”وقعنا في فخ الحمقى حبا لتونس“، بهذه العبارات الممزوجة بمشاعر معقدة، استهل رائد الأعمال الشاب بسام اللموشي حديثه عن الصعوبات التي واجهها خلال فترة تأسيس شركته التكنولوجية الناشطة في مجال السلامة المعلوماتية. رحلة كفاح مستمر من أجل البقاء منذ اليوم الذي قرر فيه هذا الشاب المهندس صنع مصيره بنفسه والمغامرة في مجال ريادة الأعمال بحثا عن موطئ قدم تحت الشمس بدل انتظار حلول الأرض الموعودة.
قصص نجاح محفوفة بالمخاطر
أسس مهندس الإعلامية بسام شركة تكنولوجية ناشئة منذ سنة 2017، بإحدى مناطق التنمية الجهوية بولاية الكاف معتمدا على سياسة الدولة الراعية للمؤسسات الصغرى والمتوسطة في توفير الإطار القانوني للاستثمار وتشجيع التنمية الجهوية والنهوض بالتكنولوجيا. لكن لم تمر ستة أشهر على بداية المشروع حتى اكتشف المهندس بسام أنه لا مكان لمشروعه بولاية الكاف، فقد احتلت أسماك القرش السوق المحلية واستأثرت بمواردها ولم يتبق للشركات الصغرى أي متنفس للنموّ بأمان لتوفير موارد رزق للعائلات التي تعيش منها، رغم القوانين التي تفرض نسبة من الصفقات العمومية لفائدة الشركات الصغرى والمتوسطة لكنها بقيت حبرا على ورق لغياب التقييم والمتابعة. وهنا رفعت غشاوة الوعود السرابية والحوافز الزجاجية والقوانين الضبابية على صخور التعقيدات الإدارية واللوبيات المالية.
”مثلت وطني كما يجب لرائد الأعمال أن يكون سفيرا لبلاده حريصا على تقديم أفضل الخدمات بشهادة الشركات التكنولوجية العالمية التي تعاملت معها في الخارج، غير أن فرحة الانتصار في سوق عالمية لم تدم لأكثر من رحلة العودة للوطن“. وبابتسامة ذات ألف معنى روى المهندس حادثة حصلت له عند عودته من إحدى المهمات المهنية الناجحة بدولة إفريقية. فبعد فترة من استلامه تحويلا ماليا دوليا من حريفه لقاء خدماته المنجزة، تم تجميد حسابه البنكي دون سابق إعلام أو توضيح لاحق. وباءت محاولات المهندس بسام في الحصول على تفسير لهذا الإجراء التعسفي بالفشل، فتعطّلت مصالحه لثلاثة أشهر لاحقة، مما اضطره لترك أعماله جانبا وقتيا للقيام بإجراءات معقدة لتدارك مخاطر الشيكات التي أصدرها تجنبا لما لا يحمد عقباه دون أن تكون له فيها ناقة أو جمل.
دون هذه الحادثة التي تكررت لدى عديد الشباب الذين يدخلون العملة الصعبة من ريادة الأعمال أو الأعمال المستقلة مع الخارج، أكد المهندس بسام أن منظومة الصرف النقدي قد قيدت حريته الاقتصادية للتسابق في سوق تمتلك فيه المنافسة الأجنبية الأفضلية المطلقة، وذلك بسبب سقف الصرف الذي منعه من تجاوز عدد 06 متدربين في السنة عكس منافسيه الذين لديهم إمكانيات لامحدودة بهذا السقف الحديدي وتسهيلات لتقديم عروض تفاضلية أكثر تنافسية كما وكيفا.
في الجانب الآخر من العالم، أمام شاشة كمبيوتر محمول متصل اختصر البحرين على مسافة آلاف الكيلومترات، في مقاطعة الكيبيك بكندا حيث يعيش مهندس الأنظمة الصناعية حاتم العمري الذي تخلى عن مشروعه الرابح وهاجر منذ سنة 2020 بحثا عن منظومة تقدر الكفاءة والقيم الإنسانية: ”هنا يعترفون بقيمة الكفاءة، يزرعون فيك الثقة، ويدعمونك ماديا ومعنويا حتى تنجح. هنا الفعالية أسلوب حياة وليست مجرد كلمات. ببساطة يمكنك إنشاء شركة ومباشرة النشاط عبر الإنترنت في ساعة لأن الوقت لديهم يقاس بميزان الذهب. كل العمليات التجارية والمالية والإدارية تتم بأمان عن بعد بسرعة البرق وسهولة النظر بعيدا عن أي تعقيدات أو صفوف الانتظار أو المساومة والابتزاز“.
وبين الضفتين، يعيش في ألمانيا منذ سنة 2015، مهندس الكهرباء نبيل العجولي، الذي أكد أنه خلال أربع سنوات من الهجرة تمكن من تحقيق ما يستحيل عليه إنجازه في تونس في ربع قرن. هنا ترى العالم يسير على حقيقته بمنطق التطور العلمي من أجل التنمية المستدامة، بعيدا عن صراع العروش السياسية والنقابية، الإدارة هناك شريك فاعل للمواطن بالموارد المادية والمعنوية من التمويل إلى التكوين والدعم النفسي لأجل تنمية بيئة ريادة أعمال ملائمة لخلق الثروة وتطوير الناتج الوطني الخام.
أما بخصوص منظومة الصرف بتونس وإجراءات تحويل الأموال، فهي معقدة ومكلفة مما يجبر المواطنين بالخارج على الالتجاء لآليات أخرى أكثر مرونة وأقل تكاليف. كما لا يمكن تجاهل التجاء العديد من المهاجرين ورواد الأعمال لطرق غير رسمية على قدر التشديد المفروض عليهم كما هو الوضع للاقتصاد الموازي.
الدولة اليوم أمست تحد من الحرية الاقتصادية بذريعة الخوف من تبخر الأموال الأجنبية، وتسن القوانين الردعية تارة وتارة تنزل التراتيب المسمارية على أبناء شعب أشد حبا للأرض من جذور الزياتين الندية. فأضحى رائد الأعمال يندب حظ سوق طارت فيه الفرص العالمية بمنع وتضييق روح جبلت على التجديد والابتكار والحلول الفطرية. فلم يكن من بد عيش سوى الانحدار للعوالم السفلية من اقتصاد مواز وسوق ”أسود“ من أجل كرامة الظروف المعيشية. ومن هاجر بعد أن فاض قلبه قهرا على أرض الجدود المنسية لم يختر الرحيل قطعا بل انقطعت به السبل فلم يجد من بد سوى الهجرة نظامية كانت أو حتى غير نظامية، تاركا الحلم عهدا لمن ينظر لغدا يأتي بالديمقراطية الاقتصادية.
هذه أمثلة بسيطة للمخاطر العديدة التي يتعرض لها رائد الأعمال الذي يصطاد العملة الصعبة لتعبئة مخزون بلاده فيصبح هو الفريسة لمنظومة مالية سلبته الثقة والحرية.
الهجرة: حلّ للهروب من التعقيدات
وراء هذا المناخ السلبي لريادة الأعمال رياح تقتلع الشباب من جذورهم لتلقي بهم في المهجر. وبين الركض وراء الامتيازات والتسهيلات والمنح التي تقدمها لهم الدول المضيفة تضيع عملة البلاد الحقيقية التي لا ترخص أبدا أمام كل عملات الدنيا من الين واليورو والدولار. أ بعد رأس المال البشري الذي تسعى كل الدول المتقدمة لدعمه وتطويره مورد أو ثروة تقاس؟ وفي المقابل ما الذي تقوم به المنظومة المالية التونسية من قوانين وتراتيب إدارية؟ المنع، التحجير، التعطيل، العقوبة، الردع، أ هكذا ندفع رواد الأعمال الشباب للابتكار والإبداع في الأسواق الخارجية لرفع العلم في كل أرجاء الأرض وتطوير الناتج الوطني الخام؟
الهجرة أصبحت أسهل من تحويل العملة والجنسية الأجنبية أبسط من البطاقة البنكية الدولية، لكن لن نترك أرضنا ولن نستسلم طالما هناك أمل في المسؤولين الوطنيين، ولو حفرنا الأرض بأظافر الإصرار للسوق العالمية من أجل العيش بكرامة في وطننا الغالي. ولن نكون رقما ضمن نسبة 90 % من الشركات الناشئة التونسية التي تختفي من الوجود خلال الثلاث سنوات الأولى من تأسيسها، لتترك أصحابها مرتهنين بالديون بين الدولة والمستحقين من عاطلين ومزودين منكوبين.
أين المفرّ أمام غلق أبواب الأمل واستنفاذ حلول الأرض، فلم يبق لأبناء حنبعل إلا الفرار بكل المسالك والطرق طالما أنها تؤدي إلى روما. أين المهندسون؟ أين الأطباء؟ أين الكفاءات؟ هاجروا آلافا مؤلفة بعد أن عجزت كلماتهم عن إسماع من به صمم. هذا ما أفصح عنه تقرير المسح الوطني للهجرة الدولية الصادر في 07 ديسمبر 2021، فهناك مواطن تونسي على كل خمسة يعتزم الهجرة. وقد بين التقرير خاصية هؤلاء المرشحين للهجرة: شاب، يتراوح عمره بين 15 و24 سنة، أعزب، متعلم وعاطل عن العمل، يعيش في تونس الكبرى أو الوسط الشرقي أو الجنوب الشرقي للبلاد. وترتبط الأسباب الرئيسية للهجرة التي طرحها المهاجرون المحتملون بالبحث عن عمل وظروف عمل أفضل، فضلاً عن فرصة تحسين مستوى المعيشة.
خريجو المدارس التربوية والجامعات الوطنية، أمل المستقبل وأعظم ثروة استثمرت فيها الدولة ربع حصاد الضرائب على التربية والتعليم العالي والتكوين المهني، ليهاجر منهم سنويا 36 ألف مواطن أغلبهم من الكفاءات أصحاب الشهائد العليا بنسبة 47.4 % والمستوى الثانوي بنسبة 38.1 %. أما الملفت هنا أن تستقطبهم دول المقصد بكافة الامتيازات المادية والاجتماعية لدمج 9 من كل 10 مهاجرين كقوة عاملة جاهزة للإنتاج كيف لا وقد وجدوا شبابا متعطشا لتفجير طاقاته الإبداعية في العمل والانتاجية طالما وجد القيم الانسانية التي يبحث عنها.
وحسب إحصائيات المسح الوطني للهجرة المجراة من جويلية 2020 إلى مارس 2021، من طرف المعهد الوطني للإحصاء (INS) والمرصد الوطني للهجرة (ONM)، والتي تبين ارتفاع أعداد المهاجرين التونسيين الذين غادروا البلاد خلال الفترة الممتدة بين سنتي 2010 و2020، بمعدل سنوي بلغ 25268 مهاجر، حيث بلغت أعداد المهاجرين ذروتها خلال سنة 2018 بعدد 40128، وتراجعت سنة 2020 بسبب إجراءات منع السفر نتيجة جائحة الكوفيد العالمية. كما ستشهد تونس مستقبلا ارتفاعا في عدد الكفاءات المهاجرة بسبب الامتيازات التي تقدمها البلدان المستقطبة لهم.
تعقيدات القانون والإدارة
من جهة ثانية، أكد رائد الأعمال والرئيس المؤسس للمنظمة الوطنية لرواد الأعمال ياسين قويعة، أن المنظومة المالية تستمد قراراتها من ثقافة تقليدية غير مبنية على دفع المؤسسة الاقتصادية الديمقراطية. كما أوضح أن أحد أهم العقبات أمام تطور بيئة ريادة الأعمال بتونس، قانون الصرف وذلك راجع لسببين الأول تكبيل المبادرة والثاني عدم مواكبة آخر التكنولوجيات المالية في السوق التي تكسب رائد الأعمال الميزة التنافسية المطلوبة على الصعيد الدولي لمعايير الأعمال والمعاملات المالية. فقد بلغت عديد الدول النامية مستوى تنظيميّا من التناسق والتناغم وتطورا تكنولوجيا لإرساء منظومات التحويل المباشر الحيني للأموال بكافة العملات الأجنبية دون قيود، حوّلوها إلى فرص استثمارية لتوفير مقتضيات السرعة والكفاءة والفاعلية كمميزات تنافسية مطلوبة لضمان النجاح في الأسواق الدولية. كما يتضح أن العمليات المصرفية الدولية المبنية على السرعة والانفتاح منظمة حسب أفضل المعايير المالية للسلامة المعلوماتية والأمن الاقتصادي مع الحفاظ على مصالح رواد الأعمال في كنف النزاهة والشفافية. أ بعد هذا نزيد على قانون قيصر حكما ما أتى به سلطان علم ولا منطق بحث ولا نواميس أعمال ريادية؟
كذلك أكد رئيس منظمة ريادة الأعمال ياسين قويعة، أن قيمة الصرف المسموح للمستثمرين التونسيين بالخارج لا يكفي حتى للإقامة في نزل محترم دون التحدث عن المشاركة في المعارض للتعريف بالخدمات والمنتجات التونسية. وبين أن الأزمة العالمية لجائحة كورونا قد ضاعفت تسارع نسق مسار التحول الرقمي للاقتصاد العالمي، فتحولت أغلب الثروات والأصول المادية إلى الضمانات والسندات اللامادية فكانت رياح التغيير حتمية فرضتها الحاجة لاستدامة البشرية بدوام الدورة الاقتصادية تحت أي ظرف من الرخاء أو تحت أعتى الأزمات العالمية.
منظومة بنكية منفّرة
ومن المفارقات تشجيع الدولة الحثيث اتصاليا على الاستثمار والتصدير في مقابل تعطل المشاريع على أرض الواقع بسبب عدم تفعيل البطاقات البنكية ووسائل التمويل الدولية. كل هذه العوامل ساهمت في انخفاض تصنيف البنوك التونسية على مستوى الدول الإفريقية والعالم، حسب رائدي الأعمال بسام اللموشي وياسين قويعة، اللّذين أكدا أنه ليس من المقبول مهنيا وأخلاقيا أن تتعطل اتفاقيات صفقات مشاريع أو أعمال استشارية أو ورشات تدريبية إشهادية دولية أو حملات تسويقية لتصدير المواد أو الخدمات بوجود سقف غير منطقي لصرف الأموال بالعملات الأجنبية، وكأن دور المنظومة البنكية التونسية يقتصر على حصّالة للعملة الصعبة وليس محركا لدفع الاستثمار وتنمية الناتج الوطني الخام بكافة الوسائل والآليات المتاحة والابتكارية.
وبحسب أحدث بيانات سجل المرصد العالمي لريادة الأعمال، أن تمويل رواد الأعمال في تونس غير كاف للغاية، بخصوص توافر الموارد المالية وحقوق الملكية والديون لفائدة الشركات الصغيرة والمتوسطة (بما في ذلك المنح والإعانات).
في نفس السياق أكد عدد من أصحاب الأعمال المستقلة ”الفريلانس“ المختصين في المجال التكنولوجي، على غرار مهندسة مراقبة جودة البرمجيات السيدة حنان البوعزيزي، وأستاذ علوم البيانات السيد يوسف بن حدادة، أن البطاقة التكنولوجية التي اعتمدتها الدولة كحل للشراء عبر الانترنت من الخارج، عليها قيود وحدود متعددة من بينها محدودية القيمة المرخصة سنويا للصرف وعدم إمكانية استلام الأموال من الخارج على الحساب البنكي، ما يمنع صاحبها من تطوير معاملاته عبر الأنترنت وتطوير نشاطه ومواكبة المنافسة مما يدفع الكثيرين من الشباب إلى الاستسلام وغلق مشاريعهم والهجرة لبلدان تتمتع بأكثر مرونة مالية وفرص استثمار رقمية.
من جهة أخرى، تعتبر الدولة في الغالب أن دورها بالنسبة للمؤسسات الاقتصادية يقتصر على إسناد التراخيص ووضع الأختام الجافة وسن القوانين وجمع الضرائب والأداءات فقط. حيث تحدث رائد الأعمال بسام اللموشي عن تجربته في إحدى الدول الإفريقية، حيث واجه بمفرده منافسة شرسة من رواد أعمال مغاربة، مدعومين من قبل سفارة دولتهم بكافة الوسائل القانونية الممكنة لاكتساح السوق وضمان حقوقهم، وهو ما منحهم الأفضلية في السوق على باقي المستثمرين الأجانب.
وفي هذا الصدد، نتساءل عن دور الدبلوماسية الدولية في القرن الواحد والعشرين، التي أصبحت لا تقتصر على الدور السياسي والأمنيات فقط، بل تطورت ليمتد إلى الجوانب الثقافية والاقتصادية والاجتماعية وغيرها التي تضمن تطور الناتج الوطني الخام باعتبار بروز دور المهاجرين في دعم اقتصاد الدول وخلق فرص الاستثمار والعمل وتحسين الجانب الاجتماعي والبيئي.
وقد كان أبرز اقتراحات رائد الأعمال بسام، أن تواكب الدبلوماسية تطورات العالم وتسهم فعليا في دعم المستثمرين التونسيين في الخارج وتوفير كافة الضمانات الممكنة لخلق فرص الاستثمار والتعاون الدولي وكسب الصفقات في الخارج لفائدة التونسيين. ”يجب أن تتطور علاقة الدولة بالمستثمر، رابح-رابح، ولا يمكن أن تستمر في الوقوف على الهضبة، وسن القوانين وجمع الضرائب فقط.“
بين حق الإنسان في العمل، وفي حرِّية اختيار عمله، وفي شروط عمل عادلة ومُرضية، وفي الحماية من البطالة، وبين وضعية قطاع الأعمال المستقلة freelance فارق شاسع يستحق استثمار أصحاب الرؤى بالفكر والقرار قبل المال لضمان مستقبل أبناء تونس وإدماجهم في الدورة الاقتصادية للمساهمة في جهود التنمية المستدامة بكرامة.
الأعمال المستقلة تبحث عن اعتراف المنظومة الاقتصادية
أكد السيد أحمد الهرماسي، رئيس شبكة الفريلانس ”Uprod’it“، التي تأسست منذ سنة 2013، أن قطاع الأعمال المستقلة ”الفريلانس“ في تونس هش وغير منتظم. كما أضاف أن هذه المهن تعتمد في الغالب على الإبداع والتجديد والابتكار، ما يجعلها ذات قيمة مضافة عالية ما يفسر توجه العالم الحثيث لاقتصاد الخدمات. غير أن القوانين والتراتيب الحالية لا توفر أية ضمانات ولا حتى اعترافا عادلا لحق الوجود لدى الدولة التونسية لدفع الضرائب من أجل رفع الميزانية. لكن العكس هو الواقع، ما أجبر أغلب رواد الأعمال المستقلة على النشاط في دائرة الظل بما تحمل العبارة من مخاطر مهنية ومالية واجتماعية ومن بينها عدم استخلاص الخدمات المقدمة لحجب الحق في الفوترة، وخسارة فرص المساهمة في مشاريع مربحة عبر الانترنت لغياب آليات الاستخلاص الرقمي الدولية، بالإضافة لعدم توفر منظومة تأمين على المرض وضمان اجتماعي ملائمة لمنظومة الاقتصاد المستقل حسب خاصياته المادية والأدبية من الأرباح المحققة إلى المدة الزمنية، دون الحديث عن تكاليف حماية حقوق التأليف والملكية الفكرية مما يجعلهم فريسة سهلة لمحترفي السطو على الأفكار الإبداعية.
كل هذه الإشكاليات المطروحة كانت ولازالت وراء تعطل مجال ريادة الأعمال وعدم مواكبة الاقتصاد الوطني لنسق تطور الاقتصادي العالمي. ويمكن تصنيف الأسباب على ثلاثة مستويات:
مستوى قانوني: تمثل القوانين التونسية في مجال الصرف نقطة ضعف فادحة بسبب بنائها على أساس انعدام الثقة والغلق مما أدى إلى فقدان مرونة التأقلم مع متطلبات السوق من الكفاءة والفاعلية والسرعة في اتخاذ القرار للحفاظ على القدرة التنافسية في سوق عالمية سريعة التقلب وعدم الاستقرار.
في كلمة واحدة قانون الصرف الحالي، لم يعد قادرا على مواكبة تطورات السوق، وأصبح حجر عثرة في طريق رواد الأعمال التونسيين تصدهم صدا عن دخول السوق العالمية للخدمات المتجهة بسرعة جنونية نحو الاقتصاد الرقمي الحر الذي فرضه السياق على المؤسسات المالية الدولية من البنوك المركزية وكبرى شركات التأمين.
مستوى اقتصادي: يتعلق بغياب بيئة حقيقية لريادة الأعمال في تونس من جهة وانعدام الدبلوماسية الاقتصادية في الخارج على غرار الدول المتقدمة والنامية مثل المغرب التي تدعم رواد أعمالها في الخارج ليفوزوا بصفقات المشاريع مع ضمان حقوقهم المادية والمعنوية. إذ أن الإدارة التونسية تلعب دور الشريك السلبي المستفيد. غير أن سياق ريادة الأعمال الحالي يتطلب أكثر اندماجا لأصحاب المصلحة ليكون الجميع أفضل الرابحين ومن بينهم الإدارة، وذلك بضمان اقتصاد ديمقراطي مواكب لآخر التكنولوجيات المالية لاكتساب الميزات التنافسية والأفضلية في الأسواق الخارجية بدل العوائق التي تواجهنا باستمرار.
مستوى تكنولوجي: ومن أهم الإشكاليات البنية التحتية الرقمية بالبلاد ضعف سرعة الانترنت ومحدودية البطاقات البنكية التكنولوجية. وعلى مستوى العالم شهدت استثمارات العلوم والابتكار ازدهارا هاما في ذروة جائحة COVID-19 عام 2021، وحافظت الشركات التي نجحت في التحول الرقمي على نشاطها ولم تتضرر الاقتصاديات المبنية على الخدمات الرقمية بل ازدهرت أيضا. في المقابل على مستوى مؤشر الابتكار العالمي 2022 الذي أبرز العلاقة الإيجابية بين الابتكار والتجديد والتنمية، يحتل الاقتصاد التونسي المرتبة 73 من بين 132 دولة مصنفة على مستوى العالم.
أما على المستوى العالمي، فقد شهد العالم منذ منتصف القرن العشرين، عديد الأزمات الاقتصادية، من أزمة النفط العالمية سنة 1973 إلى الركود الاقتصادي سنة 2008 وصولا إلى أزمة كورونا والحرب على أوكرانيا. لكن حتى في ظل اقتصاد الأزمات ظلت ريادة الأعمال الدافع الأساسي للتنمية. إذ أكدت منظمة التجارة العالمية في تقريرها حول تنمية سلاسل القيمة العالمية لسنة 2021، أنه بفضل التحول الرقمي السريع نتيجة جائحة كورونا سُجِّل انتقال جذري متزايد في سلاسل القيمة العالمية، من عمليات التصنيع التقليدية إلى الخدمات والأصول اللاماديّة الأخرى.
أما من جانب البنية التحتية للاقتصاد اللامادي، فقد مرّ التطور التكنولوجي المتسارع خلال العقود الثلاثة الأخيرة، بمراحل متتالية من ربط المعلومات بالأنترنات خلال تسعينات القرن الماضي، إلى التواصل الاجتماعي مع بداية القرن الواحد والعشرين، ثم ربط مصادر المعرفة خلال العشرية الثانية وصولا إلى بروز الذكاء الاصطناعي اليوم الذي فجر إمكانات وآفاق لا نهائية في كافة المجالات.
كل هذه التطورات والتحولات كان لها الأثر على الاقتصاد العالمي الذي واجه تحديات التأقلم من أجل البقاء والاستمرار بدرجات متفاوتة بين الدول المتقدمة والدول النامية، مما خلق فجوة رقمية عمقت الهوة الاقتصادية بين الجانبين بشكل ساهم في زيادة تركيز الثروة لدى الجانب الأوفر حظوظا في اغتنام فرص السوق بضمان أفضل المتطلبات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتكنولوجية والبيئية والقانونية.
في المقابل لم تشهد تونس تطورا يذكر خلال العقود الثلاثة الماضية في صادرات الخدمات التجارية، مقارنة بدول الجوار والشركاء الاقتصاديين، بالرغم من التحولات التكنولوجية والتجارية العميقة التي شهدها العالم خلال نفس الفترة.
الفجوة الرقمية، فرص تنمية مهدورة
طبقا لتقرير مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية ”CNUCED“ المنشور في مارس 2022، حول تقييم جاهزية التجارة الإلكترونية بتونس، فإنّ تونس مصنّفة 77 في مؤشر التجارة الإلكترونية من بين 152 دولة، وترتيبها في مؤشر تنمية تكنولوجيا المعلومات والاتصالات 99 من بين 176 دولة وترتيبها في مؤشر الجاهزية الشبكية للمنتدى الاقتصادي العالمي 91 من بين 134 دولة.
ومن جهة ثانية، على مستوى العالم يستخدم 23.2 % من السكان الهاتف المحمول أو الإنترنت للوصول إلى حساب مؤسسة مالية خلال سنة 2021، في حين على مستوى القارة الأفريقية تبلغ النسبة 7 %، وبالنسبة لتونس 3.7 %.
وفي المقابل شهدت الصادرات في خدمات تكنولوجيا المعلومات والاتصالات خلال السنوات الأخيرة، نموا مرتفعا بالنسبة للدول المتقدمة على غرار الولايات المتحدة الأمريكية والدول الأوروبية كألمانيا وفرنسا وإيطاليا، ومستقرا بالنسبة لدول شمال أفريقيا مثل مصر وتونس والجزائر والمغرب.
اليوم في القرن الواحد والعشرين، عصر الجيل الخامس من تكنولوجيا الاتصالات والذكاء الاصطناعي يواجه رواد الأعمال الشبان وأصحاب المهن المستقلة عقد الأجيال السالفة المقاومة للتغيير والتعقيدات الإدارية الراسخة المدمرة لكل مبادرات التطوير، حتى انقلب دوران عقارب الساعة عكس اتجاه ركب الحضارة والتنمية المستدامة التي تهدف لتحسين ظروف حياة المواطنين وضمان حقوق الأجيال القادمة في الموارد الطبيعية.
لكن في النظريات والعلوم الاقتصادية التي تبناها العالم منذ ما يزيد عن السبعة عقود ما يستحق النظر والتحقيق. فقد برزت منذ النصف الأول من القرن العشرين إحدى أهم نظريات النمو الاقتصادي، على يد الاقتصادي وعالم الاجتماع الأمريكي، ”جوزيف شومبتر“ (1883-1950)، الذي استنتج أن ”النُّمو الاقتصادي يتوقف على عاملين أساسين، الأول هو رائد الأعمال، والثاني هو الائتمان المصرفي الذي يقدم لرائد الأعمال إمكانيات التجديد والابتكار باعتباره المحرك الرئيسي لعجلة التنمية“.
في الختام أفضل الحلول الاقتصادية للبلاد تأتي من الداخل حتى تكون أكثر واقعية و ملبية لمتطلبات كافة الطبقات الاجتماعية. واليوم الكل يتحدث عن الديمقراطية الاقتصادية كحل لدفع عجلة التنمية بإدماج الكفاءات المنسية من رواد أعمال مستقلين وأصحاب أفكار إبداعية وتوفير بيئة ريادة أعمال تستجيب لآخر التطورات العلمية لنلحق ركب الحضارة بخطى ثابتة نحو الاستدامة والرفاهية الاجتماعية.
تم مراسلة البنك المركزي التونسي بتاريخ 12 جوان 2023، لطلب بعض التوضيحات حول المسائل التي يمكن أن تعنيه ضمن موضوع التحقيق، ولم نتلق إجابة إلى حد تاريخ نشر التحقيق.
أنجز هذا العمل بالشراكة مع مركز تطوير الإعلام
iThere are no comments
Add yours