على بعد بضعة أمتار من الساحة، التي باتت مأوى مفتوحا للمهاجرين غير النظاميين، تتراكم بضاعة تجار سوق الأسماك والخضر بالمدينة، بعد أن خفّ الإقبال كثيرا على بضاعتهم من قبل المهاجرين الذين يمثلون حرفاء مخلصين للباعة وصيدا ثمينا لأصحاب الشقق والمنازل المخصصة للإيجار ولأصحاب سيارات التاكسي أيضا. ألحقت أحداث 5 جويلية الماضي التي استهدفت المهاجرين، خسارة كبيرة لسكان صفاقس أيضا، لا يكشف عنها سوى تذمر التجار وقصص عن سماسرة الشقق ورحلات الهجرة غير النظامية التي تفشل منذ أميالها الأولى.
كساد البضاعة في الأسواق
تحبس جدران السوق البلدي للخضر والأسماك واللحوم بباب الجبلي خيبة الباعة هناك، بعد طرد المهاجرين غير النظاميين من منازلهم، والسبب هو خسارة هامش كبير من المستهلكين الأوفياء لبضائعهم. تكفي جولة صغيرة داخل السوق لتحصد فيضا كبيرا من الحسرة بسبب انحسار كبير في عدد حرفائهم من أفارقة جنوب الصحراء، الذين يقبلون على شراء المواد الغذائية بكميات كبيرة، وهو جانب تسبب أيضا في تأجيج غضب سكان صفاقس ضد المهاجرين الأفارقة. يقول خالد بن يحي -وهو بائع خضر- لموقع نواة ”المشكل الوحيد لوجودهم في صفاقس هو أنهم السبب في غلاء المعيشة ونفاذ مواد غذائية كثيرة بسبب إقبالهم الكبير عليها“.
لا يخفى على العارفين بمدينة صفاقس عند الدخول إلى السوق من بابه الرئيسي، أنه بعد أحداث طرد المهاجرين، تكاد تختفي وجوه أفارقة جنوب الصحراء من السوق البلدي باستثناء عدد صغير منهم يمرون بتوجس بين الحرفاء من أبناء المدينة. يقول بائع السمك عمر بن صالح لنواة ”في السابق كانوا يملؤون السوق وكانوا يشترون كل بضاعتنا. لقد تسبب خروجهم في خسارة كبيرة بالنسبة إلى التجار، فقد كانوا من أكبر المستهلكين لسلعنا. لكن منذ حادثة طردهم وسرقة أموالهم أصبح أغلبهم لا يملكون المال وكسدت بضاعتنا. في السابق كنت أبيع الكيلوغرام من سمك السردين بستة دنانير، والآن خفضت ثمنه إلى دينارين لكن لا أحد يشترى وبقيت بضاعتي مكومة. لقد خسرنا جمعا كبيرا من المستهلكين“.
يغفر بعض سكان المدينة ما يعيبه الباقون على وجود المهاجرين الأفارقة من جنوب الصحراء، ولذلك بسبب حجم المنفعة الكبيرة التي يحققونها من وجودهم. يمدّ قاسم بائع الخضر في السوق البلدي يده ويشير إلى جرح غائر في وجهه ويقول ”هل رأيتم هذا الجرح؟ كان بسبب عراك بيني وبين مجموعة من الأفارقة لأنني رفضت تمكين أحدهم من سيجارة، لكن باستثناء تلك الحادثة لا يمكن أن أتذمر من وجودهم بل بالعكس، فقد كان الجميع يحققون منفعة من وجودهم في صفاقس لأنهم يقبلون على شراء بضاعتنا بانتظام“.
وسط السوق البلدي، اصطفت محلات بيع اللحوم الحمراء. كانت الساعة تقارب منتصف النهار، غير أنه بدا أن تكدس بضاعة أغلب تلك المحلات توحي بان اليوم لم يكن مربحا بالمرة. يقول محمد قويعة أحد الجزارين لنواة ”انخفض نسق بيع بضاعتي كثيرا منذ أكثر من أسبوع، وهو أمر يشمل كل المدينة العتيقة لا سوق الخضر واللحوم فحسب. كان المهاجرون يمثلون دورة استهلاك مهمة جدا في صفاقس لكن تعطلت تلك الدورة بعد الأحداث الأخيرة وقلّ عددهم ولم يعد يقصد السوق سوى من يملكون وثائق إقامة قانونية. أما البقية فقد تحولوا من مستهلكين إلى أشخاص يحتاجون العون“.
يتدخل جزار آخر ويقول ”كانوا حرفاء جيدين ومحل ثقة كبيرة ولم يكونوا مصدر إزعاج بل بالعكس كنا مستفيدين من وجودهم كثيرا. وأعتقد أن أي عنف يصدر عن أي شخص منهم كان بسبب ردة فعل منه على العنف المسلط عليهم. ما يعلمه الجميع أن سكان الأحياء اقتحموا منازلهم وسرقوا نقودهم. الجميع استفاد من وجودهم في صفاقس فهم يستأجرون منازل للكراء لا تفوق قيمتها مائتي دينار للشقة الواحدة، لكن يسمحون لهم بإدخال شركاء لهم في السكن مقابل مبالغ إضافية وبالتالي ترتفع قيمة الإيجار إلى ما بين 700 و1500 دينار في الشهر. كل السكان هنا انتفعوا من وجودهم. إضافة إلى انهم يمثلون عمالة ملتزمة جدا. أذكر ان أحد أصدقائي احتاج إلى عمال بناء من اجل أشغال في منزله واستعان بمجموعة من عمال البناء التونسيين لكنهم كانوا متراخين جدا فنصحته بالعمال من جنوب الصحراء، واستجاب لنصيحتي، وأنهوا الأشغال بإتقان وفي وقت قياسي، إضافة إلى أن كلفتهم أقل بكثير من كلفة العامل التونسي“.
كراء مشطّ لأفارقة جنوب الصحراء
يعلم عزيز كراموكو وهو مهاجر غير نظامي من كوت ديفوار أن أجر يومه في العمل بالبناء يقل عن أجر العامل التونسي، يقول لنواة ”جئت إلى تونس في العام 2017، أحمل شهادة في الاتصال وعملت في ذلك المجال، وأعمل أيضا في مجال البناء وأتقن ذلك العمل“. الأمر ذاته حدث لأحمد الذي قدم هو الاخر من كوت ديفوار قبل أربع سنوات صحبة عائلته ويعمل تقنيا في مجال الكهرباء، وكلاهما خسر عمله بعد أحداث بداية جويلية.
قرب المدخل الرئيسي للسوق البلدي، تصطف سيارات التاكسي منتظرة الحرفاء، يتمحص سائقو تلك السيارات الحرفاء ليمنعوا المهاجرين من أفارقة جنوب الصحراء من الصعود قبل دفع دينارين ونصف مقابل المسافر الواحد. يقول نصرو، حارس مأوى عشوائي قبالة محطة التاكسي، إن السعر العادي هو دينار ونصف وأن أصحاب سيارات الأجرة استغلوا أزمة المهاجرين في صفاقس ليضعوا سعرا مرتفعا لأنهم يعلمون أنهم سيرضون بذلك. وبالفعل، صعد الحرفاء من المهاجرين سيارة الأجرة وقبلوا بالشرط الذي طالبهم به سائقها. يقول نصرو لنواة ”الجميع يتذمر من وجود الأفارقة رغم أنهم مستفيدون منهم في الإيجار وفي رحلات العبور نحو إيطاليا“.
يروي مكرم وهو أحد سكان حي البحري الذي شهد أيضا موجة طرد المهاجرين، ويقول لنواة إن الشقق التي يستأجرها المهاجرون لا تفوق قيمتها الحقيقية 250 دينارا غير أن مدخول ماليكها يصل إلى 700 دينار شهريا وذلك بدخول طرف ثالث وهم السماسرة الذين يجلبون شركاء للسكن مقابل حصولهم على عمولة بـ500 دينار شهريا. ويضيف مكرم ”تصل قيمة الإيجار إلى 1500 دينار شهريا لشقة لا تتجاوز قيمتها 250 دينارا، وذلك لأن المهاجرين يفضلون السكن في مجموعات كبيرة، ويتقاسمون المبلغ فيما بينهم. في المقابل ينتفع صاحب الشقة ويصل دخله إلى الضعفين شهريا، شأنه شأن السماسرة الذين يتحصلون بدورهم على نصيبهم من إعادة كراء الشقق. وأحيانا يصل نصيب السماسرة إلى أكثر من ألف دينار من فائض قيمة الإيجار، دون علم مالك المنزل خاصة حين يكون سكنه بعيدا عن الحي الذي يسكنه الأفارقة“.
منذ يومين، وصلتنا رسالة على موقع فايسبوك من ألينو سومارو وهو مهاجر غير نظامي إيفواري، التقيناه في صفاقس، كان محتواها فيديو لمركب خفر السواحل التونسي يحمل مجموعة من المهاجرين غير النظاميين من أفريقيا جنوب الصحراء حاولوا العبور نحو إيطاليا. يقول لنواة ”جاء أحد سكان مدينة صفاقس إلى الحديقة في باب الجبلي وقال لمجموعة منا إنّ الوقت حان وتوجهنا إلى الشاطئ ودفعنا 1500 أورو. هكذا هو الحال نتحدث دائما عن الأورو لا الدينار ولم نكد نجتز بضعة أميال حتى أوقفنا خفر السواحل. نعلم أن العبور إلى أوروبا تجارة مربحة لهم لأن فشلنا يعني المحاولة مرة أخرى ويعني أيضا دفع أموال مرة أخرى. هذه المرة السادسة التي أحاول فيها اجتياز الحدود وأفشل، لكن رغم علمي بأنه يتم استغلالنا سأبحث عن عمل جيد وأعيد المحاولة حتى أنجح“.
محاولات هذا الشاب الإيفواري المتكررة في اجتياز المتوسط نحو ضفته الأوروبية، يتقاسم ويلاتها الآلاف ممن تسببت سياسات كبار أوروبا في نهب خيرات بلدانهم. معطيات لا تغيب عن الخطاب الرسمي التونسي، لكنها تتوه بين أسطر مذكرة تفاهم تونسية أوروبية جعلت منهم قربانا للتقارب التونسي مع اليمين الأوروبي، المعادي للمهاجرين سواء كانوا من جنوب المتوسط أو من جنوب الصحراء.
iThere are no comments
Add yours