قُوبلت الحركة الاحتجاجية، التي استمرت حوالى ستة أشهر سنة 2008، بالاستخدام المفرط للقوة من قبل قوات الأمن، مما أسفر عن مقتل ثلاثة محتجين، إضافة إلى الاعتقال التعسفي والتعذيب وغيره من ضروب المعاملة السيئة لعشرات الأشخاص، وأحكام مشددة بالسجن إثر محاكمات جائرة. وقد نالت الانتفاضة دعماً كبيراً من منظمات المجتمع المدني المحلية والمجتمع الدولي لحقوق الإنسان. وقامت منظمة العفو الدولية في ذلك الوقت، وغيرها من منظمات حقوق الإنسان التونسية والدولية، بتوثيق وإدانة الانتهاكات ضد المحتجين وطالبت بالإفراج عن جميع المُدانين بشكل تعسفي في محاكمات جائرة.
تعلقت محاكمة الأسبوع المنقضي بقضية القمع الأمني العنيف لانتفاضة الحوض المنجمي. وهي تكتسي أهمية بالغة لمسار العدالة الانتقالية في تونس، لأنها تعتبر أول فرصة حقيقية تتمتع فيها تونس حتى الآن بوضع حد للإفلات من العقاب بالنسبة لمرتكبي الانتهاكات الجسمية لحقوق الإنسان التي وقعت في الماضي. كما أن المحاكمة شكلت فرصة للمساعدة على استعادة الثقة في السلطة القضائية، التي كانت تعمل في ظل حكم بن علي كأداة للقمع، نظرا لما أصدرته من أحكام إدانة جائرة بالسجن ضد المشاركين في أهم حركة احتجاجية في تونس قبل انتفاضة ديسمبر 2010. وتعد هذه المحاكمة الأحدث ضمن سلسلة من المحاكمات بدأت في شهر ماي من هذه السنة، بعد أن أحالت هيئة الحقيقة والكرامة القضية إلى المحكمة، بوصفها جزءً من مسار العدالة الانتقالية في مرحلة ما بعد الثورة في تونس. ويذكر أنه إلى حد الآن قد أحالت االهيئة 260 ملفا قضائيا إلى 13 دائرة جنائية متخصصة في العدالة الانتقالية، والتي أنشئت للنظر في انتهاكات حقوق الإنسان من سنة 1955 إلى سنة 2013. ويتضمن ملف قضية الحوض المنجمي الذي أحالته الهيئة للدائرة المتخصصة في العدالة الانتقالية بالمحكمة الابتدائية بقفصة؛ 51 ضحية تعرضوا لانتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، و16 متهماً من بينهم الرئيس المخلوع بن علي ووزير الداخلية الأسبق وكبار المسؤولين الأمنيين.
أعرب كل من بشير العبيدي وعدنان الحاجي اللذين كانا في طليعة الاحتجاجات سنة 2008 عن خيبة أملهما في أن القضاة -الذين حاكموهما ظلماً وتجاهلوا آثار التعذيب على جسديهما ثم أعادوهما مرة أخرى إلى جلاديهما- لم يتم إدراجهم في قائمة المدّعى عليهم. كما أعربا للمحكمة عن شعورهما بالإحباط من أن 16 من المتهمين بالتورط في أعمال العنف ضد المحتجين، والتي أدت إلى مقتل ثلاثة وإصابة العشرات، لم يمثلوا أمام أنظار المحكمة، وحثا القاضي على إصدار أمر بحظر السفر وبطاقات جلب ضدهم لضمان عدم إتاحة فرصة لهم في الفرار، وهو ما قررته الدائرة القضائية اثر انتهاء المحاكمة. ورغم أن غياب المدّعَى عليهم وعدم توجيه تهم ارتكاب انتهاكات حقوق الإنسان ضدهم، يعد مشكلة بالفعل، فإن المحاكمة في حد ذاتها تعتبر نقطة تحول بالنسبة لتونس. لا يعتبر التصدي للانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان أمام القضاء أمراً ذو أهمية كبيرة لدى الضحايا وعائلاتهم فحسب، بل أيضاً لأولئك -ومن بينهم أعضاء منظمة العفو الدولية- الذين ناضلوا لسنوات من أجل حرية التعبير وحرية التجمع، ومن أجل الحقوق الاقتصادية والاجتماعية في قفصة وفي مناطق أخرى في تونس، وكذلك من أجل مساءلة الجناة وإحقاق العدالة للضحايا.
كان يوم الأربعاء أيضاً مهماً جداً بالنسبة لي، إذ لم يكن بالإمكان تصور القدرة على مراقبة المحاكمة قبل 10 سنوات، ناهيك عن سماع الضحايا يذكرون أسماء جلاديهم ويطالبون بتحقيق العدالة أمام القاضي دون أدنى خوف. ولعل الجلوس مع قادة الاحتجاجات والتحدث إليهم عن الكيفية التي أغلِقت بها مدينة قفصة والوجود الأمني المكثف لمنع المدافعين عنهم وأنصارهم من الوصول إلى المحكمة أيام المحاكمات سنة 2008، يجعل الأمل في العدالة أقوى، ويجعلها أيضا في حاجة إلى المزيد من الفعالية من أجل تحقيقها.
لا يكفي في تونس اليوم الاعتراف بقسوة الاضطهاد في الماضي، إذ لا يجب ألا تتوقف هذه المحاكمات وغيرها في بعدها الرمزي، وإنما يجب على السلطة القضائية تكثيف الجهود -بما في ذلك ضمان استدعاء المدعى عليهم إلى المحكمة- حتى تؤدي هذه الجلسات إلى محاكمة عادلة للمشتبه بهم في ارتكاب انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان في تونس، وتحقيق العدالة، وتعويض الضحايا وعائلاتهم. استمرار ظاهرة الإفلات من العقاب في انتهاكات حقوق الإنسان في تونس ما بعد 2011، وانعدام الإرادة السياسية لتحقيق المساءلة، هما أحد الأسباب الرئيسية لاستمرار انتهاكات حقوق الإنسان، على غرار التعذيب. والاختبار الحقيقي للعدالة الانتقالية يكمن في قدرتها على كسر دائرة الإفلات من العقاب في الانتهاكات الجسيمة التي ارتكبتها قوات الأمن كخطوة حاسمة لضمان عدم التكرار، وتحقيق الإنصاف للضحايا الذين انتظروا عقودًا من أجل الكشف عن الحقيقة وتحقيق العدالة.
بالتوازي مع هذا، تواصل السلطات التونسية بانتظام انتهاك الحق في حرية الاحتجاج السلمي، من خلال المضايقة القضائية والعقاب الجماعي للمحتجين سلمياً على الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية في الحوض المنجمي ومناطق أخرى. فقد شهدت نفس القاعة بالمحكمة الابتدائية بقفصة، طيلة السنوات الأربع الماضية، محاكمات غير عادلة في حق محتجين سلميين من منطقة الحوض المنجمي، قاموا بالاحتجاج على نفس القضايا التي أدت إلى انتفاضة 2008. ويجري الحكم على عشرات المحتجين غيابياً كل سنة بتهمة تعطيل حرية العمل بسبب مشاركتهم في مثل هذه الاحتجاجات.
إضافة إلى أن تحقيق العدالة يعني أيضاً الالتفات إلى التهميش التاريخي الممنهج للمناطق الداخلية في تونس. وعلى الرغم من الثروة التي يجلبها استخراج الفسفاط للبلاد، فإن قفصة ماتزال منطقة متخلفة تنمويا بالمقارنة مع المناطق الشمالية والساحلية. ومايزال سكان الحوض المنجمي يفتقرون إلى البنية التحتية، والخدمات الاجتماعية، مثل الحصول بشكل كاف على المياه الصالحة للشراب والرعاية الصحية، فضلاً عن الفرص الاقتصادية. يمكن تحقيق العدالة لضحايا القمع من خلال المحاكمات، إلا أن العدالة لقفصة لا يمكن أن تتحقق إلا عندما تضمن السلطات التونسية تحقيق المساواة في توفير الفرص الاقتصادية في المناطق المهمشة تاريخياً، والانتفاع الشامل للجميع بالخدمات العامة الأساسية، بما في ذلك المياه والرعاية الصحية.
iThere are no comments
Add yours