لم تكن فكرة المعرف الوحيد، التي ينتظر منها تسهيل عملية التخلي التدريجي عن منظومة الدعم الكلاسيكي، فكرة حكومة هشام المشيشي وإن طرحها في برنامجه المالي الذي قدّمه لصندوق النقد الدولي من أجل الحصول على قرض بقيمة 04 مليار دولار. ولم تكن ابتكار وزيرا حزب التكتل الديمقراطي من أجل العمل والحريات في حكومة الترويكا (خليل الزاوية وإلياس الفخفاخ) وإن اشتغلا عليها بجدية سعيا إلى تطويرها في إطار منهجية إدماجية شاملة (بدل المنهجية الجزئية الأصلية التي اكتفت بالصناديق الاجتماعية)، بحسب ما أفادنا به معز بن ضياء، عضو المكتب السياسي لحزب التكتل ومستشار وزير الشؤون الاجتماعية في حكومة الترويكا (2012-2013). بل تم الشروع في العمل بهذه الآلية منذ سنة 2004، عبر اعتمادها بشكل محدود في إدارة عمل الصناديق الاجتماعية.
ما هو المعرف الوحيد
المعرف الوحيد هو مفتاح قواعد البيانات وكل المعلومات التي تخص المواطن التونسي في جميع الوزارات والمؤسسات العمومية منذ ولادته حتى وفاته، ويهدف إلى تيسير تبادل المعلومات بين مؤسسات الدولة المخول لها استعماله وتبسيط الإجراءات الإدارية للمواطنين والسماح بالتحيين التلقائي لسجلات المعلومات العامة عن المواطنين.
ويرى معز بن ضياء، أحد المشتغلين على مشروع تعميم استعمال المعرف الوحيد عندما كان يشغل منصب مكلف بمهمة في وزارة الشؤون الاجتماعية، في حديثه لـ”نواة”، أن هذا السجل مرتبط بشكل وثيق بالرقمنة، وسيساهم في تطوير الإدارة الإلكترونية في كامل البلاد، مشيرا إلى أنه سيساعد في تحسين التصرّف في منظومة الدعم وتوجيهه لمستحقيه.
كما أوضح بن ضياء أن المعرف الوحيد يتصل مباشرة بقواعد البيانات في مختلف الوزارات ويعطي رصيدا معينا حول ما إذا كان الشخص المعني بالتعويض على إلغاء الدعم للمواد الأساسية يستحق قيمة التعويض أو لا يستحقه، ونفس الشيء ينطبق على المساعدات الاجتماعية للمحتاجين، “عندما يقوم الموظف بطلب المعطيات من عدة مؤسسات عمومية والتعامل معها يدويا بإمكانه التلاعب وإخفاء بعض المعطيات والإقرار مثلا أن الشخص يستحق الدعم في حين هو لا يستحقه، بعد الحصول على رشوة”.
وفقا لوثيقة حكومية نشرتها رويترز، فإن الحكومة التونسية تسعى لبدء تدريجي في خفض نظام الدعم ليشمل المواد الغذائية في مرحلة أولى ثم الكهرباء والغاز لاحقا، قبل الوصول إلى إلغاء الدعم نهائيا في سنة 2024.
الانتقال لما بعد صندوق الدعم
منظومة الدعم في تونس تقوم على ثلاثة ركائز وهي الصندوق العام للتعويض وآلية دعم الطاقة وآلية دعم النقل. ما يهمنا في هذا السياق هو صندوق التعويض على المواد الأساسية لمدى ارتباطه بمعيشة التونسيين اليومية بما أنه يشمل المواد الاستهلاكية الأساسية (الخبز، السكر، الزيت النباتي، الحليب نصف الدسم، العجين الغذائي…).
بالرغم من الخلفية الاجتماعية التي تأسس عليها صندوق الدعم والتي تقوم على معاضدة المقدرة الشرائية للمواطن والتخفيف من وطأة تقلبات الأسعار العالمية وتشجيع الإنتاج الوطني خاصة من الحبوب والحليب، إلا أن نسب التضخم المرتفعة التي عرفها الاقتصاد التونسي في السنوات الأخيرة حيث وصل لــ5.7 %في جويلية 2020 واستقر بنسبة 5 % سنة 2021 وتسجيل عجز في الميزان التجاري لصالح الواردات وتراكم الديون الخارجية وارتفاع نسبة البطالة ساهم بشكل حثيث في توجه الحكومات المتعاقبة نحو إلغاء منظومة الدعم بشكل تدريجي عبر الزيادة في أسعار المواد الأساسية. آخرها الزيادات في مادة السكر 250 مليم وفي مادة الحليب نصف الدسم ليصل سعر اللتر الواحد 1350 مليم.
هذا وقد سعت الدولة التونسية، كاستجابة لضغوط صندوق النقد الدولي مقابل الحصول على برنامج تمويلي، لإيجاد حلول للمشاكل المتعلقة بصندوق التعويض على المواد الأساسية وذلك من خلال مراجعة نظام الدعم والدفع نحو إلغائه وتعويضه بمساعدات مالية للمستحقين لأموال الدعم سواء عبر “آلية إرسال الأموال بشكل مباشر للفئات التي تستجيب لشروط الدعم أو من خلال آلية البطاقة الذكية أو قصاصات التعويض”، مثلما أفادنا به بن ضياء.
هنا تكمن جدوى آلية المعرف الوحيد، إذ بمقدور الفئات التي سيتم تصنيفها كمستحقة أو منتفعة بمنظومة الدعم التوصل للتعويض عن فارق الدعم للمواد الأساسية من خلال قواعد البيانات المرتبطة بالشخص المستفيد والمتاحة عبر منظومة المعرف الوحيد لموظفي الدولة لتمكين من يستحقون الدعم من هذه الخدمة دون أن يكونوا مضطرين كل مرة لتقديم مطالب ورقية وحمل المستندات الوثائق التي تثبت استجابتهم لشروط التعويض عن أموال الدعم أو كذلك استحقاق الفئات المعوزة للمساعدات الاجتماعية.
جدير بالذكر أن تم، حسب مشروع ميزانية الدولة التونسية لسنة 2021، الزيادة في نفقات الدعم لتصل قيمتها 6236 مليون دينار مقابل 4180 مليون دينار في سنة 2020 أي زيادة صافية تقدر بـ+2056 مليون دينار.
وبحسب دراسة أنجزها المعهد التونسي للدراسات الاستراتيجية، فإن الدعم لا يوجه كله إلى مستحقيه، وبدأ في الانحراف عن غاياته بشكل واضح للعيان حيث يستفيد 25 % من السكان بـ 80 % من قيمة الدعم، كما أن ما يقارب 30 % من قيمة الدعم لا تستفيد منه الفئات الضعيفة والمتوسطة.
التحديات والمعوقات
بقدر التسهيلات الإجرائية والعملية التي من المنتظر أن تقدمها منظومة المعرف الوحيد إذا تم تعميمها على المستوى الوطني، بقدر ما تطرح من صعوبات وعوائق بيروقراطية وسياسية في تنفيذها على أرض الواقع.
نبدأ بمسألة مفصلية وحساسة مرتبطة بمدى تطابق هذه الآلية بمنظومة حقوق الإنسان واحترام سرية المعطيات الشخصية للمواطنين وبمن يحق له الإطلاع على قاعدة البيانات الخاصة بكل مواطن وأية معلومات يجوز قانونيا الإطلاع عليها وفي أي اختصاص.
في هذا الإطار، أفادنا بن ضياء بأن الإطلاع على بيانات المواطنين يمر بثلاث مستويات: المستوى الأول يخوّل فيه للموظف في الإدارة المعنية بتقديم خدمة للمواطن، أن يطلع على قاعدة البيانات العامة للمواطن والتي تحتوي معلومات شخصية موجودة في مضمون الولادة. المستوى الثاني يقدر فيه الموظف الإطلاع على معلومات لا يطلع عليها غيره مثل الطبيب في وزارة الصحة بإمكانه الإطلاع على سجلات المرضى في حين أن المحاسب في نفس الوزارة مثلا لا يمكنه ذلك.
أما بالنسبة للمستوى الثالث لا يكون فيه الإطلاع على بيانات المواطنين الأكثر سرية مثل المعلومات الجبائية والأمنية متاحا إلا من خلال إذن قضائي في حالة وجود تحقيق مالي أو جبائي وذلك بهدف حماية المعطيات الشخصية للمواطنين.
من بين التحديات الأخرى التي تواجه منظومة المعرف الوحيد، بحسب مصدرنا، هو أن بعض الوزارات ترفض مشاركة قواعد بياناتها مع وزارات أخرى بسبب استشراء ثقافة تملك البيانات والإقطاعية الإدارية داخل مؤسسات الدولة. كما أن هنالك في الوزارات من الموظفين من يعطل مشروع المعرف الوحيد ولا يريدون تقديم قواعد بياناتهم لأنهم يريدون أن ينسبوا المشروع لأنفسهم حتى يضعونه على سيرهم الذاتية على أساس أنهم من اشتغلوا عليه في وزارتهم حتى يقوموا في يوم آخر ببيع خبرتهم للبنك الدولي وصندوق النقد الدولي.
إلى ذلك، هنالك ممن يريد الحفاظ على العمل اليدوي في علاقة بمشاركة قاعدة البيانات، “لأنه يريد الفساد والاستفادة من هذه الوضعية”، بحسب تعبير بن ضياء.
وهكذا، فإن تجاوز الصعوبات والعراقيل المتعلقة بسجل المعرف الوحيد وتعميمه على جميع التونسيين والأجانب المقيمين ببلادنا من شأنه أن يوفر على الدولة مليارات من أموال الدعم التي كانت تذهب لغير مستحقيها ويجد حلا لعلاج ارتفاع الأسعار، ويحدد بدقة وشفافية قائمة الفئات المعوزة المستحقين للمساعدات المالية والاجتماعية، وبالتالي يخفض من حجم الفساد والمحسوبية في الإدارات التونسية. لكنه لن يكون الحل السحري ولا العلاج الشافي للاقتصاد التونسي الذي يعاني من قلة الإنتاج وكثرة التوريد وارتفاع المديونية بسبب سوء الإدارة والحوكمة وضعف المنوال التنموي الحالي.
iThere are no comments
Add yours