تونس حاضرة في قلب عملية ”طوفان الأقصى“ التي تنفذها المقاومة الفلسطينية (أساسا كتائب القسام) في الأراضي المحتّلة انطلاقا من غزة المحاصرة منذ فجر السابع من أكتوبر الجاري. هذا الحضور لم يقتصر على التضامن الشعبي -وحتى الرسمي- الهائل مع المقاومة الفلسطينية وانتصاراتها، بل تعدّاه ليصل ميدان المعركة. ليس هناك مقاتلون تونسيون على الأرض، لكن هناك مسيرات وأطياف تونسيّة في سماء المعركة.
ميلود بن ناجح نومة
من بين أهم الأسلحة التي منحت حركة ”حماس“ القدرة على مباغتة الاحتلال، المظليات التي انطلقت من البر والبحر نحو المستوطنات المستهدفة. هذا الأسلوب الذي لجأت اليه حماس لأول مرة ذكر الكثيرين بعملية مشهورة في تاريخ المقاومة الفلسطينية: ”ليلة الطائرات الشراعية“.
في 25 نوفمبر 1987 انطلق، من مرتفعات جنوب لبنان، أربعة مقاتلون من منتسبي ”الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين – القيادة العامة“ باتجاه الداخل الفلسطيني المحتل. وكانت الوسيلة التي اعتمدوا عليها لاختراق الحدود ومغافلة الاحتلال في غاية البساطة والعبقرية: طائرات شراعية -تحمل اسم ”قبية“ ثأرا للقرية الفلسطينية التي نفّذ فيها مجرم الحرب اريال شارون مجزرة سنة 1951- مزودة بمحركات خفيفة تمكّن من التحليق لبضعة كيلومترات على علو منخفض. كانت بمثابة عملية ”انتحارية“، فالطائرات المستعملة لا يمكن الإقلاع بها مجدّدا إذا ما حطّت على الأرض، مما يعني الأسر أو القتال حتى الموت. طائرتان سقطتا بعد مسافة قصيرة فيما استطاعت طائرتان أخريين العبور. يقود الأولى مقاتل سوري (خالد الأكر) حطّ بالقرب من مستوطنة ”معيان باروخ“ في المنطقة العازلة بين جنوب لبنان وشمال فلسطين المحتل التي يسيطر عليها الاحتلال ”الإسرائيلي“ وميليشيات ”جيش لبنان الجنوبي“ الموالية حيث استشهد وهو يقاتل. أمّا الثانية فتعطلت بالقرب من مستوطنة ”كريات شمونة“ و”معسكر غابور“ الذي يأوي قوات من نخبة جيش الاحتلال. إثر تحطم طائرته أصيب قائد الطائرة الثانية في قدمه، وعلى الرغم من كل الظروف المحيطة به استطاع الصمود وتمكن من السيطرة على شاحنة عسكرية والدخول إلى المعسكر وقتل ستة جنود ”اسرائليين“ وجرح ثمانية آخرين قبل أن يستشهد. كان اسمه ميلود بن ناجح نومة، تونسي من مواليد سنة 1955، أصيل ”سيدي مخلوف“ بولاية مدنين.
لا تتوافر معلومات كثيرة حول حياة ”أبو علي التونسي“ (الاسم الحركي لميلود) القصيرة والحافلة. ما نعرفه من خلال شهادات أفراد عائلته ومعلومات متناثرة في مواقع اعلامية وصفحات فلسطينية وتونسية أنّه غادر تونس أوّل مرّة سنة 1974 (لا معلومات عن الوجهة) وعاد اليها سنة 1978 ليقضي فيها أسابيع قليلة قبل أن يغادرها مجددا. ولم يعد إلّا بعد 30 سنة (بالأحرى عاد رفاته)، تحديدا في صيف 2008 إثر صفقة تبادل الأسرى ورفات المقاتلين بين حزب الله والاحتلال ”الإسرائيلي“، بعد أن ظل جثمانه محتجزا طيلة 21 سنة. نعلم أيضا أنّه كان في سوريا لحظة اجتياح لبنان في 1982 وأنّه بقي هناك لمدة خمس سنوات تدرّب خلالها في معسكرات ”الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين – القيادة العامة“ التنظيم العسكري الفلسطيني ذي الخلفيات القومية-اليسارية. في سنة 1987، انتقل ميلود إلى جنوب لبنان ومن هناك انطلق نحو فلسطين المحتلّة والفداء. هل كانت له انتماءات سياسية/تنظيمية في تونس قبل مغادرتها، وكيف تواصل مع المقاومة الفلسطينية لأول مرة، ولماذا اختار ”الجبهة الشعبية“ بالذات؟ كل هذه الأسئلة لم نجد لها إجابات دقيقة وموثوقة. لكن لا يهمّ، صنع الشّاب التونسي أسطورته وساهم في تحريك المياه الراكدة. اكتست عملية الطائرات الشراعية-قبية أهمية كبيرة في تلك الفترة، فلقد شكلّت أوّل اختراق فدائي ناجح للأراضي المحتلّة انطلاقا من لبنان بعد اجتياحه من قبل ”الإسرائيليين“ في سنة 1982 وحصارهم لبيروت الغربية واجبارهم منظّمة التحرير الفلسطينية على المغادرة باتجاه تونس ودول أخرى وسيطرتهم رفقة عملائهم المحليّين على جنوب لبنان والحدود اللبنانية مع فلسطين المحتلة. كما كان لها وقع كبير على الاحتلال ”الإسرائيلي“ الذي اعتبرها إهانة كبيرة وفشلا أمنيّا ذريعا كسر وهم تحكمه الكامل في الحدود، في حين استبشر بها فلسطينيّو الداخل الذين أبعدت قياداتهم آلاف الكيلومترات وعرفت قضيّتهم مرحلة تقهقر أواسط الثمانينيات، ورفعت معنويّاتهم. أشعل ميلود ورفاقه نارا أزاحت بعض العتمة المهيمنة آنذاك، حتى أنّ هناك محلّلين يعتبرون أنّ عمليّة الطائرات الشراعية-قبية كانت من بين المحفّزات غير المباشرة لاندلاع الانتفاضة الأولى بعد أيّام قليلة (9 ديسمبر 1987).
محمد الزواري
بعد 36 سنة من تنفيذ العملية استلهمت كتائب القسّام من تقنية الطائرات الشراعية وطوّرت محركاتها بشكل يجعلها قادرة على الإقلاع من أي مكان والطيران بشكل أسرع ولمدّة أطول. وفي اليوم الثاني من عملية ”طوفان الأقصى“ دخلت طائرات أخرى على الخطّ، وكانت بصمة تونس حاضرة بشكل مباشر هذه المرة. نتحدث عن مسيّرات ”الزواري“ التي تحمل اسم صانعها ومطوّرها المهندس التونسي الشهيد محمد الزواري الذي اغتالته مجموعة تتبع جهاز ”الموساد“، يوم 15 ديسمبر 2016 في وضح النهار وأمام منزله في مدينة صفاقس. عشرون رصاصة أطلقها منفذو عملية الاغتيال، استقرّ بعضها في رأس وصدر الزواري فقتلته. قبل ذلك اليوم لم يكن اسم الزواري معروفا لعموم التونسيين والعرب. ويمكن أن نتخيّل ذهول جيرانه عندما اكتشفوا بعد حادثة الاغتيال أنّ جارهم قياديّ في أحد فصائل المقاومة الفلسطينية المسلحة: ”كتائب عز الدين القسام“ الذراع العسكري ل”حماس“. لم يلاق اغتيال الزواري صدى كبيرا في الساعات الأولى التي عقبت العملية فالتغطية الإعلامية كانت ضعيفة والاهتمام الرسمي كان أضعف، ربما لأن أبعاد الاغتيال لم تكن واضحة وهوية الشهيد غير معروفة للناس. لكن، منذ اصدار كتائب القسام بيانا نعت فيه الزواري معرّفة إياه كأحد قياداتها ومؤكدة أنّه انضم إلى صفوفها منذ سنة 2006، ومنوّهة بالعمل الكبير الذي قام به في تطوير طائرات ”ابابيل“ وغيرها من المسيرات التي لعبت دورا هاما خلال العدوان ”الإسرائيلي” على غزة سنة 2014. ويذكر هنا أنّ الزواري المولود سنة 1967 غادر البلاد سنة 1991 بعد فترة من السجن وتوجّه نحو ليبيا ومنها إلى السودان قبل أن ينتقل إلى سوريا ويستقر هناك إلى حدود سنة 2012 عندما قرر العودة إلى تونس. راجت معلومات حول تعاونه -خلال فترة تواجده في سوريا- مع ”حزب الله” اللبناني. هذا الأخير لم ينف ولم يؤكّد المعلومات لكنّ أحد قياداته اتّصل بعائلة الزواري وقدّم تعازي الحزب بشكل رسمي.
في شهر ماي 2021 أعلنت كتائب القسام عن سلاحين جديدين انضما إلى ترسانتها: غوّاصات وطائرات مسيّرة (ذاتيّة القيادة) تحمل اسم ”الزواري“ اعترافا بالجميل للمهندس الشهيد واستكمالا لمشروعه التكنولوجي المقاوم. وعلى الرغم من الفخر والغضب الشعبيّين الذيّن عقبا اغتيال الزواري واكتشاف الجمهور لمسيرته كمقاوم، فإنّ الرجل لم يحظ بالتقدير الكافي على المستوى الرسمي ولدى جزء من ”النخب“. انتماء الزواري إلى فصيل فلسطيني مقاوم ذو خلفية إسلامية، وقبل ذلك انتمائه إلى الاتجاه الإسلامي في تونس مطلع شبابه، يثير حساسيّة لدى عدد من التونسيين خاصة وأنّ اغتياله جاء في فترة تتميّز باحتقان شديد -في تونس وعلى المستوى العربي- بين محاور إقليمية متصارعة: الإخوان المسلمون وقطر وتركيا من جهة، ومصر والسعودية والإمارات من جهة أخرى. وعلى الرغم من كشف السلطات التونسية -في ديسمبر 2018 – لهويّات مختلف المتورّطين في التخطيط والتنسيق والتنفيذ، فإنها تعثّرت أو لم تكن جديّة بما يكفي للمضي قدما في ملاحقتهم. لكن ”لا يهمّ“، ثأر الزواري لنفسه يوم 7 أكتوبر عندما شاركت الطائرات التي تحمل اسمه وبصماته في ملحمة ”طوفان الأقصى“.
عبد القادر المولوي الجندوبي
لئن كان الزواري آخر الشهداء التونسيين -ومن المرجح ألا يكون الأخير- فإن ميلود بن ناجح نومة لم يكن أوّلهم، ف”العدّاد“ قديم. نستذكر هنا بطلا تونسيّا آخر لم ينل حظّه من الاعتراف ونادرا ما يُذكر اسمه عند الحديث عن شهداء فلسطين التونسيين: عبد القادر المولوي الجندوبي.
صبيحة 13 جانفي 1979 قاد ”الملازم الأول محمد علي“ (الاسم الحركي لعبد القادر المولود في تونس سنة 1955) مجموعة صغيرة من الفدائيين المنتسبين إلى ”الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين“ (تنظيم يساري) تسلّلت إلى منطقة ”معالوت – ترشيحا“. وقد استطاعوا السيطرة على مبنى يتبع الاستخبارات ”الإسرائيلية“ حيث احتجزوا أكثر من 200 رهينة واشترطوا لإطلاق سبيلهم تحرير أسرى فلسطينيين. سعت قوات الإحتلال إلى تحرير الرهائن بالقوة بدلا من التفاوض فاشتبكت مع مجموعة المقاتلين واستطاعت محاصرتهم. انتهت المعركة بمقتل ستة جنود ”إسرائيليين“ واستشهاد عبد القادر ورفاقه الذين احتجزت جثثهم. ولا تتوافر معلومات أكثر عن حياة ومسيرة عبد القادر الجندوبي القصيرة (23 سنة) وكيفية التحاقه بالمقاومة الفلسطينية.
عمران بن الكيلاني المقدمي
عمران بن الكيلاني المقدمي هو أيضا أحد الشهداء الذين ارتبط اسمهم بعمليّات نوعية للمقاومة الفلسطينية. ولد ”أبو خالد“ (اسمه الحركي) سنة 1961 في قفصة وانتمى في شبابه إلى ”الوطنيين الديمقراطيين“ (الوطد، تنظيم يساري تونسي) قبل أن يسافر إلى سوريا سنة 1984 ويلتحق فيما بعد بصفوف ”الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين“. وكان قائد مجموعة الفدائيين التي تسلّلت يوم 26 أفريل 1988 إلى مستوطنات شمال فلسطين المحتلّة لتنفيذ عمليّة ثأرية سميّت “أبو جهاد“. وكان اختيار هذا الاسم بعد اغتيال ”الموساد“ للقيادي الكبير في حركة ”فتح“ و”منظمة التحرير الفلسطينية“ خليل الوزير (أبو جهاد) في منزله بضاحية سيدي بوسعيد التونسية. بالطبع لعبت جنسية المقدمي دورا في اختياره للمشاركة في العملية التي أسفرت عن مقتل سبعة جنود ”إسرائيليين“ من بينهما ضابطان برتبة عقيد، وأسر جنديين آخرين، واستشهاد المقدمي واثنين من رفاقه.
استرجع ”حزب الله“ اللبناني رفات المقدمي خلال صفقة تبادل مع ”الإسرائيليين“ سنة 2004 ، ودفن في ”مقبرة الشهداء“ بمخيم ”شاتيلا“ بانتظار ان تسترجعه تونس وعائلته لكن الأمر تطلب سنوات طويلة حتى يعود عمران إلى قفصة. لم تتجاوب السلطات التونسية مع مطالب عائلة المقدمي في استجلاب الرفات وإقامة موكب رسمي احتفاء بما قدّمه. ولم يكن المقدمي من بين الشهداء التونسيين الثمانية الذين أعيد رفاتهم إلى تونس في 2008، ولم يوار تراب الوطن إلا في أفريل 2012 أي بعد ثورة سنة 2011 وسقوط بن علي.
تاريخ من النضال المشترك وتوريث المقاومة
لا تقتصر قائمة الشهداء التونسيين على هذه الأسماء الأربعة، بل هي أطول بكثير، فهناك على الأقل 40 شهيدا آخرين، استشهد أغلبهم وهم يقاتلون في فلسطين ودول الطوق في حين قتل البقيّة في تونس خلال هجمات الاحتلال ”الإسرائيلي“ الغادرة.
ارتبط التونسيون وجدانيا بالقضية الفلسطينية منذ بداية تنفيذ المخططات الصهيونية المدعومة غربيا في عشرينيات القرن الفائت. فقد شاركوا في المؤتمر الإسلامي العام الذي انعقد في القدس سنة 1931 بدعوة من مفتي فلسطين آنذاك الشيخ أمين الحسيني، واختير الزعيم السياسي التونسي عبد العزيز الثعالبي -الذي لعب دورا هاما في انعقاد المؤتمر-[1] ليكون ضمن الهيئة الدائمة المنبثقة عنه. كما سعوا إلى التصدي للدعاية الصهيونية الموجّهة إلى يهود تونس في ثلاثينيات وأربعينيات القرن الفائت[2] وتفاعلوا مع الثورة الفلسطينية الكبرى (1936 – 1939)، ولم يترددوا في الذهاب إلى فلسطين عقب اعلان تقسيمها في نوفمبر 1947 ونكبة ماي 1948. قرابة 3000 متطوع تونسي حاولوا الالتحاق بجبهات القتال عابرين ليبيا ثم مصر على الاقدام وظهور الدواب في كثير من الأحيان، لكنّ أغلبهم لم يتمكن من ذلك بسبب إلقاء القبض عليهم من قبل السلطات الاستعمارية الفرنسية والانجليزية. ومع ذلك استطاع العشرات وربما المئات الوصول والانضمام إلى المقاتلين الفلسطينيين والعرب، قاتلوا في القدس ويافا وبيت لحم وغيرها من المدن الفلسطينية. وحسب تقرير للسلطات الاستعمارية الفرنسية صادر في جويلية 1948 فإن هناك على الاقل 11 تونسيا استشهدوا خلال الفترة الأولى من حرب 1948- 1949. ومن بين أسماء الشهداء المُثبتة نذكر: عبد الحميد الحاج سعيد وبلقاسم عبد القادر ومحمد التونسي (القدس)، وأحمد ادريس (رمات رحيل)، وعلي بن صالح التونسي (يافا)[3].
مشاركة المتطوعين التونسيّين في حرب 1948 وعودتهم فيما بعد إلى تونس سيكون لها أثر إيجابي على حركة التحرّر الوطني ضد الاحتلال الفرنسي في تونس التي اندلعت في جانفي 1952. فلقد اكتسبوا مهارات ومعارف قتالية عملية خلال المعارك وخبروا كيفيّات جمع التبرّعات والسلاح وحشد المتطوعين وتنظيمهم في مجموعات، الخ. ومن بين هؤلاء المتطوعين الذين لعبوا أدوارا هامّة بعد عودتهم إلى تونس ومشاركتهم في معركة التحرر الوطني نذكر[4] : ”الضابطين المتكوّنين في سوريا عزالدّين عزّوز وعمر البنبلي. هذا الأخير تمّ إعدامه في محاولة الانقلاب على بورقيبة أواخر 1962 كذلك قائد المقاومة المسلحة في تونس سنوات 1952-1954 الأزهر الشرايطي والمتطوعين في كمندوس فرحات حشّاد (12-13-14 ديسمبر 1952 بجبل الرّهاش) حسن بن عتيق جبو وعلي بن مسعود والحاج سوداني من مجموعة القائد الساسي لسود وكذلك علي بن اسماعيل (الهلالي) سائق الزعيم صالح بن يوسف الذي وقع اغتياله في 22 نوفمبر 1955 وغيرهم كثيرين.“
”الموجة“ الثانية من الشهداء التونسيين المقاومين ستمتد ما بين 1979 و1996[5]، أي تقريبا ما بين توقيع ”اتفاقية كامب ديفيد“ للسلام بين مصر و”إسرائيل“ وتوقيع اتفاقيات أوسلو. عملية ”معالوت ترشيحا“ 1979 التي قادها عبد القادر الجندوبي هي فاتحة العمليات التي سُجّل فيها استشهاد تونسيّين خلال تلك الفترة. بعدها بقرابة سنتين (29 / 11/ 1980) استشهد محمد نذير أحمد الدويري (ولد سنة 1952 واسمه الحركي ”يوسف التونسي“) خلال عملية قتاليّة في الداخل الفلسطيني المحتّل نفذتها ”الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين“. ثم جاء الدور على ميلود بن ناجح نومة (نوفمبر 1987) وعمران بن الكيلاني المقدمي (أفريل 1988) الذين أشرنا اليهما سابقا. وفي ديسمبر 1988 استشهد خالد بن صالح الماجري اصيل ولاية القيروان في منطقة الجليل شمال فلسطين خلال عملية فدائية، وانضمّ اليه في نوفمبر 1990 أصيل القصرين مقداد الخليفي (من مواليد سنة 1959) خلال اشتباكه رفقة مقاتلين آخرين من ”الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين – القيادة العامة“ مع قوات الاحتلال المتواجدة في مزارع شبعا اللبنانية المحتلة. في 3 مارس 1991 استشهد صلاح مصطفى الماجري (من مواليد تونس العاصمة في سنة 1961 واسمه الحركي ”أبو جهاد“) المنتسب إلى ”الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين“ خلال عملية ”شهداء دولة فلسطين“. وككلّ سنة في تلك الفترة كان لا بدّ من شهيد تونسي، فجاء دور ابن جزيرة قرقنة(صفاقس) عمر قطاط الذي ناضل صلب تنظيم ”الشعلة“ الماركسي التونسي قبل سفره إلى سوريا والتحاقه بالمقاومة الفلسطينية، واستشهد في 22 ديسمبر 1992 في منطقة ”مرج الزهور“ بجنوب لبنان خلال اشتباك مع دوريّة جنود “إسرائيليين“. بعد أشهر قليلة، التحق به فيصل الحشايشي (مواليد،لاية قابس سنة 1965) اثر استشهاده في عملية للمقاومة الفلسطينية استهدفت دوريّة لجنود الاحتلال في جنوب لبنان. جانفي 1995 وجانفي 1996 كان لهما نصيب مضاعف من الشهداء التونسيين. ففي 19 جانفي 1991 استشهد كلا من رياض بن الهاشمي بن جماعة (مواليد صفاقس 1968) وسامي بالحاج علي (مواليد 1967 بجزيرةجربة-ولاية مدنين) في نفس العملية التي استهدفت رتلا لآليّات ”إسرائيلية“ في منتصف الطريق بين بلدة ”الطيبة“ اللبنانية ومستوطنة ”مسكافعام“ في الداخل الفلسطيني المحتل. أما جانفي 1996 فشهد في اليوم ال27 منه استشهاد بليغ اللجمي (مواليد ولاية صفاقس) وكمال بن السعودي البدري (مواليد قفصة سنة 1975) خلال عملية فدائية من تخطيط ”الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين – القيادة العامة“ في منطقة ”السريرة“ جنوب لبنان.
في نفس الفترة تقريبا استشهد قرابة 20 تونسيا على خلفية القضية الفلسطينية، لكن في تونس. في أوت 1982 استقبلت تونس جزء هامّا من قيادة منظمة التحرير الفلسطينية وكوادرها بعد أن أجبروا على مغادرة لبنان بعد محاصرة ”الإسرائيليين“ وأعوانهم لبيروت وقصفها طيلة 88 يوما. وعلى الرغم من البعد الجغرافي واصلت المنظمة قيادة الثورة الفلسطينية ممّا جعل قادتها ومقرّاتها في مرمى النيران ”الإسرائيلية“ التي وصل لظاها إلى تونس في 1 أكتوبر 1985. في ذلك اليوم نفذ سلاح الجو ”الإسرائيلي“ عمليّة ”الساق الخشبيّة“ التي استهدفت مقرّات تابعة لمنظمة التحرير ولقيادات فلسطينية مثل ياسر عرفات وآخرين، فاستشهد 68 شخصا من بينهم 50 فلسطينية وفلسطيني و18 تونسية وتونسي. بعدها بأقل من ثلاث سنوات نفّذ الموساد عمليّة استهدفت القيادي الفتحاوي الكبير ”خليل الوزير“ المعروف باسم ”أبو جهاد“. اغتيل الهدف واستشهد اثنان من حراسه الفلسطينيّين ومعهم بستاني يعمل في فيلا ”أبو جهاد“ وهو التونسي حبيب بن حسن الدخيلي.
أكثر من 40 شهيدا حفظت الذاكرة الفلسطينية-التونسية أسمائهم ووثّقت ظروف استشهادهم. لكن العدد قد يكون أكبر وربما هناك شهداء لا نعرفهم في مقابر الأرقام لدى الاحتلال (حيث يرقد مقاتلون فلسطينيين وعرب لم يفرج عن جثامينهم وضاعت هويّات كثير منهم) أو اغتيلوا في عمليات سريّة للموساد، أو لم تشأ التنظيمات التي انتموا اليها الكشف عن هويّاتهم لسبب أو لآخر. كما أنّ المعارك والحروب العربية/الفلسطينية-الصهيونية الأولى اندلعت في زمان لم تكن فيه وثائق الهويّة وجوازات السفر معمّمة على الجميع، ولم تكن تونس قد استقلّت حينها وأرسلت بعثات ديبلوماسية إلى المنطقة العربية والعالم.
يتواتر ذكر سوريا وبشكل أقل ليبيا في مسارات المقاتلين التونسيين الذين استشهدوا وهم يسندون المقاومة الفلسطينية. الأجيال الأولى كانت تعبر ليبيا في اتجاه الشرق، مصر ففلسطين. أما الأجيال التي تلتها (ثمانينيات وتسعينيات القرن الفائت) فكانت تذهب إلى سوريا مباشرة كخطوة أولى نحو الالتحاق بفصائل المقاومة الفلسطينية اليسارية/العروبية والمشاركة في معاركها في جبهة جنوب لبنان/شمال فلسطين المحتلّة. وليس من باب الصدفة أنّ سقوط آخر شهيد تونسي ينتمي لفصيل فلسطيني ”علماني“ يقاتل في جنوب لبنان يعود إلى سنة 1996. ففي تلك الفترة بدأت التيّارات اليسارية والعروبية و”التقدمية“ عموما تشهد انحسارا كبيرا بعد تفكك الاتحاد السوفياتي والمعسكر الشرقي وتصدع ”جبهة الرفض“ العربية وتوقيع اتفاقيات ”كامب ديفيد“ و”أوسلو“ و”وادي عربة“. هذا وتحوّل جزء من الثورة الفلسطينية إلى سلطة على رقعة جغرافية محدودة من فلسطين. كما لعب القمع و”تجفيف المنابع“ الذي جوبهت به أغلب الحركات اليسارية المعارضة في الدول العربية دورا في هذا الانحسار. بالتزامن، بدأت التيّارات الإسلامية ذات البعد الوطني التحريري أو الجهادي/التكفيري تكتسح الميدان وتقدما عروضا أيديولوجية بديلة عن تلك التي سادت من ستينيات القرن العشرين، وأصبحت لها جاذبية كبيرة لدى الشباب الغاضب من تدهور أحوال ”الأمّة“. سيطر ”حزب الله“ -رفقة حلفائه في ”حركة أمل“- تدريجيا على جنوب لبنان حتى أصبح عمليّا قائد المقاومة اللبنانية، في حين استطاعت حركة حماس -وبشكل أقّل حركة ”الجهاد الإسلامي“- أن تفرض نفسها كأكثر التنظيمات الفلسطينية قوّة وشعبيّة في الداخل الفلسطيني، خاصة في قطاع غزة. ثلاثون سنة فصلت استشهاد آخر مقاوم تونسي ”يساري“ عن استشهاد المقاوم ”الإسلامي“ محمد الزواري (ولسنا هنا في سياق مفاضلة بين الشهداء)، وبين التاريخين جرت مياه كثيرة في النهر. بعد ثورة 2011 تواتر ذكر سوريا وليبيا من جديد وصارت للمقاتلين التونسيين ”شهرة“ لكنها للأسف غير مشرفة. مئات وربما آلاف الشباب التونسيين غادروا تونس باتجاه ليبيا وتركيا وسوريا، لا للالتحاق بالمقاومة اللبنانية/الفلسطينية، بل للانضمام إلى تنظيمات وكيانات إرهابية قروسطية موغلة في الدمويّة والوحشيّة مثل ”تنظيم داعش“ وغيره. عوامل كثيرة -محليّة وخارجية- أضاعت بوصلة هؤلاء الشباب وأوصلتهم إلى مستنقعات الحروب الأهليّة والمحاور الإقليمية والمناورات الاستخباراتية، الخ. لكن ما هو مؤكد أنّ بوصلة أغلب التونسيين ما زالت تشير إلى القدس، وانهم لا يعرفون كيف يشفون من حبّ فلسطين.
[1] عبد العزيز الثعالبي، ”خلفيات المؤتمر الإسلامي بالقدس 1350هـ – 1931م”، جمع أحمد بن ميلاد وتحقيق حمادي الساحلي، دار الغرب الإسلامي، 1988.
[2] -الهادي التيمومي: النشاط الصهيوني بتونس 1897 – 1948، دار محمد علي الحامي للنشر، 1983.
[3] للاطلاع أكثر على الموضوع، انظر/ي:
– عميرة عليّة الصغيّر: ”التونسيون والقضية الفلسطينية 1920-1948″، فصل مضمن في كتاب “التحرر الاجتماعي والوطني”، المغاربية لطباعة ونشر الكتاب، تونس، 2010.
[4] حسب ما ورد في مقال عميرة عليّة الصغيّر ”الشعب التونسي في نصرة فلسطين1947-1948“، نشر في ”السياسية” بتاريخ 26 / 05 / 2009.
[5] جمعنا المعلومات حول أسماء المقاومين وسياقات استشهادهم من عدة مصادر ومواقع فلسطينية وتونسية.
iThere are no comments
Add yours