لم يكن التنقل بين ضفتي المتوسط صعباً، فيكفي حصولك على جواز سفر لتسافر إلى الأراضي الأوروبية بسهولة. لكن الأمر تغير منذ تأسيس منطقة الشنغن أواسط ثمانينيات القرن الماضي، و مع انخراط إيطاليا في هذه المنظومة، بداية التسعينيات، و فرض تأشيرة دخول على التونسيين، انطلقت الحرقة من تونس. فبالإضافة للأسباب التي كانت تدفع التونسيين للهجرة في تلك الفترة، يعتبر فرض التأشيرة وما تبعه من حد لحرية التنقل، السبب الأول والرئيسي لعملية الحرقة. كما يمكن اعتبار الحرقة، نوعا من الاحتجاج وعدم قبول بإجراء يحرم الناس من حق أساسي وهو الحق في التنقل. ومنذ ذلك التاريخ، انطلقت هذه الظاهرة وتفاقمت مع السنوات. وتتغذى أساسا من الظروف الاقتصادية و الاجتماعية الصعبة التي يعيشها المجتمع التونسي.
الحراك الاحتجاجي والحرقة: تزامن ليس من قبيل الصدفة
منذ انطلاقها، حافظت ظاهرة الحرقة على استمراريتها مع السنوات، و تطورت من حيث عدد المهاجرين. لكن نسق هذا التطور كان بطيئا وبالكاد يلامس عددهم الألف في ألسنة. لتنقلب الأمور صيف سنة 2008. حيث وصل جزيرة لامبيدوسا، بطريقة غير نظامية 6762 مهاجرا. بعد أن كان العدد في السنة التي سبقتها 1100. أي أن عدد المهاجرين غير النظاميين التونسيين تضاعف 6 مرات في سنة واحدة. واحتلت الجنسية التونسية بذلك المرتبة الأولى من حيث عدد المهاجرين غير النظاميين الذيننجحوا في اللحاق بالجزيرة، لأول مرة في تاريخها. لكن هذا الارتفاع غير المسبوق لأعداد المهاجرين غير النظاميين عاد لينخفض في السنوات الموالية (2009 و2010).
لم يكن تطور عدد المهاجرين غير النظاميين أهم ما ميز سنة 2008. و لم يعلق هذا الأمر بذاكرة الناس، هذا إن لاحظوه أصلا. في المقابل، يعرف الكثير من الناس أن سنة 2008 هي تاريخ اندلاع انتفاضة الحوض المنجمي. وهي الحركة الاحتجاجية الأهم منذ بداية حكم بن علي. و قد شملت هذه الانتفاضة 4 مدن وهي: أم لعرايس، المتلوي والرديف من ولاية قفصة. الحركة امتدت على 6 أشهر، ثم انتهت بسقوط 4 شهداء واعتقال قياداتها. هذا إضافة إلى عدم تحقيق مطالب الانتفاضة. وقد رفع فيها لأول مرة شعار “شغل، حرية، كرامة وطنية” في تحرك ميداني واسع.
تزامن هذين الحدثين المهمين لا يمكن أن يكون من قبيل الصدفة. فقد أثبتت دراسات، من أهمها رسالة ماجستير لخالد الطبابي “موجات الهجرة غير النظامية من بعد الثورة إلى سنة 2017: دراسة حالة الحوض المنجمي”، أن هناك علاقة قوية بين أول وأكبر حراك احتجاجي منذ صعود بن علي للحكم، و بين تسجيل أكبر عدد مهاجرين غير نظاميين يصلون إيطاليا منذ بداية الظاهرة. بشكل أعم هناك علاقة وطيدة بين الحراك الاحتجاجي والحرقة وهذا الأمر ستثبته ثورة 2010/2011.
فبعد سنتين من تراجع ظاهرة الحرقة، وتزامنا مع إسقاط نظام بن علي. وصل إلى جزيرة لامبيدوسا أكثر من 20 ألف تونسي بطريقة غير نظامية، بين جانفي ومارس2011. فبالرغم من إسقاط النظام الذي كان من بين الأسباب التي غذت ظاهرة الهجرة غير النظامية، لم يتوانى الشباب عن اختيار هذه الطريق. تصاعد ظاهرة الحرقة بعد ثورة “الحرية والكرامة”، هي تعبير عن شعور قديم بالإحباط ترجم إلى مشاريع هجرة غير نظامية. وعوض أن تقدم الثورة الأمل للشباب العاطل عن العمل وتستبعد من ذهنه محاولات الحرقة، إلا أنها كانت الفرصة المنتظرة لتحقيقها.
الثورة والحرقة: القواسم المشتركة
تتشارك الثورة والحرقة في الكثير من الأسباب. الفقر، البطالة، الهشاشة، التهميش، انحسار الطبقة الوسطى، تعطل المصعد الاجتماعي، التفاوت الجهوي… كلها أسباب اقتصادية واجتماعية تؤدي إلى بروز خزان احتجاجي وخزان هجرة. وفي سنوات ما يسمى بالانتقال الديمقراطي، بعد ثورة 2011، تفاقمت دواعي الهجرة. فارتفعت نسبة البطالة، خاصةً في صفوف حملة الشهائد العليا، وانحسرت الطبقة الوسطى لتغذي الطبقة الفقيرة وتوسع في أحزمة الفقر. إضافةً إلى تراجع دور المدرسة العمومية وتخليها عن مهمتها في الارتقاء الاجتماعي. كل هذه المشاكل لم تجد لها الحكومات المتعاقبة، ولا نواب المجلس التأسيسي ومجلس نواب الشعب وأعضاء المجالس البلدية المنتخبة حلولا منصفة. وهو ما ساهم في نشر نوع من الإحباط وفقدان للأمل بين الناس، و خاصةً بين فئة الشباب، الشريحة العمرية الأوسع في تونس.
ستدفع هذه الأزمة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية وأزمة الأمل التي خلقتها، بالشباب للبحث عن حلول أخرى. كان الحل الأول هو الاحتجاج، الذي أخذ أشكال مختلفة بعد ثورة 2011، اعتصامات، إضرابات جوع، مواجهات مع قوات البوليس، غلق مواقع إنتاج و قطع طرقات… وإن كان يمتد على طول السنة تقريبا لكن موسمه هو شهر جانفي من كل سنة. لم تؤدي هذه الاحتجاجات إلى نتائج تذكر إلا النزر القليل. وانكسرت جلها على صخرة الفشل السياسي في إدارة الشأن العام، ووقع قمعها وتجريمها بمحاكمة أغلب قيادييها. بعد هذا الفشل، يضاف إلى الأسباب التي عددناها سبب جديد وهو عدم قدرة الحركات الاحتجاجية على تغيير الواقع و إعادة بناء الأمل. بل بالعكس، تساهم هذه الانتكاسات في مزيد انحسار دائرة الأمل، و تصبح سببا في البحث عن حل ثان، يمكن أن يتمثل في الهجرة غير النظامية أو ما يعرف الحرقة.
منذ 2011، حافظت أدفاق الهجرة غير النظامية المنطلقة من تونس نحو إيطاليا على استمراريتها بنفس النسق تقريبا. وإن شهدت في بعض السنوات انخفاضا، لكنه لم يؤثر على هول هذه الظاهرة و أهميتها. قدوم شهر ماي يكون عادة الانطلاقة الطبيعية لموسم الحرقة، لتنتهي في حدود شهر نوفمبر من كل سنة. علاوةً على أن العوامل الطبيعية تكون ملائمة في ذلك الوقت من السنة للإبحار نحو الضفة الشمالية، فإن هذا الوقت يكون أساسا بعد انتهاء موسم الاحتجاجات و ملامسة نتائجها.
واللافت للانتباه أن ملامح المهاجر غير النظامي قد تغيرت كثيرا. كان الحارق قديما شاباً ذكراً، فقيراً أو من الطبقة المتوسطة السفلى، أعزبا أو عاطلا عن العمل لم يكمل تعليمه. مع بروز الأسباب الجديدة (فشل الحركات الاحتجاجية وانحسار دائرة الأمل) تغير الأمر، ولم تعد الهجرة مقتصرة على الذكور فقط، واتسعت دائرة الانتماء الطبقي للمهاجرين لتشمل الطبقة المتوسطة. هذا إضافةً إلى أن المهاجر غير النظامي لم يعد ضرورةً عاطلاً عن العمل أو غير متحصل على شهادة عليا. الملفت للانتباه أكثر هو انخراط القُصّر والمسنين في الحرقة، بل وأكثر من ذلك هجرة عائلات بأكملها. ومع تدني الخدمات الصحية، شهدنا انخراط عديد المرضى في الهجرة على متن قوارب الحراقة.
يأتي ذلك أمام مفارقة غريبة، فقديما كانت مشاهدة عودة الجيران والأتراب من القارة الحلم، محملين بالملابس والأموال والسيارات محفزا للشباب المقدم على الهجرة. ويرتكزون في الصورة التي يبنونها عن الحياة المنشودة، على أحاديث هؤلاء المهاجرين المستقرين في أوروبا. لكن منذ سنة 2010، أصبح العديد منهم يرحّلون منذ أن تطأ قدمهم التراب الإيطالي، حيث وصل عددهم 1739 شخص في سنة 2019، هذا إن نجوا من الغرق في البحر. إضافة إلى أُفول فكرة أوروبا الجنة الموعودة، حيث تعاني العديد من دولها مشاكل عديدة أبرزها البطالة. كل هذه المعلومات يكون الحارق على علم بها قبل تنفيذ مشروع الهجرة، و مع ذلك لا تثنٍيه عن أحلامه. فما يدفعه للهجرة غير النظامية أكثر بكثير مما قد يثنيه.
عشرية الثورة: انفجار الهجرة
قبل أشهر قليلة من الاحتفال بعشرية الثورة، وصل إلى سواحل إيطاليا 7890 حارق، و تضاعف هذا العدد أكثر من 6 مرات مقارنة بسنة 2019. إضافةً إلى إحباط 672 محاولة هجرة غير نظامية، العدد الذي كان 157 سنة 2019، حسب إحصائيات المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية. كل هذه الأرقام تضعنا أمام انفجار للهجرة لم نشهده من ثورة 2011. فعلى غرار انتشار مرض كورونا و ما رافقه من فراغ أمني (تركيز قوات الأمن على مجابهة وباء فيروس كورونا) والذي استغلته شبكات الهجرة غير النظامية أحسن استغلال. كان اليأس قد بلغ منتهاه لدى عدد كبير ممن كانوا داخل الخزان الهجري. ولا تأتي موجة الهجرة هذه بعد التحركات الاحتجاجية الكبرى المعتادة في شهر جانفي، بل هي رد احتجاجي على 10 سنوات من الحركات المطلبية دون جدوى، 10 سنوات من الأمل الذي لم يبنى والمطالب التي لم تتحقق.
العلاقات وطيدة بين الحراك الاحتجاجي والحرقة في تونس. فعلى غرار اشتراكهما في الأسباب وفي نوعية الجمهور، تكون الأولى مغذيةً للثانية والعكس صحيح. فمن يفشل في عملية الحرقة يعود إلى الخزان الاحتجاجي، والمحتج هو مشروع مهاجر غير نظامي. هذا إضافة إلى أن عمليات الحرقة الفاشلة كانت قادحا لحركات احتجاجية، مثل ما حدث في بئر علي بن خليفة وبئر الحفي أكتوبر 2017.
iThere are no comments
Add yours