وفق معطيات المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، فإنّ عدد الاحتجاجات الاجتماعية خلال الثلاثي الثالث لهذه السنة بلغ 680 حراكًا، مقابل 1119 احتجاجًا في شهر ديسمبر فقط من سنة 2021 حسب تقرير المنتدى. أرقام المعهد الوطني للإحصاء تشير بدورها إلى اختلال الميزان التجاري بـ 1877 – مليون دينار نتيجة ارتفاع قيمة الواردات مقارنة مع الصادرات، إلى جانب استقرار نسبة التضخم إلى حدود 8.3% في شهر نوفمبر لهذه السنة، بعد أن تجاوزت 10% في شهر مارس، فيما تتجاوز نسبة البطالة 15% في الثلاثي الأخير من هذه السنة.
”رغم وجود عديد المؤشرات التي تدعو إلى الاحتجاج مثل البطالة ونقص المواد الأساسية، إلا أنّ وتيرة الاحتجاج تراجعت. يبدو أنّ هناك نوع من الهدنة بين الدّولة والقوى الاجتماعية التي من المفترض أن تحتجّ على هذه الأوضاع، وكأنّها تساند الدّولة في حربها ضدّ المحتكرين“، يعلّق أستاذ علم الاجتماع محمّد الجويلي خلال حديثه مع نواة، مشيرًا إلى انتقال الأزمة من مطالب التشغيل التي كان يقودها الشباب العاطل عن العمل إلى أزمة غياب الموادّ الغذائية التي تخوضها العائلة بالأساس. ليضيف: ”الأزمات الجديدة المتمثّلة في غياب الموّاد الأساسية تتحمّلها العائلة بالأساس، وكأنّ الشباب غير معنيّ بنقص الزيت والسكر، فهو مازال ينشط في إطار الاحتجاجات الكلاسيكية المرتبطة بمشكل البطالة“.
تغيّر هندسة الاحتجاجات: الأسرة محرّك سلبي
مع تغيّر هندسة الفاعلين الاجتماعيّين وكيفيّة تفاعلها مع الأحداث المحيطة بها، أصبحت الأسرة هي الشريحة الأكثر عرضة لارتدادات أزمة فقدان الموادّ الأساسية. وعلى خلاف الحراك الاحتجاجي الكلاسيكي الّذي يُترجَم في التظاهر والنزول إلى الشارع، تكتفي العائلة من خلال الأم أو الأب أو الاثنين معا، بالانتظام في طوابير طويلة أو التدافع للحصول على علبة حليب أو قارورة زيت نباتي. هذا التحوّل مردّه من منظور أستاذ علم الاجتماع محمّد الجويلي هو ظهور أزمات جديدة وتغيّر المعطى السياسي.
بين 2011 و2021، كانت المنظومة السياسية قائمة على الأحزاب كشكل من أشكال التنظّم السياسي إمّا للوصول إلى السلطة وممارسة العمل السياسي في مراكز القرار، أو المعارضة داخل المؤسسة التشريعية أو عبر احتواء الحركات الاحتجاجية ولعب دور الوساطة في إيصال المطالب الاجتماعية للجهات المعنيّة. بعد 25 جويلية 2021، اختفت الأحزاب وغاب الفعل السياسي وآليات المساءلة. في هذا السياق، يفسّر محمد الجويلي الظاهرة بالقول: ”كأنّ هناك نقمة على السياسيين والأحزاب. فالاحتجاج كان يمثّل أحد عناصر تدخّل المحتجّين في المعطى السياسي، لكنّ ثقافة نكران السياسة والأحزاب جعلت الناس لا تنحاز إلى المسألة الاحتجاجية“.
في الأثناء، يخيّم الشعور بالإحباط واليأس من فشل تجربة الانتقال الديمقراطي التي تعثّرت لأسباب عديدة، من بينها سيطرة المصالح الضيقة للأحزاب الحاكمة آنذاك على عدد من الأولويّات كالتشغيل وتحسين المعيشة والقدرة الشرائية للمواطنين. ويوضّح الجويلي هنا قائلا: ”يبدو الأمر كتصفية حسابات ضمنيّة مع العشرية الفارطة وكأنّ الأزمة ليست وليدة إدارة الوضع الحالي. الأزمة مرتبطة في أذهان الناس بفترة الحكم السابقة وتاليا لا بدّ من الانتقام منها بالصبر والصمت ومساندة الدّولة في القضاء على بقايا تلك الحقبة“، ليضيف: ”إنّ تراجع وتيرة الاحتجاجات يعود إلى المساندة الشعبية التي تحظى بها الدّولة في مواجهة الاحتكار، وكأنّ الأزمة المالية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية تُختزَل في وجود محتكرين يوزّعون السلع بشكل انتقائي وموسمي في الأسواق بأسعار مشطّة“. ليختم محدّثنا مستنتجا: “فوّض الناس للدولة محاربة الاحتكار كأنّهم هم المسؤولون عن هذه الأزمة، إلى جانب الفاسدين ورجال الأعمال. فهم سبب الأزمة وليست الدّولة. هؤلاء الناس لا يسيرون عكس مسار الدولة بل يساندونها بالصبر والصمت“.
كرة الثلج الاحتجاجية
لم تهدأ الاحتجاجات منذ شتاء 2010، بسبب تراكم الأزمات الاقتصادية والاجتماعية وفشل الحكومات في التخفيف من حدّتها. ففي 2011، بلغت نسبة الإضرابات 122% مقارنة بـ2010. فيما ارتفع عدد المؤسسات التي شملتها الإضرابات من 170 إلى 314 مؤسسة خلال الفترة نفسها. وفي 2012، تراجعت نسبة الإضرابات إلى 105% مقارنة بسنة 2010، لكنّها تظلّ دائما نسبة مرتفعة، وشملت بالخصوص المؤسسات العمومية مثل البريد التونسي وشركة فسفاط قفصة والمجمّع الكيميائي وشركة الخطوط التونسية وغيرها. هذه الإضرابات أدّت إلى انخفاض نسبة النموّ وتراجع عائدات البلاد من العُملة الصعبة، حيث بلغت عائدات الفسفاط 800 مليون دولار في 2008 بنسبة إنتاج بلغت تقريبا 8 مليون طن، لتتراجع في 2011 إلى 2.5 مليون طن بقيمة 200 مليون دينار.
تراجع نسبة النموّ أدّى بدوره إلى غياب الاستثمار الّذي يؤدّي إلى شحّ مواطن الشغل وتفاقم نسب البطالة، التي بلغت ذروتها سنة 2011 بنسبة ناهزت 19% وفق المعهد الوطني للإحصاء، فيما بلغت نسبة البطالة لدى أصحاب الشهادات 34.2% سنة 2012، من بينهم ما يناهز 50% لدى الفتيات. وتواصلت الاحتجاجات بأشكال مختلفة، عبر الاعتصامات وغلق الطرقات وغيرها من وسائل التعبير عن الغضب. كما أصبحت الاحتجاجات تنتظم تدريجيّا في شكل تنسيقيّات تتبنّى مطالب المحتجّين وتتحدّث باسمهم، مثل اعتصام ”هرمنا“ الّذي خاضه أهالي المكناسي في 2016 الّذي تواصل مدّة أربعة أشهر أمام المعتمديّة وانتقل أصحابه إلى العاصمة للمطالبة بالتشغيل وإعادة تشغيل مناجم الفسفاط بالجهة وتحقيق مطالب الثورة بعد خمس سنوات من اندلاعها. وكانت المكناسي التابعة لولاية سيدي بوزيد من أبرز المناطق التي ساهمت في الإطاحة بنظام بن علي.
احتجاجات المكناسي كانت مسبوقة بحالة احتقان شعبيّة في القصرين إثر إقدام أحد الشباب المعطّلين عن العمل على الانتحار بسبب عدم انتدابه في الوظيفة العمومية. هذه الحادثة الأليمة أجّجت غضب الأهالي وأدّت إلى اتّساع رقعة الاحتجاجات لتشمل ستّ عشرة ولاية، وهو ما يفسّر ارتفاع عدد الاحتجاجات خلال سنة 2016 إلى 8713 احتجاجًا وفق أرقام المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعيّة.
وفي 25 مارس 2017، خاض أهالي الكامور من ولاية تطاوين الواقعة بالجنوب التونسي حراكًا احتجاجيّا طويل المدى وحادّ الوتيرة للمطالبة بالتشغيل في الشركات البترولية، انسجامًا مع روح دستور 2014 الّذي ينصّ على التمييز الإيجابي والتوزيع العادل للثروات. هذا الحراك اتّخذ أشكالا متنوّعة كان أبرزها غلق صمّامات آبار النفط كحركة رمزية للفت أنظار السلطة، ونجح المحتّجون في افتكاك اتّفاق مع حكومة يوسف الشاهد لتشغيل 1500 عاطل عن العمل في الشركات البترولية وتخصيص 80 مليون دينار سنويا لتنمية الجهة، التي تصل فيها نسبة البطالة إلى 32.4% وفق معطيات ديوان تنمية الجنوب. بقيت اتفاقية الكامور حبرا على ورق وتواصلت التحرّكات الاحتجاجيّة إلى أن توصّلت حكومة هشام المشيشي في 2020 إلى تفعيل جزء من هذا الاتفاق وامتصاص غضب أهالي المنطقة. لكن سرعان ما انتشرت نيران الغضب في مناطق أخرى اتّخذت من الثروات الباطنية الموجودة بها ورقة ضغط على الحكومة المنهكة بطبعها، لعوامل ذاتية وموضوعية نتيجة خيارات سياسية فاشلة وتأثير وباء كورونا على الوضع الاقتصادي والمالي.
احتجاجات شتاء 2020- 2021 كانت تتويجا لمسار سياسي فضّل التوافق وفشل في استيعاب المطالب الاجتماعية والتعامل معها بجدّية. انطلقت الاحتجاجات من الجهات وتركّزت في الأحياء الشعبية بالعاصمة على خلفيّة إيقافات بوليسية عشوائيّة طالت الشباب والقصّر من جماهير النادي الأفريقي. دخلت مجموعات ”الألتراس“ على الخطّ ودخلت معها الأجيال التي لم تواكب احتجاجات 2010-2011، ولكنّها عايشت زمن الحريّات والغضب الشعبي وأرادت افتكاك حقوقها مطلقة على نفسها اسم ”الجيل الخطأ“.
لحظة 25 جويلية نفسها كانت استجابة للغضب الشعبي إزاء مسار التوافق، لتضع آخر نقطة في فترة اختلط فيها الفشل السياسي بالأزمة الاقتصادية والاجتماعية وسوء إدارة الأزمة الوبائية. حيث تزامنت مع يوم غضب في شوارع البلاد وحرق عدد من مقرّات حركة النهضة، لكنّها لحظة موءودة استفاد فيها قيس سعيّد من حالة الإحباط واليأس التي يمرّ بها المجتمع، وألقى مسؤولية تلك الأزمات المتلاحقة على التركة الثقيلة لعشرية 2011-2021. ويبدو أنّ مناخ الحريات والإيقافات التي تطال المعارضين والمحتجّين سبب غير مباشر في تراجع وتيرة الاحتجاجات، ليحلّ التوجّس والخوف مكان الغضب والنزول إلى الشارع، أو التوجّه نحو الهجرة غير النّظامية كخلاص فرديّ وأملا في تغيير الواقع.
iThere are no comments
Add yours