في بيانها الّذي نشرته على الصفحة الرسمية لسفارتها بتونس يوم 28 جويلية، عبّرت الولايات المتحدة عن مساندتها لتطلّعات شعب تونس إلى مستقبل آمن ومزدهر، وعن انشغالها إزاء المسار المُتبَّع في صياغة الدستور التي رأت أنّه ”قيّد مجال النقاش الحقيقي“، مشيرة إلى أنّ هذا الدستور الجديد ”يمكن له أن يضعف الديمقراطية في تونس ويَحُتّ من احترام حقوق الإنسان والحريات الأساسية“. ودعت وزارة الخارجية في بيانها إلى ”إقرار قانون انتخابي جامع من شأنه أن ييسر أوسع مشاركة ممكنة في الانتخابات التشريعية المزمع إجراؤها شهر ديسمبر“. في المقابل، تفاعل عدد من المنظّمات والجمعيّات إزاء الموقف الأمريكي الّذي مثّل ”تدخلا صارخا في الشأن الوطني الداخلي التونسي وتعديا على السيادة الوطنية وعلى حق المواطنين في مقاومة مشروع الرئيس قيس سعيّد الدكتاتوري التسلطي“، وفق بيان مُضادّ أمضاه عدد من الجمعيات مثل المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، و النقابة الوطنية للصحفيين التونسيين و الجمعية التونسية للنساء الديمقراطيات.
خدعة ”استقرار المواقف“
يعتبر الموقف الأمريكي من إجراءات ما بعد 25 جويلية 2021 أحد أهم المواقف الدولية غموضا، مراوحا بين بيانات دبلوماسية متتالية ظاهرها الدعوة إلى ”استعادة المسار الديمقراطي“ والتهديد أحيانا بالتخفيض من المساعدات، وبين نوع من القبول بالمسار القائم حاليا والمواعيد التالية للاستفتاء، مع الحرص على التذكير بإضفاء جرعة من التشاركية في القرار. مثل هذه الازدواجية لا تعتبر غريبة عن تقاليد الدبلوماسية الأمريكية، فما يحدث في تونس لا يخضع فقط إلى لغة المبادئ الحاضرة بقوة ضمن الخطاب الرسمي، بل رأى فيه الطرف الأمريكي فرصة عزّ نظيرها لتمرير ما لم يمكن أن يتم في الزمن الديمقراطي العادي، ونقصد هنا بالأساس القرارات الاقتصاديّة الموجعة التي قد يتم اتخاذها تزامنا مع المشاورات بين الحكومة التونسية والمؤسسات المالية الدولية.
يوم الخامس من أفريل 2022، التقى الرئيس التونسي في قصر قرطاج بالسفير الأمريكي ”دونالد بلوم“ بمناسبة انتهاء مهامه. لم تخل تصريحات بلوم إثر اللقاء من لهجة المجاملة الدبلوماسية الاعتيادية مع تذكير محتشم بالموقف الأمريكي الرسمي حول العودة السريعة إلى الحكم الديمقراطي والحاجة إلى عملية إصلاح تشمل أصوات الأطياف السياسية والمجتمع المدني. غير أن مثل هذا الخطاب لا يمثّل حقيقة دور السفير الأمريكي السابق ورأيه من المرحلة السابقة حسب عديد القراءات.
يشاع عن ”بلوم“ تبنيه لرؤية محافظة في السياسة الخارجية، تحبذ تحقيق الاستقرار على عدد من الاستحقاقات الأخرى، وربما قد وجد فيما اتخذه سعيد من إجراءات سبيلا نحو ذلك. لهذا لم يكن أداء بلوم عقب اتخاذ الإجراءات الاستثنائيّة بذلك القدر من الحماس في اتجاه انتقاد المسار. وبالتأكيد لن يكون ذلك موقفا تلقائيّا من ”بلوم“ فحسب، فهو يمثل توجها قائم الذات لدى عدد هامّ من المؤسسات الأمريكية، التي بدأت في إعادة تقييم مخرجات الدعم الأمريكي للتجربة التونسية. وبعد اتخاذ القرار بإنهاء مهمة بلوم الدبلوماسية في تونس وتعيينه كسفير فوق العادة للولايات المتحدة في باكستان، لم يستقر الرأي لمدة طويلة على من يعوّضه في المنصب، وتم اقتراح اسم ”جوي هود“ الدبلوماسي الذي ينتمي إلى الحزب الجمهوري كبديل له.
”التعاون الاقتصادي“: يد أمريكا الخفيّة
عُرف ”هود“ بخبرته في ملفات الشرق الأوسط، حيث اشتغل سابقا في المملكة العربية السعودية وقطر والكويت واليمن، كما عمل في دائرة الشؤون الإيرانية داخل أروقة وزارة الشؤون الأمريكية.
لكن في المقابل أثار شخص ”هود“ مقدارا عميقا من الجدل، إثر الكلمة التي ألقاها أمام لجنة العلاقات الخارجية في الكونغرس الأمريكي يوم 27 جويلية الماضي، بعد يومين من الاستفتاء في تونس. قدّم ”هود“ في هذه المداخلة نوعا من ورقة العمل في صورة تعيينه، حدد مهمته الأولى من خلالها في ضمان حماية الأمريكيين القاطنين في تونس، ثم المساعدة على الشروع في مسار يضمن ”قدرا أكبر من الاستقرار والازدهار“، على حد تعبيره.
لم يوضح ”هود“ طبيعة هذا المسار وملامحه، غير أنه أشار إلى تعزيز رؤية للنمو الاقتصادي الشامل والمفتوح في تونس في إطار مسار المفاوضات مع صندوق النقد الدولي، مع حثّ الشركات الأمريكية على تقديم الدعم لتونس، مقترِحا تحسين استثمارات تونس في المجال المناخي من خلال البنية التحتية والتكنولوجيا الآمنة. تُحيل هذه النقطة الأخيرة على آليات إدماج تونس ضمن برنامج مبادرة الشراكة من أجل البنية التحتية والاستثمار العالمي1 الذي اقترحه الرئيس الأمريكي ”جو بايدن“ في جوان الماضي خلال قمة الدول السبع في ألمانيا، وهو برنامج ذو تمويل جملي يقدر بـ600 مليار دولار، تقوده الولايات المتحدة الأمريكية مع بقية الدول السبع للشراكة الاقتصادية مع عدد من بلدان العالم الثالث ومنها بالأخص بعض بلدان القارة الإفريقية، في مجموعة من المجالات الرئيسيّة كمشاريع الطاقة المتجددة والمناخ والبنية التحتية الرقمية والرعاية الصحية. غير أنّ مثل هذا البرنامج لا يقف عند الجانب الاقتصادي بل تكمن أهميته الرئيسيّة في أبعاده الاستراتيجيّة، إذ يُعتبر البديل الأمريكي والغربي عموما لمشروع ”الحزام والطريق“ الصيني وإحدى الآليات الجديدة لمنافسة الإستراتيجية الصينية في مجالات التكنولوجيا والبنية التحتية، إضافة لكونه أداة جديدة لربط عدد من الدول بالقيم الثقافية والسياسية الغربية، كما عبّرت عن ذلك بعض الوثائق المرتبطة بهذا المشروع. لكن ما أثار الجدل فعلا في كلمة ”هود“ إشارته إلى إدخال تونس ضمن مجال المعاهدات الإبراهيمية، أي الدعوة المباشرة إلى التطبيع، وهي إشارة خطيرة جدا حينما تأتي بمثل هذه الدرجة من المباشراتية، إضافة إلى تبين موقف الولايات المتحدة الحالي من الوضع السياسي في تونس.
لعبة التصريحات والبيانات المضادة
تعرّض ”جوي هود“ في كلمته إلى تقييم المرحلة السياسيّة الحالية في تونس مشيرا إلى ضرورة العودة العاجلة إلى النظام الديمقراطي واستمرار حماية الحريات الأساسية واحترام استقلال القضاء وسيادة القانون، واصفا توطيد السلطة التنفيذية بالأمر الخطير وداعيا لحكومة ديمقراطيّة مسؤولة أمام الشعب. يُعيد هذا التقييم نفس خطاب البلاغات الرسمية الأمريكية منذ مدّة وآخرها تصريح وزير الخارجية الأمريكي ”أنتوني بلينكن“ إثر الاستفتاء، الذي دعا فيه إلى إصلاح شامل وشفاف في تونس ”لاستعادة ثقة من لم يشاركوا في الدستور“ ومعتبرا ما حصل على إثر25 جويلية عاما ”من التراجع المفزع“. هذه التصريحات التي أثارت حفيظة عدد من الأوساط الرسمية وغير الرسمية التونسية، بدءا برئاسة الجمهورية التي اعتبرته شكلا من أشكال التدخل في الشأن الوطني، ووزارة الخارجيّة التي قررت استدعاء القائمة بأعمال السفارة الأمريكية ”ناتاشا فرانشيسكي“ من أجل التنديد بـ”التصريحات غير المقبولة“ لمسؤولين أمريكيين، تُشير إلى ما هو أبعد من مجرّد الكلام في العلاقات التونسية الأمريكية حاليا. حيث تتحدث بعض المصادر عن نيّة أمريكيّة لتخفيض المساعدات العسكرية والاقتصادية الأمريكية تجاه تونس ضمن ميزانية الحكومة الأمريكية الجديدة، بما فيها خفض دعم برامج الديمقراطية وحقوق الإنسان والحوكمة من 48 مليون دولار إلى 28 مليون دولار وتقليل دعم صناديق النمو الاقتصادي، إضافة إلى دعوة بعض الأعضاء في الكونغرس الأمريكي إلى التخفيض أو حتى تعليق المساعدات العسكرية الأمريكية لتونس، وهو إجراء لا يستهدف النظام في تونس فقط ولكن يتجاوزه إلى نطاق آخر من المؤسسات.
وبعيدا عن الخطاب الرسمي وغير الرسمي التونسي الذي يستند إلى مسألة السيادة، يعكس السلوك الأمريكي نيّة حقيقية في إبعاد الدولة التونسية عن التوجه إلى أحلاف دولية أخرى قد تغضّ الطرف عن الإصلاح السياسي مقابل الدعم الاقتصاديّ، لكنه لا يزال غير حاسم في تحديد موقفه من المسار الحالي في تونس.
تعكس لهجة المتحدث الرسمي باسم وزارة الخارجية الأمريكية ”نيد برايس“ في الندوة الصحفية ليوم 26 جويلية مخاوف من عدم تضمّن الدستور الجديد لضوابط وتوازنات كافية لضمان حقوق الإنسان والحريات الأساسية، لكن مع عدم مناقشة المراحل المتبقية من الخطة السياسية والاكتفاء ببعض ”التوجيهات“ حيالها، وهو ما يعبر تماما عن استمرار حالة ”اللايقين“ لدى عديد الأوساط الأمريكية من المسار السياسي المقبل في تونس و يمنح الإدارة الامريكية مساحة كافية للمناورة و تغيير المواقف دون حرج، حفاظا على المصالح الامريكية في المنطقة مهما كان في سدة الحكم.
هوامش
iThere are no comments
Add yours