وصلنا ألى أطرافنا استحال الحوار تواصلا…

لعل قارئا لاحظ ما لاحظه الكاتب من إطالة لمقدمة قد لا تمت للموضوع بصلة… و لكن الكاتب يرجو من هذا القارئ الاعتراف بأهمية هذه النقطة في حياته و سيوقن تباعًا في بقية المقال مبتغى الكاتب من ذكرها…

بعد الثورة، صارت حرية التعبير من أكثر المكاسب التي آتت أكلها… و لعل من يقول بأن لا حرية تعبير في تونس ما كان يستطيع التصريح بذلك لو لم تكن هناك حرية للتعبير بالفعل… و من أشد و أعتى مرتكزات حرية التعبير هي إبداء الرأي… و هنا تكمن تلك الأزمة… فكلما ازدادت أهمية الفعل و مكانته كلما صعب و صار أكثر تعقيدا… فمم يعاني الرأي في بلادنا؟!! و فيم تتمثل أزمة المواقف عندنا؟!!

لعل من أهم ما يعانيه الفرد في تونس ما بعد الثورة عند محاولة ابداء رأي أو صناعة موقف هي المعلومات التي ستخوّل لو القيام بهذا الفعل… أصبح من السهولة الآن نشر الأخبار و توزيعها عبر جميع وسائل الإعلام المتاحة من الانترنت إلى المشافهة… و لكن الطامة الكبرى تكمن في مدى صحة هذا الأخبار و المعلومات (و لقد لاحظنا كثرة الإشاعات و تواترها على طول العامين الفارطين)…كيف لإنسان أن يستوعب كل المعلومات التي تجتاح ذهنه عبر وسائل متعددة الاستقبال؟!! كيف للمواطن أن ينتج رأيا بهذه الروية و التأني و الدقة مع مجاراة مقتضيات الواقع السريع المتحول من لحظة إلى أخرى؟!!

من جهة أخرى، أصبح التفرّد أو ما يصطلح سياسيا بالاستقلالية مجهودا شاقا على صاحبه… إذ بعد الثورة أصبح الرأي الثالث و المقترح “جيم” و الاختيار الآخر ضربا من ضروب التهمة و الجريمة… أصبح هذا الطريق مما لا شك فيه مدعاة للإزدراء في مستوى أول يصل إلى التخوين في مستويات متطرفة من عدم القبول بالآخر و الكزينوفوبيا.. الاستقطابات الثنائية أصبحت ديدن هذه المرحلة و مسارها… و لا مجال للإرادة الحرة بأن تكون هي الفيصل و الفاروق…

في مستوى مقابل، يعاني الرأي عندنا من قلة الشجاعة و الخوف من الأحكام التي ستنجر عن اتخاذ هذا الموقف أو ذلك… سواء كان هذا الموقف شخصيا (صناعة محلية) أو فقط منقولا عن من يفكر بالنيابة عن مجموعة… أصبحت الاختلافات في المواقف تولّد السباب و الثلب و الاتهام بالقصور و الجهل و الغباء…

و الأدهى و الأمر تلك الخشية من تعليق ملصقات في ظهور أصحاب الآراء… أذكر طرفة بعد الثورة مباشرة إذ أن الإنسان في لحظة واحدة يصبح محل كره جميع الفرقاء السياسيين، فعندما ينقد الرأسمالية يصبح شيوعيا و حين يدافع عن الملكية الشخصية يصبح ليبراليا و حين يتكلم بدافع عرقي يصبح قوميا… “هيا منين نشدوك؟!!” هذه المقولة العامية التي تنطبق على هذا الشخص الذي انعتق من قيود الايديولوجية و الذي أبى ـــ احتراما لحرية تفكيره ـــ أن يغني أغنية لكل مستمع… هكذا نعاني من أزمة الأحكام المقولبة المسبقة الجاهزة…

تتماهى هذه العقلية السياسية مع مثيلتها الرياضية إذ حين ينتقد أحدنا عدم نزاهة الحكم في مباراة الكرة و فوز فريقه بمساعدة هذا الأخير يكون ضحية التخوين و التشكيك في “ولائه”… عقلية كروية بحتة…أزمة الساحة السياسية الراهنة تكمن في الخوف من الانفراد برأي شخصي بكل ما تحمله كلمة “شخصي” من معنى… ذلك الخوف من الوحدة من الهجر من التفرد… لم يبق للفرد بدّ سوى التشبث بتلك القشة التي تجعله يجاري التيار…