Les articles publiés dans cette rubrique ne reflètent pas nécessairement les opinions de Nawaat.
crédit photo: radio-canada.ca

تستمد هذه السطور شرعيتها من الوضع المتأزم الذي يعيشه عدد غير قليل من مفاهيم ماركس التي شاخت وباتت جزءا من الماضي ولم تعد تواكب نقل عصر متجدد يتجه الى الأمام في سرعة قصوى لا تعرف حدودا مرسومة، ومن هذه المفاهيم مفهوم “الطبقة العاملة” كحاملة لمشروع التغيير.

وفي هذا الحقل يقول كريم مروّة

“اذا كانت تلك التجربة (يقصد التجربة الاشتراكية في أوروبا والاتحاد السوفياتي) قد اعتبرت الطبقة العاملة في مفهومها القديم هي حاملة لمشروع التغيير وأن بعض شرائح المجتمع من الفقراء ملحقة بها، فإن وقائع العصر تشير الى أن الأمور اختلفت عن السابق وأن الشرائح المعنية بالتغيير قد كبرت وتنوعت وتعددت.” (ص 31 نحو نهضة جديدة لليسار في العالم العرب”).

هذه المقولة “الطبقة العاملة” شهدت مراجعات على يد العديد من المفكرين الماركسيين عندما بنوا تحاليلهم على فكرة الصراع والتناقض كما وردت في التنظير الماركسي ولكن مع التنبيه الى عدم وجود طبقة بروليتارية واحدة فحسب وإنما طبقات بروليتارية فهي وان كانت توحدها مصالح مشتركة في الزيادة في الأجور ومواجهة تدهور المقدرة الشرائية في ظل ارتفاع الأسعار وكلفة الحياة وساعات عمل أقل وفي التحرر في النهاية من الاستغلال الفاحش الذي تعانيه الا انها تتمايز في وعيها وفي طاقتها النضالية وفي حصتها من انتاج القيمة المضافة وفي طبيعة عملها وعلاقتها مع الرأسماليين والبيروقراطيين. وهذا يخلق تناقضات داخلها ويجعلها عرضة للمناورات والتقسيم والتذيل للقوى المسيطرة التي تسعى بشتى السبل الى تفتيت الطبقات البروليتارية من خلال تعمدها اعطاء العمال أجورا غير متساوية على نفس العمل الذين يقومون به (أي على نفس الانتاجية وفي الصناعة الواحدة). ففي قمة الهرم نجد العمال الذين يتمتعون بامتيازات هامة ويمكن ان نقول عنهم الارستقراطية العمالية ويليهم في قاعدة الهرم العمال الذين يتقاضون اجورا منخفضة، وتزيد هذه القوى امعانا في تعسفها عندما تقوم بالتمييز بين عمال القطاع الحكومي والقطاع الخاص، بين العاملات والعاملين وبين العمال الدائمين وبين العمال الذين يشغلون خطط عمل جزئي وبأجور متدنية وتقع خارج اتفاقيات الأجور وبهذا يصبحون احتياطات عمل رخيص مما يؤخر فرص الوحدة العمالية إلى أجل غير مسمى.

هكذا يمكننا القول أن العمال الاعلى دخلا يجدون انفسهم في وضع يحصلون فيه على امتيازات أفضل من العمال الأقل دخلا (أجور، سكن، منح…) مما لا يدفعهم للتضامن مع العمال الأقل دخلا بل إنهم قد يقفون في وجه محاولاتهم لتغيير أوضاعهم وقد يحصرون طلباتهم في حدود الاصلاحات التي تعد بها الحكومة ويركزون تحركاتهم على محاولة الحصول على الفتات الذي قد ترمي به لهم الحكومة وأصحاب العمل وهذا السلوك تعبير واضح عن ان طاقتهم الثورية قد نضبت منذ زمن بعيد وأن جلّ اهتمامهم منصبّ حول وهم الحصول على امتيازات أكثر، أما العمال الأقل دخلا فيوجهون سخطهم وغضبهم نحو العمال الأكثر دخلا.

في الحقيقة لا يتسنى لنا فهم هذه الأمور مفصولة عن التوجه العام لمجتمع تحكمه قيم المادة والاحراز على أقصى ما يمكن من الامتيازات، فالرأسمال يدرك جيدا أن تشتيت العمال وتحويلهم الى أفراد معزولين عن بعضهم البعض لا يتم إلا إذا فرّق بينهم على أساس الشهادة العلمية فيعتبر كل الحاصلين على مؤهلات دراسية عالية ليسوا عمالا وهم في ذلك مدفوعين بقوة أقوى منهم تدفعهم الى الاعتقاد بأن شهادة علمية ستدر عليهم الامتيازات المادية والمعنوية (قروض للحصول على سيارة ومسكن وفرصة الصعود الى الطبقات البيروقراطية في الإدارة)، لذلك يتطلب من حامل الشهادة الانخراط في هذا المنطق تنازلات كثيرة تصل حد التخلي عن مبادئ كان قد اعتنقها أيام كان يدرس بالجامعة وحجته في ذلك أن النظرية شيء والواقع شيء آخر.

ويقول سامح سعيد عبّود في هذا الحقل

“تفرق البرجوازية بين الطبقات البروليتارية على أساس المؤهل الدراسي، فتعتبر كل الحاصلين على مؤهلات دراسية ليسوا عمالا، وتطلق عليهم ألفاظا لا تنطبق عليهم بالضرورة لمجرد حصولهم على مؤهل دراسي، ومن اسخف هذه التعبيرات “المثقفين” والذي ينطبق بالتعريف العلمي للمثقفين على بعض غير الحاصلين على أي مؤهلات دراسية أصلا، وتميز هؤلاء المتعلمين سواء في ما يحصلون عليه من أجور وامتيازات نقدية وعينيّة، وتضفي عليهم وسائل الاعلام والثقافة والتعليم الاحساس بالتميز والتفوق الأمر الذي يشبع غروررهم الانساني ويضخم ذواتهم وهو تميز لا يعبر عن فروق جوهرية بين العمال المتعلمين وغير المتعلمين، من حيث قيمتهم المعرفية أو قيمتهم الانتاجية. غير ان ما تفتحه الرأسمالية أمام المتعلمين من فرص الصعود الى الطبقات البيروقراطية في الإدارة يعزلهم عن الاندماج في الطبقات البروليتارية.”

هذا التصنيف شهد تطويرا على يد الفرنسي “بيار بورديو” عندما توجه توجها جديدا نقض فيه الصراع بين من يملك ومن لا يملك (بين من يملك وسائل الانتاج المادي ومن لا يمتلكها) بعد أن تبين له أن المجتمع مجموعة حقول، لكل حقل منطق اشتغاله الخاص ورهاناته، بمعنى آخر، يمكن ان توظف الشريحة العمالية المتكونة من أساتذة تعليم عالي وثانوي، مهندسون، أطباء… رأسمالهم “الثقافي” لتحقيق امكانية الالتحاق بجهاز الدولة البيروقراطي الذي اذا انوجدت فيه تستطيع بواسطته أن تحقق هيمنة تتيح لها تحقيق بعض الامتيازات المادية والحفاظ عليها.

بلا شك ان عمال الصناعة هم الأكثر قدرة على قيادة البشرية نحو التحرر من استغلال الانسان للانسان وذلك لعدة أسباب من أهمها :
أولا انهم ينوجدون بالآلاف في الوحدة الانتجاية الواحدة مما يسهل اجتماعهم وتنظيم أنفسهم والذود عن مصالحهم عن طريق عناصرهم الأكثر قدرة على التعبير والدفاع عن تلك المصالح وهذا الدفاع لا يقف عند حد معين لكنه يهدف أساسا الى انتزاع السلطة السياسية. ثانيا بحكم الخصائص التي تجمع العمال ،عدم ملكيتهم لوسائل الانتاج واقتصارهم على بيع قوة عملهم وتعرضهم للاستغلال من هؤلاء الذين يراكمون على حسابهم الثروات على الرغم من أنهم هم الذين ينتجون معظم الثروة الاجتماعية المادية،يدرك العمال مدى الاستغلال والحيف الواقع عليهم فيكتسبون بذلك الوعي بذاتهم الطبقية الذي يدفعهم الى خوض نضالات ضد الرأسمالية وأن يفتكوا الكثير من المكاسب بل استطاعوا في فترات تاريخية اعتلاء السلطة السياسية (كمونة باريس 1871 – روسيا 1917 – اسبانيا 1936) . غير أننا في لحظة تاريخية لم يعد فيها عمال الصناعة يشكلون الغالبية العمالية بسبب استخدام التكنولوجيا فقد ازدادت أعداد الذين لا شغل لهم وعمال الخدمات والعمالة المؤقتة الغير مستقرة التي تحصل على أجور متدنية بالمقارنة مع العمال القارين مما ساهم في مزيد تشتيت الطبقات العمالية ما ينتهي بنا الى التساؤل : مَن من بين الطبقات البروليتارية المؤهلة لقيادة التغيير الاجتماعي؟

كان الشيوعيون معادين لفكرة الدولة، وكان الفكر الماركسي في القرن 19 ينظّر لاضمحلال الدولة وتبيّن للدارسين من خلال تعرضهم لكتاب لينين “الدولة والثورة” أن موقفه من الدولة اقترب من “باكونين” وابتعد قليلا عن ماركس. والدولة في التنظير الماركسي هي أداة مرحلية تستغلها البروليتاريا ضد نقيضها الطبقي قبل أن تقضي نهائيا على المجتمع الطبقي وتنقض القديم وتكون الخطوة الحاسمة في أن يصبح المجتمع كله بلا طبقات وتحل نفسها كطبقة لتصبح الملكية للمجتمع لكل وسائل الانتاج عندها يضمحل مفهوم الدولة التي لا وجود لها في الشيوعية. لكن هناك من الماركسيين مثل كريم مروّة الذي قرر نقد هذه الأفكار التي وجدت نفسها محاطة بطوباوية جميلة فيقول ما يلي

“أنا الاشتراكي… أدعو اليوم كمهمة لها الأولوية القصوى إلى بناء الدولة في بلداننا، وهي الدولة الديمقراطية… دولة الحق والقانون، دولة المؤسسات الديمقراطية، دولة تتوفر فيها للإنسان الفرد والإنسان الجماعة حقوقه.”

ويذهب العديد من الماركسيين بعيدا عندما يدعون إلى إعادة دور الدولة في الإقتصاد على طريقة “كينز” و”بيار بورديو” صاحب نظرية “اليد اليسرى للدولة” في مواجهة النيوليبرالية التي تسعى للخلاص من دولة الرعاية. ويستندون في هذا الميدان على ماركس فيقرون بأن للدولة في النظام الرأسمالي “حياد نسبي إزاء الطبقات الاجتماعية وإزاء القوى السياسية المعبّرة عنها، ولا سيما الطبقة الاجتماعية السائدة التي يعدّ وجود هذه الدولة تعبيرا عن مصالحها.”

أما مفهوم دكتاتورية البروليتاريا لم يفرز إلا جرائم فكرية وسياسية وأنجب مجموعة من الرأسماليين الجدد (النموكلاتورا) الذين نشأوا في أحضان البيروقراطية.

في النهاية أنا لا أسقط عن نفسي صفة الماركسية لكني أعترف بأني أصبحت اختلف في أمور جوهرية مع هذه المفاهيم في الفكر الماركسي وبتّ أسعى جاهدا إلى التعامل مع هذا الفكر العلمي تعاملا لا يحنّطه ويحكم عليه إما بالتقوقع في الكليشهات الجاهزة فينظر إليه على انه يقدم حلولا لكل المشاكل صالحة لكل زمان ومكان والحال أن ماركس لم يدّع لنفسه ذلك إطلاقا فهو الذي قال “لا تطرح الانسانية على نفسها إلا المسائل التي تستطيع حلها” أو يدحضه (دون أن نعثر على قراءات جدلية لهذا الفكر) بدعوى أنه لا يتلاءم مع هويتنا وبخاصة ما نسمعه اليوم من قادة شيوعيين في تونس يتبرّؤون من مقولة الشيوعية ويبذلون أقصى جهدهم لإظهار أنفسهم في وفاق مع الدين للالتحام بالناس لغايات انتخابية في حين أن ماركس لم يقصد بمقولة “الدين أفيون الشعوب” معاداة الدين كمعتقد بل أراد نقد استعمالات الدين وتوظيفاته بل ذهب أبعد من ذلك عندما قام بابراز الدور التقدمي الذي لعبه الدين في صراعات الفلاحين في ألمانيا (القرن 19) وكيف أن الدين لعب دور المحرك لهم. كما أخالف هؤلاء الذين يبحثون عن تطويع المفاهيم الماركسية قصد توظيفها لفهم تناقضات تخترق مجتمع لم يعرف التطور الصاعد الذي قطعته مجتمعات أخرى حققت تقدما في المجال التكنولوجي والصناعي حيث يحصر هؤلاء أنفسهم في مسائل تجرهم الى التقوقع تحت الكليشهات المتضادة والبالية والانشغال بمسائل البحث عن طبيعة الانتاج وحصر عدد الطبقات في المجتمع

بقلم خلدون العلوي