في عام 2017، بلغ الدين اللبناني قيمة 80 مليار دولار، و هو ما يعادل نسبة 150% من الناتج المحلي الإجمالي (المقدّر بــ51.85 مليار دولار)، وهذه ثالث أعلى نسبة في العالم، خلف اليابان واليونان. و يتوقع الاقتصاديون نسبة 160%، وربما أكثر، بحلول عام 2021 إذا لم يُبذَل أي جهد في الأعوام المقبلة،. تشرح سيبيل رزق “الكل يعرف أنّ دين الدولة لا ينشأ ليسدد”، ، مديرة دراسات السياسات العامة في “كلّنا إرادة”، وهو مركز أبحاث وتحليل أنشأه ما يسمى بالمجتمع المدني. لكن “ما يهمّ هي القدرة على الحفاظ على وتيرة سداد مستمرة، وهذا ما هو عرضة للخطر اليوم”.
لِمَ هذا الخطر؟
خدمة الدين، أي الفوائد التي تدفعها الدولة اللبنانية عن دينها، قاربت في عام 2018، 5 مليارات دولار. وهذا عبء يمثل 25% من ميزانيتها السنوية المقدّرة بـ19.1 مليار دولار في عام 2018 (لم ينشر لبنان ميزانيته الرسمية). اقتصاديو صندوق النقد الدولي يُقدّرون بأنّ هذه الخدمة قد تُمثّل 60% من موازنة الدولة بحلول عام 2021، وهو ما سيكون بطبيعة الحال غير محتمل.
و للتمكن، في آن واحد، من سداد الدين وتمويل نفقات الميزانية، تحتاج الدولة إلى مداخيل مالية. وهذه الأخيرة، هي اليوم أقلّ من النفقات: الضرائب (الضريبة على القيمة المضافة، الجمارك) ومداخيل الإدارات والممتلكات الحكومية (كازينو لبنان، الاتصالات) بلغت 12 مليار دولار في عام 2018. وبالتالي فإنّ عجز الميزانية سيبلغ حوالي 7 مليار دولار، ما يعني أنّ 37% من نفقات الميزانية ستثقل هذا العام أيضاً حجم الدين (المصدر: كريستيان أبو طايع، مصرفي استثماري لدى Merill Lynch).
بعبارة أخرى، تُصدِر الدولة اللبنانية سنوياً أوراقاً مالية من أجل تمويل ذاتها. وهو دين بالليرة اللبنانية بنسبة 70% وبالدولار بنسبة 30%، ويتم سداده بفوائد مرتفعة نسبياً تبلغ 9% بالنسبة لليرة اللبنانية و7% بالنسبة للدولار، ما من شأنه أن يجذب المستثمرين. هذا الدين يُؤمَّن بغالبيته من المصارف اللبنانية ومن مصرف لبنان، وهذان الطرفان يحوزان منه اليوم على نسبة تفوق 85%.
في مقدور المصارف اللبنانية شراء الدين لأنّها غنية بالودائع. فحجم الودائع في القطاع المصرفي في لبنان يبلغ حوالي 200 مليار دولار أي تقريباً 4 مرات حجم الإقتصاد المحلي عام 2017. و حوالي 40% من حجم هذه الودائع يأتي من الاغتراب اللبناني، تجتذبهم بالأخص نسب الفوائد المريحة في لبنان مقارنةً بالخارج. وأكثر من 80% من الودائع اللبنانية مودعة بالدولار. إلى هنا، كل شيء على ما يرام.
تقول روزالي بيرتييه _محللة لدى مركز الأبحاث Synaps_ “دفق الودائع هذا ضروري لتمويل الدين وميزان المدفوعات (11.6 مليار دولار عام 2016) بالعملة الصعبة”،. إلا أنّ البلد يستورد 80% من السلع الاستهلاكية ويدفعها بالعملة الصعبة (باليورو والدولار في معظم الأحيان)، وهنا تكمن المشكلة. فصندوق النقد الدولي يعتبر أنه من أجل تمويل العجز التجاري والفوائد المتزايدة للدين السيادي، يحتاج البلد إلى 6 أو 7% كزيادة في الودائع بالدولار، أي ما بين 6 و7.2 مليار دولار إضافي في السنة.
غير أنّه في السنوات الأخيرة، ولأسباب مختلفة، كانت الودائع تتزايد ولكن بنسق أقل: يوجد مال أقل في الخارج؛ ازدادت نسب الفوائد، لاسيما الأميركية منها؛ المخاطرة المتعلقة بالبلد مرتفعة”… تقول روزالي بيرتييه “باختصار، اقتصاد لبنان يطغى عليه الدولار وهو يصرف منه أكثر مما يمكن أن يجذب منه”،. ومن هنا يأتي خطر انهيار العملة.
جرى تثبيت ربط الليرة اللبنانية بالدولار عام 1997 بسعر 1507.5 ليرة للدولار الواحد، وهو ما يسمّى نظام سعر الصرف الثابت. وهذا أمر راسخ في حياة الناس لدرجة أنّ الاقتصاد يعمل بكلتا العملتين. في أي محل من البلد (تقريباً) يمكنك الدفع بالدولار أو بالليرة وتضمن أنّ هذا المال قابل للتداول. رغم ذلك، فإنّ هذا الربط متعلّق بقدرة المصرف المركزي، أو مصرف لبنان، على ضمان التكافؤ بين العملتين. من أجل ذلك، فهو يحرص على أن يكون لديه دائماً ما يكفي من احتياطي الدولار لشراء الليرة، والعكس.
لا أحد يعرف اليوم بالضبط مبلغ الاحتياطي من العملة الصعبة لدى مصرف لبنان الذي لا ينشر أرقاماً مفصلة. الأكيد في المقابل هو أنّ الزيادة المتباطئة في الودائع بالدولار تعرض هذا الاحتياطي إلى الخطر وبالتالي تعرض قدرة مصرف لبنان على دعم الليرة إلى الخطر أيضا.
التحدي: جعل الدين قابلاً للتحمّل
للأسف، لا ينتج البلد ثروات كافية لتوليد الادخار وتعبئة خزائنه. فالنمو الاقتصادي ضعيف جداً (يتوقع أن يكون أقل من 2% لهذه السنة)، و نسبة التضخم وصلت إلى أرقام قياسية (6.3% في الأشهر الثمانية الأولى من عام 2018)، وكذلك البنية التحتية (طرقات، اتصالات، مياه، إدارة النفايات) تحتاج صيانة عاجلة وتحديثاً، وهي حاجة أكثر إلحاحاً عقب توافد أكثر من مليون ونصف مليون لاجئ سوري منذ 2011؛ فيما تُمثّل الاستثمارات المُنتِجة أقل من 1% من الناتج المحلي الإجمالي (المعدل العالمي هو 8.2%).
“المشكلة اليوم هي أنّ الهيكل أعرج، كما تشرح سيبيل رزق، فكل دعائم الاقتصاد ضعيفة، ولا نعرف ما يمكن أن يُقوّض الاقتصاد اللبناني”. وُعِد لبنان بـ11 مليار دولار كقروض بنسب فائدة مناسبة نسبياً خلال مؤتمر “سيدر” الذي عقد في نيسان/إبريل الماضي. وقد كان الهدف حينها بالتحديد جمع أموال لتمويل تنمية البنية التحتية وتنشيط الاقتصاد. “لكن ذلك معناه أيضاً مزيداً من الدين”، وفق تعليق الأخيرة.
يتعلق الأمر اليوم بجعل الدين قابلاً للتحمّل، وبالتالي تقليص نسبة الدين الى الناتج المحلي الإجمالي. و يهدف مؤتمر سيدر إلى زيادة الناتج المحلي الإجمالي، ولكن هناك بديل آخر ألا وهو تقليص الدين. لذلك، يمكن للحكومة الاختيار بين اتخاذ تدابير ضريبية (الرفع المثير للجدل للضريبة على القيمة المضافة من 10% إلى 11% عام 2017) ووضع قيود على الميزانية (بالأخص عبر خفض تكاليف رواتب الوظيفة العامة).
غير أنّه حتى إذا وضعنا جانباً أنّ الحكومة تأخرت كثيراً في التشكل، أي بعد خمسة أشهر من الانتخابات النيابية، فإنّ البلاد تواجه منظومة مزمنة من الفساد والمحسوبيات، ما يجعل أي عملية إصلاح أكثر تعقيداً. على سبيل المثال، في بعض المناطق من البلاد، تتمّ جباية أقل من 65% من فواتير الكهرباء، فيما تدفع الدولة بنفسها الأموال الناقصة إلى مؤسسة كهرباء لبنان. مثّل ذلك المبلغ نسبة 7% من موازنة عام 2018. كمثال آخر، يتم تحصيل الضريبة على القيمة المضافة على الفواتير المصرّح بها. بيد أنّ غالبية الشركات في لبنان لديها “سجل أبيض” و”سجل أسود” للحسابات بشكل يسمح لها بدفع أقل قدر ممكن من الضريبة على القيمة المضافة إلى دولة تُعتبر، عن حق، فاسدة (يحتل لبنان المرتبة 136 من أصل 176 دولة في معدّل الفساد).
أمّا في ما يخص الخفض في حجم رواتب الوظيفة العامة، التي تمثّل نسبة 35% من ميزانية الدولة، فإنّ سلسلة الرتب والرواتب رُفعت العام الماضي، وجرى خلق وظائف جديدة. تقول سيبيل رزق “برغم عدم الكفاءة والوساطات في مناصب الوظيفة العامة، فهي، شئنا أم أبينا، بمثابة شبكة أمان اجتماعي، ولا بدّ منها في بلد منهك”.
إذن، ما العمل؟
يوجد حل للتخفيف من حجم الدين ولا أحد يجرؤ على الحديث عنه بعد. وهو يكمن في إعادة هيكلة الدين اللبناني عبر اتفاق مشترك مع الدائنين. قد يعني هذا إعادة جدولة الدين، خفض الفوائد، وربما حتى خفض حجم الدين.
إن غالبية الدين اللبناني (أكثر من 85%) هو بين أيدي المصارف اللبنانية والمصرف المركزي. هذا يعني أنّ أكثر من 60% من أسهم المصارف التجارية اللبنانية تتألف من الدين اللبناني. لا نعرف حصة الدين ضمن أرباح المصارف، ولكن ليس عسيراً تصوّر أنّ بعض المصارف، من أصل 52 مصرفاً لبنانياً، لا تحقق أرباحاً إلا بفضل الدين.
بناءً على ما تقدم، إنّ العلاقة متينة بين المصارف اللبنانية وبين الحكومة، فالطرفان كاسبان من النظام ولا مصلحة لأي منهما في انهياره. “لأجل ذلك، لا معنى لسيناريو مشابه لليونان أو لتركيا، حيث مارس الدائنون الدوليون على الدولة المفلسة ضغوطاً للشروع بإصلاحات صارمة غالباً ما تترك الشعب مستنزفاً، وتؤدي الى هبوط سريع لقيمة العملة ” يرجّح نسيب غبريل، وهو مدير قسم البحث والتحليل الاقتصادي في بنك بيبلوس: “نحن متداينون في ما بيننا”. تحافظ إذاً الحكومة على خيار التداين من المصارف المحلية، لتسدد لها بسخاء، كما فعلت منذ عقود.
“إن أيّ دولة في العالم تُعيد هيكلة ديونها حين تصل إلى نقطة الإنكسار، حين تخفق في الوفاء بالتزاماتها”، تشرح سيبيل رزق. “في حين أنه حتى الساعة، لم تطلب الدولة اللبنانية شيئاً من المصارف”. لكن إلى أي مدى يمكن لهذا النظام أن يصمد قبل أن يصبح تخفيض العملة أمراً مفروغاً منه؟
بالنسبة لروزالي برتييه “إنّها مسألة ثقة. فالحفاظ، اليوم، على نظام سعر الصرف الثابت يُعطي صورة استقرار. طالما أنّ حاكم مصرف لبنان، رياض سلامة، الموجود في منصبه منذ 25 عاماً، حاضر، فإنّ ذلك يوحي بالثقة. في اليوم الذي تُفقد فيه الثقة، في اليوم الذي لن تصمد فيه الليرة، فإنّ كل شيء سيكون ممكناً: إذا رفضت المصارف التداين فيما بينها، سنقع أمام مشكلة سيولة، وسنقع أمام سيناريو شبيه بما جرى في مصرف Lehman Brothers، حيث ينكمش النظام بكامله”.
“تخطى الربط بين سعر صرف الليرة والدولار أربع صدمات في الماضي، يقول نسيب غبريل ليخفف من شأن الخطر. عند اغتيال رفيق الحريري في عام 2005، عند حرب 2006 (حرب تموز) مع إسرائيل، عند سقوط حكومة سعد الحريري في يناير/كانون الثاني 2011 وعند “استقالة/خطف” سعد الحريري في نوفمبر/تشرين الثاني 2017. الحدثان الأولان فقط شكلا ضغطاً على الليرة اللبنانية. وفي كل مرة كان نظام تثبيت سعر الصرف يصمد رغم تسرب رؤوس الأموال في حينها، وهو ما كان دائماً يعالج سريعاً. يجب إذاً وقوع صدمة أقوى من اغتيال رئيس الحكومة أو حرب لتهديد الليرة”.
الكلفة على الاقتصاد
ما لا يعيه العديد من اللبنانيين هو أنّ الجميع يستفيدون بصفة أو بأخرى من نظام تثبيت سعر الصرف. تقول روزالي بيرتييه “الليرة اللبنانية مقدرة بأكثر من قيمتها لأنّ عدداً قليلاً من الأشخاص يريدونها. إذا ما وجب تعويم الليرة فإنّ الغذاء الأساسي وهو المنقوشة التي يساوي ثمنها 1000 ليرة سيكلف أكثر بكثير”، على الأقل لأنّ القمح الذي تتكون منه مستورد. ستكون كارثة بالنسبة للطبقة الوسطى والفقيرة.
ما يزيد الطين بلّة أنّ المصارف لا تبدو مستعدة لتمويل الاستثمار المنتج للمؤسسات برغم أنّه ضروري للاقتصاد، وذلك نظراً إلى الريع المريح الذي يتأتى لها من دين الدولة. كما أنّ نسب الفوائد على القروض الموجهة للمؤسسات الصغرى والمتوسطة عالية بما يكفي لإحباط الكثيرين.فالفائدة على الأقل 12% على قرض بالدولار و14% على قرض بالليرة اللبنانية في أحد أكبر المصارف اللبنانية.
تكمن المشكلة في أنّ الجمود السياسي والإجراءات المتخذة من قبل مصرف لبنان من أجل تفادي الأزمات تقوم فقط بتأجيل المشكلة وتنقل ثقل الدين إلى الأجيال المقبلة. فكما يقول سامي مقدسي _أستاذ الاقتصاد في الجامعة الأميركية في بيروت_ “منذ نهاية الحرب الأهلية، كانت الحكومات المتعاقبة تصرف من دون حساب ومن دون الاهتمام بالانضباط المالي” .
“يملك لبنان خبرات عدة تخوّله إيجاد حلول”، مستدركاً بالقول: “للأسف، فإنّه يفتقد الحَوْكمة لتطبيقها”. فلبنان يأتي في المرتبة 140 من حيث الحوكمة وفقاً لمؤشر البنك الدولي. لكن بلا حوكمة، حتى وإن كانت الحلول موجودة، ومهما كانت صعوبة تطبيقها، فإنّ أي اصلاح وأي تحسين يكون مستحيلاً.
يبدو البلد اليوم مشلولاً وسط الأزمة والفساد والتبذير، مع طرق قليلة محتملة للخروج. وإلى الآن، لا يزال النظام المالي صامداً رغم ذلك، تدعمه في ذلك ثقة تخطت صدمات عدّة. لكنّ هذا الوضع لا يمكن تحمله ولا أحد يمكنه القول متى ستُفقد هذه الثقة أو متى سينهار النظام.
iThere are no comments
Add yours