جيل تعلم واستلهم من تجارب حركات الكفاح والتحرر في الفيتنام والصين وكوبا وبوليفيا وجنوب افريقيا، جيل عاش أو تعلم عن وقع الانتفاضة الفلسطينية في 1987 وما خلقته من زخم ألهم أحرار العالم قبل حصول النكسة، لكنه كذلك جيل أمكن له أن يراوح بين هذه النظريات العظيمة و”الواقعية” التي تعيدنا للتعامل مع الواقع مهما تجذرنا، كي لا يحصل “الانفصام”.
أنا من جيل مخضرم بين المطالعات الماركسية (بتفريعاتها) والقومية (الوحدوية والبعثية) ورواد النهضة العربية الإسلامية، جيل متشبع بقيم ومبادئ العدل الاجتماعي، جيل مغرم بالمطالعة لمحمد أركون وجورج طربيشي ومحمد عبد الجابري وهشام جعيط وڨرامشي…، جيل تلهمه تجارب المقاومة الفلسطينية وكتائب أبو علي مصطفى للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين وخطابات حسن نصر الله الجياشة، جيل يتخمر عند ترديد أغاني الشيخ إمام عيسى وأغاني مرسال خليفة وأميمة الخليل وزياد الرحباني، جيل يرقص الدبكة الفلسطينية ويعتبرها عنوانا للنصر .
أنا ابن الجيل الذي يرى في تجارب مثل les indignés و occupy wall street وبوديموس وحركة السترات الصفراء وnuit debout وطلعت ريحتكم وبدنا نحاسب و6 أبريل و20 فبراير وذبحتونا ومانيش مسامح وفاش تستناو، عناوينا ملهمة للنضال والكفاح الشبابي، والتي سيكون لها وقعا في المستقبل القريب.
أنا ومثلي كثيرون نشعر أننا نعيش سكيزوفرينيا سياسية وفكرية، فنحن من زاوية نرفض أن نكون تقليديين جامدين، ومن زاوية ثانية نبتذل التجديد السطحي المنبت .
هذه المفارقة الحاصلة لجيل شبابي بأكمله تعبّر عن أزمة متعددة الأبعاد، فهي من زاوية تراهن عن المستقبل في تصالح مع الإرث، ومن زاوية ثانية متصادمة مع الوضع السياسي الدولي والصراع القائم من أجل بناء مشروع فكري وسياسي مناضل ومتفتح للإجابة على تساؤلات الواقع في تطوراته الدولية والإقليمية والمحلية.
هذا الجيل يمكن أن نجد له المبرّرات لعدم تمكنه لحد الآن من فرض نفسه كبديل للتجارب القديمة (ما عدى البعض)، ولعدم قدرته عن الاجابة عن الأسئلة التي تتعلق بالتطورات السياسية و الاقتصادية والاجتماعية والثقافية على المستوى العالمي، وتعمق تناقضات الرأسمالية العالمية، و اتساع الهوة بين خطاب القوى الرأسمالية و واقع الشعوب الملموس. حيث يتم الحديث باستمرار عن السلم والحد من التسلح، بينما تسيطر عمليا روح الهيمنة و النزاعات والحروب وبؤر التوتر.
هذا الجيل وجب أن يجد الوصفة السحرية القادرة على الوقوف في وجه الهيمنة والتحكم التي تفرضها أجندات ولوبيات عالمية في مختلف المجالات وبشتى الوسائل، لا بالشعارات والخطابات فقط، بل ببرامج وأطروحات فاعلة و”صادمة” قادرة على خلق بنى بديلة قادرة على تجاوز حدود البنى القديم القائمة.
نجاح الحركات الشبابية رغم محدودية تأثيرها الحيني
بالرغم من أن جل الحركات الشبابية السابق ذكرها استطاعت أن تقدم نموذجا بديلا عن الفاعلين السياسيين التقليديين، وذلك بعدم سعيها وراء المناصب أو المواقع السياسية بشكل مباشر عند انطلاقها، (بالرغم من وجاهة السعي للحكم)، فلم تسعى للوصول للسلطة بقدر شعورها بالتعبير عن حالة من عدم الرضا وعدم الاحساس بوجود الشرعية السياسية وغضبها تجاه إرادة الهيمنة والتسلط العالمية عبر الأذرع المحلية، فنجح بعضها في تحقيق مكاسب مباشرة وفشل بعضها الاخر في تحقيق مكاسب حينية، لكنها حققت مراكمات وتجارب ثرية.
إن التغيرات الكبرى للوضع العالمي ونزعات الهيمنة والسيطرة البارزة في توجهات السياسة الدولية، خاصة النزاعات و الحروب على مناطق النفوذ للسيطرة على الثروات، ولو تطلب الأمر اللجوء إلى الحرب ضد الشعوب و الأنظمة حتى ان اقتضى الأمر إقحام المعتقدات الدينية في ذلك للتسويق، كانت وراء بطئ تحقيق نتائج سريعة للحركات الشبابية من أجل التغيير (وقع ذكر بعضها في بداية المقال)، لكن فاعليتها تكمن في ما قد نستقرؤه من مخلفات تجاربها الحاصلة .
ففي مصر تواصل الحركات الشبابية في تعرية حكم النظام العسكري بمزيد المواجهة وتقديم ضحايا ومساجين، والتشهير بانتهاكات حكم السيسي، ولنا في تجربة حركة 6 أبريل وما تقوم به من مبادرات ميدانية وعبر صفحاتها على موقع فايسبوك وتويتر من فضح لجرائم الحكم، وهو ما سيؤدي لعزلة السيسي داخليا وخارجيا عبر تقارير المنظمات الدولية في أول تغيير في المعادلة الجيوسياسية.
أما في لبنان فقد نجحت حركت “طلعت ريحتكم” الشبابية من التشهير بالفساد السياسي الذي ينخر الدولة اللبنانية، حتى أصبحت قضية الفساد العنوان الأساسي للشارع اللبناني خلال الانتخابات البلدية المنعقدة سنة 2016 والتي شارك فيها نشطاء حركة “طلعت ريحتكم” ضمن قوائم مواطنية (مثل قائمة بيروت مدينتي) وذلك لكسر الصور التقليدية للفاعلين السياسيين التقليديين ولفضح جرائم الفساد السياسي بلبنان. ثم لتأتي بعدها حركة “بدنا نحاسب” الشبابية لتزيد في تجذير المطالبة بفضح المنظومة السياسية الفاسدة ولتناضل ضد النظام السياسي الطائفي وتطالب بنظام انتخابي لا يقوم على المحاصصة الطائفية. وإن كانت النتائج التي أفرزتها صناديق الاقتراع ضعيفة في كلتا الحالتين، فإن المجتمع اللبناني أصبح يتلمس بروز مبادرات وحركات جريئة بصدد إحراج المنظومة السياسية الرسمية برمّتها، وفي طريقها للتغيير ولو ببطء.
أما في المغرب والأردن فظاهر الأمور تقول بأن الحراك الشبابي لا يعدو أن يكون حراكا احتجاجيا قطاعيا ذو حدود، ولا يجرأ عن المس من الخطوط الحمر، وهي نقد الملك وحاشيته، فبالعودة لهذه الحراكات في المغرب نكتشف أن عدة حركات شبابية أصبحت لها جرأة عند نقد الملك كما الحكومة والمخزن، فحركة 20 فبرايل ركزت في نشاطها على المطالب السياسية، التي يمكن أن نلخصها في الفصل بين الثروة والسلطة في المناصب الحكومية واستقلال القضاء وحرية الإعلام وإقامة ملكية برلمانية وإجراء انتخابات نزيهة ووضع دستور جديد، بل أنه برزت أصوات من داخل هذه الحركة وغيرها تتجرأ على توجيه إصبع الاتهام للملك واتهامه باستغلال ثروات المملكة لصالحه هو وحاشيته، بل منهم من اعتبره رمز الفساد في المملكة المغربية، وهذا يعد سابقة في تاريخ المملكة المغربية، وما حراك الريف الآن إلا إحدى هذه البوادر.
أما الوضع في الأردن فهو يشبه الوضع في المغرب، حيث برزت حركات مثل “ذبحتونا” رفعت سقف المطالب، ثم تلتها حركات احتجاجية طالبت بإسقاط الحكومة على خلفية إقرار ضريبة عن الدخل، وسرعان ما استجاب الملك الأردني لمطالب الجماهير المنتفضة، مما أدى لاستقالة حكومة الملقي وتغييرها بحكومة الرزاز، إلا أن الاحتقان والغليان الشعبي لم تخفت حدته بسبب تواصل الأزمة الاقتصادية والاجتماعية جراء الخيارات الفاشلة، وهو ما دفع بعدد من الناشطين لاتهام الملك، ولو بصوت خافت جراء قمع الحريات بالأردن، وتجدر الإشارة أنه هنالك تشكيلات شبابية تستعد للإعلان عن نفسها في الأردن، ويبدو أنها ستكون سابقة في تاريخ المملكة الهاشمية من خلال الأرضية والجرأة على تجاوز المربعات المسموح بها.
أما الموجة الأخير للحراك الشبابي في الجزائر والسودان فقد كسرت كل المعتقدات السياسية المسلمة باستحالة التغيير في هذه الدولة الرازحة تحت وطأة أنظمة مستبدة منذ عقود، حيث تمكنت من إسقاط رموز سدة الحكم وهي في انتظار مواصلة مسار التغيير لمحاولة الارتداد عنه من قبل القوى العسكرية والقوى المحافظة العاملة جاهدا لكبح جماح التغيير الثوري العميق.
أما بالنسبة للتجارب الشبابية الغربية المماثلة، فيجدر القول أن في غالبها لا تختلف عن التجارب العربية، إلا من حيث قدرتها على الاستمرار لفترة أطول من التجارب العربية، وذلك يعود بالأساس للمناخ السياسي العام وللأوضاع الاجتماعية للطلائع الرافعة والمؤطرة للحراك.
فحركات مثل السترات الصفراء وles indignés و occupy wall street وnuit debout والحملات مثل المسيرة من أجل المناخ كجزء من الإضراب العالمي الثاني للمناخ الذي عم المدن الغربية بمشاركة مئات الآلاف من الشباب مكّن من التأثير في السياسات العامة لدولها وفي التمثيلية النيابية في البرلمان الأوروبي في الانتخابات الأخيرة، لكنها لم تنتقل لتغيير في معادل عميقة للحكم برمّته.
هذه الحركات والحملات لم تطرح نفسها بديلا سياسيا للناخبين، لكنها لعبت دورا مهما في صياغة برامج المترشحين في الانتخابات، لذلك لم تتمكن إلا “بوديموس” نسبيا في اسبانيا من التحول لرقم سياسي (لكنها تراجعت للمرتبة الرابع من حيث عدد التمثيلية النيابية بالبرلمان الاسباني في الانتخابات البرلمانية الأخيرة في أفريل الماضي بعد أن كانت في المرتبة الثالثة في سابقتها)، وذلك يعود لعدة أسباب، منها الذاتي ومنها الموضوعي .
الحركات الشبابية في تونس بين الاحتجاج والبناء
تعدّدت الحركات الشبابية في تونس اثر ثورة 17 ديسمبر 2010 – 14 جانفي 2011، بل لنقل أن بوادر هذه الديناميكية كان سابقا للثورة التي كان وقودها الرئيسي الشباب في سنة أطلق عنها الرئيس المخلوع بن علي “سنة الشباب”، حيث كانت الحملات المناهضة لغلق المواقع الالكترونية (عمار 404)، و حملات “الفلاش موب” في 2009 ، وانتفاضة الحوض المنجمي سنة 2008، والتي سجن فيها عشرات الشباب. لكن بعد الثورة أصبحت الحركات الشبابية أكثر نضجا وتجربة، مستفيدة من مناخ الحريات الذي انتزعه الشعب التونسي ببراثنه.
يمكن أن نتحدث بإطناب عن هذه الحركات التي تنوعت بتنوع المجالات (ثقافية، اجتماعية، نقابية، سياسية، قانونية)، لكن يمكن اعتبار أهمها حملة “مانيش مسامح” التي انطلقت في 2015 احتجاجا عن عرض رئيس الجمهورية لمشروع قانون للمصالحة الاقتصادية والإدارية لمن تعلقت بهم قضايا فساد قبل الثورة، على أنظار مجلس نواب الشعب، وذلك في تضاد مع قانون العدالة الانتقالية، هذه الحملة ولمدة سنتين تمكنت من خلق فرز سياسي جديد في المشهد التونسي، فاصطفت التنظيمات والمجموعات السياسية بين من هو مع القانون وبالتالي وقع إحراجه والتشهير به لتطبيعه مع الفساد والفاسدين، وبين من هو ضد هذا القانون وهو الموقف الوجيه لدى شريحة واسعة من الشعب التونسي، كما تمكنت هذه الحملة الشبابية من خلق إطار تنسيقي بين مكونات تتقاطع في مناهضة هذا القانون ولم يكن التقاءها ممكنا في السابق، هذا مع تمكن الحملة ومناصريها من أحزاب ونواب شعب ومنظمات وشخصيات وطنية وفنية من إسقاط ثلثي مشروع هذا القانون (إسقاط المصالحة في المجال الاقتصادي والمالي واقتصاره على المصالحة الإدارية). هذه الحملة وبالإضافة لما حققته من نتائج عديد مباشرة، فإنها تمكنت من تمكين جيل بأكمله من خوض غمار الفعل السياسي الميداني دون وصاية أو توجيه من أي جهة، وهي بذلك قد تمكنت من صنع كوادر سيكون لها وقع مؤثر في المستقبل القريب.
أما حملة “فاش تستناو” فقد كانت بمثابة الدعوى لتحركات احتجاجية ضد قانون المالية لسنة 2018 الذي تقدمت به الحكومة، وضد غلاء الأسعار. هذه الحملة أزعجت الحكومة التونسية بعد توسع دائرة الاحتجاجات في مختلف المحافظات التونسية ودفعها لطلب دعم حلفائها من الخارج، حتى أنها تحصلت على منحة مالية من الدولة البريطانية لمواجهة هذه الاحتجاجات، وذلك بعد صدور مقالات بصحف بريطانية تكشف هذه الفضيحة، وهو ما وضع الحكومة في موضع مساءل واتهام .
إن الحراك الشبابي الذي يجتاح الأقطار والقارات، ماهو إلا تعبير صريح عن وجود فجوة شاسعة بين جيلين من الفاعلين جيل محافظ وجيل مندفع للتغيير، وهو عبارة عن بحث جدي في أشكال ووسائل فاعلة ومؤثرة في مجريات الأحداث العالمية، وهو تعبير راق لرفض التبعية والهيمنة، لكن إلى أي مدى يمكن المزج بين متطلبات اليوم وتجربة الماضي، كي لا نسقط في الفراغ أو التصادم والشعبوية التي لا تخدم إلا القوى اليمينية والقوى المحافظة.
لكن الأكيد أننا بصدد الانتهاء من مرحلة سياسية والاستعداد لمرحلة أخرى، قد تتمكن هذه الحركات من جعلها أفضل من سابقتها وقد لا تتمكن.
iThere are no comments
Add yours