”عاشت الوزارة مع الأسف خلال السنوات الثلاث الأخيرة وضعية كارثية لم تعرفها منذ احداثها على مستوى التسيير الداخلي في ظل تركيز سلطة القرار والتصرف في أيدي أربعة أشخاص يفتقدون لأي تجربة في التسيير مما أدى إلى شلل لمختلف هياكل الوزارة وتهميش جميع الكفاءات والاطارات التي تتميز بالخبرة والتجرية واشاعة ثقافة عدم تحمل المسؤولية والتهرب منها وانعدام المبادرة والتحفيز وتكريس منطق المحاباة والولاءات والانتهازية فضلا عن غياب التواصل الممنهج بين الادارة المركزية والبعثات بالخارج وعرقلة انشطتها واهمال ابرز الملفات الحساسة وهذا اقل ما يمكن ذكره“.
هذا بعض ما أتى على لسان وزير الخارجية التونسي نبيل عمار اثناء توجهه بالحديث لأعضاء مجلس نواب الشعب خلال جلسة المصادقة على ميزانية وزارة الخارجية ضمن مشروع قانون المالية لسنة 2024. جلسة شابها التوتر بعد ان غادر بعض النواب قاعة الجلسة احتجاجا على ما اعتبروه إهانة من الوزير للمجلس عندما وصف بعض الأسئلة التي طرحت عليه بأنها استعراض (show) يقوم به النواب أمام الكاميرا. يذكر هنا أنّ الميزانية التي تحصلت عليها الوزارة في قانون المالية الجديد لم تتجاوز 344 مليون دينارا، أي حوالي 0،5 بالمئة من ميزانية الدولة لسنة 2024 المقدرة بـ 77،868 مليار دينار. وهي بكل تأكيد ميزانية هزيلة لا تتناسب مع الخطاب الرسمي الحماسي عن الديبلوماسية النشيطة و”اشعاع” تونس اقليميا ودوليا وجلب الاستثمارات الأجنبية وخدمة المواطنين في الخارج، الخ.
خطاب التنصّل من التركة
خلال هذه الجلسة، أكّد الوزير أنه على الرغم من عمله صلب الديبلوماسية التونسية طيلة 30 عاما وما عاينه من مشاكل واخلالات فإنّه لم يشهد وضعا مثل الذي أصبحت عليه وزارة الخارجية في السنوات الأخيرة. وعبّر عن أسفه لتهميش الديبلوماسية الاقتصادية والثقافية، وجمود العمل الديبلوماسي التونسي في عالم يتغيّر باستمرار. كما اشتكى من نقص كبير في الموارد البشرية ومحدودية الموارد المالية الموضوعة على ذمة الوزارة. واعتذر عن الاجابة عن بعض الأسئلة ”الحسّاسة” في جلسة برلمانية علنيّة تبثّ مباشرة، واعدا بتقديم اجابات على اسئلة كتابية توجّه إلى موظف سام عيّنه الوزير ليكون حلقة وصل بين الوزارة ومجلس نواب الشعب.
ويبدو ان الوزير تحمس قليلا، ونسي أنّ الثلاث السنوات الأخيرة ”الكارثية“ -على حدّ وصفه- هي من مسؤولية من عيّنه في منصبه أي رئيس الجمهورية قيس سعيّد. كما انه اتهم ضمنيا عثمان الجرندي، وزير الخارجية السابق (أوت 2020 – فيفري 2023)، بالفشل الذريع والعجز عن تسيير الوزارة. عثمان الجرندي كان من الوزراء المقربين لرئيس الجمهورية لكن يبدو أنّ جهوده لم تكن كافية لتلبية تطلّعات رئيس الجمهورية في لعب تونس أدوارا اقليمية أكبر وتلميع صورة ”الجمهورية الجديدة“. هذا ولم يوضح الوزير عمار كيف استطاع ”أربعة أشخاص“ السيطرة على وزارة بأكملها طيلة سنوات، ولماذا لم يتحرك ”أعلى هرم السلطة“ لإيقافهم عند حدهم، والحال أنّ الرئيس اقال في السنوات الأخيرة عشرات الولاة والمديرين العامين والوزراء بجرّة قلم ودون أي توضيحات.
ما هي الغايات من اطناب الوزير في الحديث عن تردّي أوضاع وزارة الخارجية قبل توليه حقيبتها؟ هل كانت ”ضربة استباقية“ أراد بها تخفيض سقف التوقعات والآمال -الشعبية والرسمية- المعلّقة على وزارته وآداء الخارجية التونسية؟ أم أنّ التقليل من شأن الوزراء الذين سبقوه سيمكنه من تعظيم شأن ”انجازاته“ المستقبلية؟ هل أراد التسويق لصورة ”غير نمطية“ لوزير خارجية ”ديناميكي“ و”صريح“ لا يتردد عن تسمية الأشياء بمسمياتها؟ هل هذه لمحة عن ”لهجة“ وحركية في الفترة القادمة؟ أم ان الأمر هو مجرد تمهيد ”لتطهير“ الوزارة من ”العناصر المناوئة“؟
لا يمكن تقديم الجزم بنوايا الوزير، لكن ما هو مؤكد أن في كلامه نبرة جديدة، أو على الأقل هذا الانطباع الذي يريد خلقه وتسويقه. ويبدو أنّ جلسة المصادقة على الميزانية كانت الجزء الثاني من خطة اتصالية منظّمة. أما الجزء الأول فقد كان في شكل لقاء مع مديرين لوسائل إعلام تونسية سمعية-بصرية ومكتوبة، تقليدية ورقمية، نُظِّم في مقرّ وزارة الخارجية يوم 14 نوفمبر 2023. خُصّص هذا اللقاء الذي أشرف عليه الوزير – مرفقا بعدد كبير من الإطارات السامية في الوزارة- للإجابة ”بصراحة“ عن أسئلة ممثلي وسائل الإعلام بخصوص آداء وزارة الخارجية وسياساتها. لا توجد معلومات رسمية عن عدد المشاركين والمعايير التي اعتمدت لاختيارهم وتوجيه الدعوة لهم؟ هل كان المعيار مدى ”جماهيرية“ وسيلة الإعلام، أم جديتها ومصداقيتها، أم مدى انسجام ”خطها التحريري“ مع خط السلطة؟ لم يتسرّب الكثير عن اللقاء، فأغلب وسائل الإعلام كرّرت نفس ”المعطيات“ الواردة في بلاغ وزارة الخارجية واستعملت نفس الصورة ”اليتيمة“ المرفقة به.
نحو التطوير أو التطهير؟
أغلب التفاصيل الشحيحة عن اللقاء وجدناها في مقالات نشرت في مواقع اعلامية تونسية ناطقة بالفرنسية، نقلت عن الاجتماع أنّ الوزير اشتكى من الرقابة التي مارستها عليه وعلى وزارته بعض وسائل الإعلام الغربية ومهاجمة بعضها الآخر لتونس على خلفية الموقف الرسمي من الحرب التي تشنها إسرائيل على قطاع غزة وقضايا أخرى مثل الهجرة وغيرها. عمار دعا وسائل الإعلام الحاضرة إلى دعم مواقف تونس والدفاع عن صورتها في العالم. كما تطرّق إلى العلاقات مع الاتحاد الأوروبي والدور المطلوب من تونس وكذلك الموقف من صندوق النقد الدولي. كما ألمح إلى قرب حلحلة الأزمة مع المغرب وانهاء حال تجميد العلاقات بين البلدين.
أما فيما يتعلق بآداء الوزارة، كشف الوزير عن سعيه إلى تطوير المستوى المهني لموظفي السلك الديبلوماسي وتدعيم احترافيتهم لإخراج الديبلوماسية من جمودها وجعلها تلعب أدوارا متقدمة في جلب الاستثمارات مع الحفاظ على سيادة البلاد واستقلالية موقفها. وفضلا عن اجابة الوزير عن أسئلة الإعلاميين تبادل معهم ”جملة من الأفكار والآراء حول توجهات الدبلوماسية التونسية وواقع وآفاق السياسة الخارجية لبلادنا في ظل التحديات المستجدة والوضع الدولي والإقليمي الراهن“ بلاغ الوزارة أشار إلى أن ممثلي وسائل الإعلام عبّروا في نهاية اللقاء ”عن تطلعهم الى عقد هذه اللقاءات بصفة منتظمة وإلى تطوير أساليب التواصل مع الوزارة.“
هذا اللقاء كان ليكون بادرة جيّدة تدلّل على ”نوايا حسنة“ من وزارة الخارجية والسلطة عموما، خاصة بعد سنتين من التضييق الكبير والمستمّر على الصحافيين ونشاطهم (راجع التقرير السنوي السابع حول سلامة الصحفيين الذي أصدرته النقابة الوطنية للصحفيين التونسيين في نوفمبر 2023)، لكن يبدو ان الجانب الدعائي لشخص الوزير وسياسة وزارته – التي تنال نصيبا وافرا من الانتقادات الموجهة للعمل الحكومي – والسلطة الحاكمة عموما هو الذي هيمن على الأجواء. إذ يبدو أنّ هذه العملية الاتصاليّة قد حقّقت بعض النجاح يمكن استشفافه من عناوين بعض المقالات: ”ديبلوماسية”خارج الصندوق“، تجرؤ وتزعج وتراوغ“، ”وزارة الشؤون الخارجية: عزم على إرساء تعاون بناء مع وسائل الإعلام“، ”تونس- الشؤون الخارجية: نحو انفتاح أكبر على وسائل الإعلام“، الخ.
بعد ساعات قليلة من مرور وزير الخارجية بمجلس نواب الشعب جاء معطى آخر ليقوي الانطباع بأنّ وزارة الخارجية مقبلة في الفترة القادمة على تغييرات مازال من المبكر التكهّن بحجمها والغايات منها. ففي مساء الخميس 23 نوفمبر 2023، أشرف رئيس الحكومة أحمد الحشّاني على جلسة عمل خصّصت لوضع اللمسات الأخيرة قبل الاطلاق الرسمي والفعلي لنشاط الأكاديمية الدبلوماسية الدولية بتونس. في الواقع، ليست هذه الأكاديمية مشروعا جديدا. اذ تم الإعلان عنها في فترة حكم الرئيس الراحل الباجي قايد السبسي (حكومة يوسف الشاهد) عندما وقعت اتفاقية تعهدت فيها الصين بتمويل وتشييد مشروع بناء المبنى الجديد للأكاديمية الدبلوماسية في تونس، بما في ذلك بناء مرافق تعليمية، وتوفير ما يلزم من أثاث ومعدات مكتبية، فضلا عن معدات تدريس رقمية متعددة الوسائط.
رصدت الحكومة الصينية مبلغ 200 مليون يوان (حوالي 29 مليون دولار) لتمويل المشروع الذي يعد من بين مشاريع التعاون الدولي المُقرّرة ضمن مبادرة الحزام والطريق. أحدثت الأكاديمية رسميا بمقتضى الأمر الحكومي عدد 630 المؤرخ في 24 جويلية 2019، والذي تم تنقيحه في 20 أفريل الفائت بمقتضى الأمر الحكومي عدد 296 لسنة 2023. وضّح الفصل 2 الغاية من انشاء الأكاديمية التي ”تضطلع بمهمة وطنية ولها أبعاد إقليمية ودولية باعتبارها مؤسسة متخصصة في التدريس والتكوين والتأهيل وتطوير الكفاءات والمهارات وإنجاز الدراسات والبحوث والتحاليل الاستشرافية والاستراتيجية في مجالات العمل الدبلوماسي“. كما حدّد الفصل 3 المهام التي تدخل ضمن مشمولاتها، ومن بينها:
- التكوين الأساسي للأعوان المنتدبين الجدد في السلك الدبلوماسي.
- التكوين المستمر لإطارات وأعوان وزارة الشؤون الخارجية بمختلف أصنافهم ورتبهم بتونس وبالخارج.
- تكوين أعوان وإطارات الدولة المباشرين في مختلف الهياكل الإدارية المكلّفة بالعلاقات الخارجية والتعاون الدولي.
- تكوين أعوان وإطارات الدولة والمؤسسات العمومية المعيّنين للعمل بالخارج.
- تكوين خرّيجي الجامعات والمعاهد العليا والمؤسسات التعليمية التونسية في مجالات العمل الدبلوماسي والعلاقات الدولية.
- تكوين الدبلوماسيين الأجانب وموظفي المنظمات الإقليمية والدولية.
- تقديم خدمات التكوين عن بعد في مجال العلاقات الدولية من خلال توظيف الوسائط والتطبيقات الالكترونية.
- تنظيم حلقات تكوينية وتربصات بتونس وبالخارج للمكونين بالأكاديمية وتركيز منظومة للتكوين المفتوح عن بعد لفائدتهم.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن تونس والصين وقّعتا يوم 28 أفريل 2022 اتفاقية تسليم واستلام مبنى الأكاديمية الواقع في منطقة ”راس الطابية“ بالعاصمة تونس. المؤسسة جاهزة للاستغلال منذ أكثر من سنة ونصف فلماذا تأخر تدشينها؟ وهل سرّع وزير الخارجية ”الجديد“ الأمور؟
مهما كانت الإجابات يرجى أن تكون هذه الأكاديمية نقلة مهمة في تاريخ الخارجية التونسية على الرغم من أنّ قوة ديبلوماسية ما ونجاعتها لا ترتبط حصرا بالتكوين والشهادات، وهناك عدة أمثلة في العالم لديبلوماسيين مؤثرين لم يكونوا يوما موظفين في وزارات الخارجية ولم يتخرّجوا من جامعات مرموقة. لكن يبقى الأهم معرفة إن كانت التغييرات التي يبشّر بها وزير الخارجية ستخدم مصالح الدولة التونسية أم أنّها ستقتصر على الترويج لأفكار وتوجهات السلطة السياسية الحاكمة، وهما أمران مختلفان وإن اعتقد البعض أنّهما متماهيان. وهل الحديث عن أشخاص يعطّلون دواليب وزارة الخارجية يعني أنّ أشخاص أكثر كفاءة سيحلّون مكانهم أم هو توطئة ”لحملة تطهير“ لإدارة الشؤون الخارجية من ”المناوئين“ والمحسوبين على وزراء سابقين و/أو أحزاب كانت في الحكم واستبدالهم بعناصر أكثر ولاء للسلطة الحاكمة وايمانا ”بالجمهورية الجديدة“؟ وهل ستكون الأكاديمية الديبلوماسية الجديدة بوابة خلفيّة لتكوين ورسكلة عناصر من غير أبناء وزارة الخارجية بهدف تحضيرها لشغل مناصب في السلك الديبلوماسي؟
ومهما كانت جودة تكوين منتسبي الخارجية والسلك الديبلوماسي فإنّ كلّ مهاراتهم وجهودهم قد تذهب هباء عندما لا تكون للبلاد سيادة حقيقية ولا تتوفر لها نقاط قوة وأوراق ضغط، وكذلك عندما لا تكون للقائد الأول للديبلوماسية -رئيس الجمهورية- بوصلة واضحة الاتجاهات.
iThere are no comments
Add yours