تحيي تونس اليوم الذكرى 62 لإمضاء اتفاقيّة استقلالها التّام في 20 مارس 1956 عقب الاتفاقيّة التمهيديّة في 03 جوان 1955 التّي تُعرف باتفاقيّة الاستقلال الداخلي. وقد فرضت حكومات ما بعد الاستقلال وما قبل جانفي 2011، ستارا حديديّا على بنود وتفاصيل هذه الاتفاقيّات لتختزل الحدث في صور بكماء لاحتفاليّات سنويّة نمطيّة ورواية رسميّة مقتضبة وعامّة لتاريخ انتقائيّ كَيّفه المؤرّخون ليكون على هوى المجاهد الأكبر ورجاله. لكنّ التغيير السياسي الذّي شهدته البلاد في 14 جانفي 2011، وهامش الحريّة الذّي فرضه الشارع وما انبثق عنه من هيئات، استطاع أن يطرح هذه المسألة للنقاش العام ويعيد الجدل حول أهمّ القضايا المسكوت عنها لعقود.
تحصين الإرث الاستعماري
على غرار قضيّة الصراع اليوسفي البورقيبي، أو الرواية الأخرى لمعركة بنزرت، خلقت هيئة الحقيقة والكرامة مرّة أخرى جدلا واسعا في المشهد السياسيّ وفي صفوف المؤرّخين وهي تعلن كشفها للفصول المخفيّة من اتفاقيات الاستقلال الداخليّ والاستقلال التام. فصول تمحورت معظمها حول الحفاظ على امتيازات الشركات الفرنسيّة في استغلال الثروات الباطنيّة التونسيّة، أو بمعنى آخر، تكليف حكومات ما بعد الاستقلال بحراسة مراكز النفوذ الاقتصاديّ لفرنسا في سياق تاريخيّ ودوليّ استحال معه استمرار أشكال الهيمنة التقليديّة والاستعمار العسكريّ المباشر أمام موجات التحرّر الوطنيّة لشعوب قارّات الجنوب.
الوثائق التّي نشرتها الهيئة، لم تقتصر على الاتفاقيّات الممضاة بين تونس والحكومة الفرنسيّة إبّان الاستعمار العسكريّ المباشر، والتّي تضمّنت تكوين شركات منحتها حقوق استغلال الحقول النفطيّة والمقاطع في إطار لزمات أو عقود استغلال أو رُخص تفتيش وتحديد قيمة أتاوات استغلال واستصدار الأوامر العليا من الباي لمنح امتيازات زمنية تناهز 99 سنة أو إحداث تدابير خصوصيّة للشركات الفرنسيّة لتسهيل التنقيب عن المواد المعدنيّة. بل سعت سلطات الاستعمار الفرنسيّ إلى تحصين إرثها الاستعماري في عهد دولة الاستقلال عبر فرض الإبقاء على الفصلين 33 و34 الواردين في اتفاقيّة الاستقلال الداخلي في 03 جوان 1955 في معاهدة الاستقلال التام في 20 مارس 1956 واللذّين ينصّان تباعا على:
التزام الدولة التونسيّة بمنح حقّ الأفضليّة للمشاريع الفرنسيّة عند تساوي الشروط للحصول “على رُخص التفتيش والاستثمار وعلى اللزم. الفصل 33
– عدم قدرة الدولة التونسيّة على تغيير آجال اللزمات والاتّفاقيات ورُخص التفتيش والاستثمار المبرمة أو الممنوحة إلاّ بموافقة الطرف الفرنسي. الفصل 34
هذه البنود التّي فرضا الفرنسيّون إبّان مفاوضات إعلان الاستقلال التام، ستلقي بضلالها وفق الوثائق المنشورة من قبل هيئة الحقيقة والكرامة على سيطرة الدولة الحديثة على مواردها الطبيعيّة والماليّة. حيث يفيد محضر جلسة الوزير الأوّل التونسي وسفير فرنسا أنّ إنتاج الحقول النفطيّة التونسيّة خلال سنة 1971 قد بلغ 4 مليون طن، ما يعادل 30.4 مليون برميل، في حين لم تتجاوز مداخيل الدولة التونسيّة من النفط خلال نفس الفترة 300 مليون فرنك فرنسي أي ما يعادل 550 ألف دولار أمريكي، بمعدّل 0.2 دولار للبرميل الواحد، رغم أنّ سعر برميل البترول سنة 1971 كان في حدود 3.6 دولار، أي أن المردوديّة لم تتجاوز 6%.
السطوة الفرنسيّة على القرار التونسيّ في مجال التصرّف في الطاقة، تجاوز الثروات المحليّة ليشمل إقصاء تونس من المحادثات مع الطرف الجزائري حول استغلال الأراضي التونسيّة لنقل البترول من الجزائر. وقد انتهت تلك المفاوضات إلى فرض اتّفاقيّة مع البلاد التونسيّة سنة 1958 لمدّ أكثر من 510 كلم من إجمالي 775 كلم مربّع من قنوات نقل البترول من ”عين أميناس“ بالجزائر إلى ميناء الصخيرة وفق عمولات حدّدها الطرف الفرنسي منفردا.
جدل مصادرة التأريخ
الخطوة التّي أقدمت عليها هيئة الحقيقة والكرامة استنفرت الجانب الفرنسيّ الذّي سعى عبر سفارته في تونس إلى التأكيد على أنّ الفرنسيّين يتعاملون بشكل شفاف بخصوص هذه المسألة وأنّهم لا يحاولون إخفاء اتفاقيات الحقبة الاستعماريّة بدليل تمكينهم الهيئة من عدد منها، وأنّ ”الشراكة الاقتصادية بين فرنسا وتونس اليوم مغايرة تماما ولم تعد تخضع لمنطق الماضي ولا توجد أيّة مؤسسة فرنسية تتمتع بشروط تفضيلية أو بحقوق خاصة لاستغلال الموارد الطبيعية في تونس“. أما بخصوص قضيّة “كوتوزال”، فاعتبرت السفارة الفرنسيّة أنّ هذه الشركة الفرنسيّة-التونسيّة ”تعمل في إطار احترام القانون وتسدد الضرائب والرسوم الجبائية المعمول بها.“
الوثائق المنشورة لم تستفزّ الفرنسيّين فحسب، بل انتقلت بالنقاش إلى مستوى آخر، أبطاله من المؤرّخين. المعسكر الأوّل من هؤلاء وعلى رأسهم خالد عبيد المؤرخ الجامعي المختص في التاريخ السياسي المعاصر الذّي سارع من خلال تصريحات صحفيّة إلى إدانة ما نشرته هيئة الحقيقة والكرامة واصفا إياه ”محاولات تزييف من شأنها تقسيم التونسيين وتوظيف التاريخ في صراعات جانبية سياسوية“، ليؤكّد أنّه ”ضد توظيف التاريخ” و”نشر الأكاذيب والأراجيف التي من شأنها إشاعة ثقافة الحقد والكراهية وتقسيم التونسيين“. تصريحات لقت استحسان قصر قرطاج، ليعمد رئيس الجمهوريّة الباجي قائد السبسي إلى استقباله بعد 24 ساعة من نشر بيان هيئة الحقيقة والكرامة ليعيد على مسامعه سرديّة ”وحدة التاريخ التونسيّ“ أو بمعنى آخر أحاديّة الرواية الرسميّة للتاريخ التونسيّ. في المقابل، فنّد المؤرّخ عبد الجليل التميمي تصريحات خالد عبيد ليؤكّد في تصريح إذاعي صحّة الوثائق المنشورة والتّي تولّت مؤسّسته التثبّت منها ودراستها. وقد حمّل هذا الأخير القيادة السياسية التي وقعت على وثيقة الاستقلال مسؤوليّة التفويت في الموارد الباطنية للدولة التونسية على غرار الملح والنفط.
ملفّ كوتوزال مرّة أخرى
أشارت الوثائق التّي نشرتها هيئة الحقيقة والكرامة إلى وضعيّة الشركة العامة للملاحات التونسية كوتوزال. هذا الملّف الذّي طُرح لأوّل مرّة خلال جلسة تنصيب مهدي جمعة رئيسا للحكومة في جانفي 2014، ظلّ يُراوح مكانه رغم الضغط السياسيّ والاعلاميّ لمراجعة عقد الاستغلال وتحسين بنوده. وقد نشرت نواة في سلسلة من المقالات والتحقيقات منذ سنة 2015 وثائق تفصيليّة تتضمّن نسخة من المرسوم الممضى من قبل محمد الأمين باي والمقيم العام الفرنسي في تونس جان مونس بتاريخ 06 أكتوبر 1949 والذّي يعلن اندماج أربع شركات تستغلّ ملاّحات خنيس، سيدى سالم، صفاقس (طينة) ومقرين وفق مرسوم 6 أكتوبر 1949. هذه الاتفاقيّة تبعتها ملاحق تحدّد حجم الأراضي المستغلّة ومدّة الاستغلال التي تمّ تحديدها بـ50 سنة قابلة للتجديد إلى 15 سنة إضافيّة يتمّ تجديدها بشكل آلي إذا ما لم يُطلب من الشركة إنهاء الامتياز. كما تتضمّن الوثيقة المذكورة العائد المالي من استغلال الأراضي التونسيّة والتي حدّدتها الفقرة الثانية من المادة 11:
سداد حقوق استغلال الأملاك العامة بقيمة 1 فرنك للهكتار الواحد سنويا لجميع المناطق التي تشملها رسوم الامتياز للمجال العام.
كما نشرت نواة في 12 أكتوبر 2017، فصول اتفاق 03 جوان 1955 للاستقلال الداخلي التّي تضمن مصالح الشركات الفرنسية بعد الاستقلال. حيث تمّ التنصيص في الفصول 28،29، 30، 31 و32 على التزام الدولة التونسيّة بالحفاظ على الوضعيات القانونيّة للشركات الفرنسيّة في تونس والتعهّد بعدم إجراء أيّ تعديلات للعقود المبرمة أو التدخّل بالقوّة العامّة في شؤون تلك المؤسّسات أو المسّ من امتيازاتها. كما تتعهد الدولة التونسيّة بعدمّ المسّ بالاستثمارات الفرنسيّة أو مراجعة رخص التنقيب والاستغلال إلاّ بموافقة الطرف الفرنسي.
من جهتها، اعتبرت كوتوزال أنّها لا تتحمّل مسؤوليّة عدم تعديل اتفاقيّة الاستغلال، حيث طالبت منذ سنة 2006 إلى حدود سنة 2014 بمراجعة بنود الاتفاقيّة إلاّ انّها جوبهت بتجاهل السلطات التونسيّة ممّا أجبرها على مواصلة التعامل وفق مرسوم 06 أكتوبر 1949.
ملفّ استغلال الثروات الباطنيّة التونسيّة، لم يقتصر على شركة كوتوزال، بل نشرت نواة العديد من التحقيقات التّي ما تزال من القضايا المسكوت عنها على غرار آليات إبرام عقود الاستغلال وامتيازات التنقيب الممنوحة للشركات الأجنبيّة وشركة بوشمّاوي النفطيّة وقضيّة منجم سراورتان، إضافة إلى ملفّ الغاز الصخري الذّي مازال يثير جدلا واسعا في أوساط المجتمع المدني والجمعيات البيئيّة.
بعد 62 سنة: فرنسا ليست اللاعب الوحيد
يتحدّث فرانز فانون في كتابه ”معذّبو الأرض“ عن وهم الإستقلال قائلا:
إن الأشكال الوحشية التي يجسّدها وجود المحتّل على الأرض قد تزول زوالا تامّا. والواقع أن زوالها هذا لا يعدو كونه تخفيضا للنفقات التي ينفقها المحتّل، ولا يعدو كونه إجراء إيجابيّا من أجل الحيلولة دون بعثرة قواه. ولكن الشعب الخاضع للاستعمار لا يلبث أن يدفع ثمن ذلك باهظا، يدفع ثمنه مزيدا من تحكّم الاستعمار وتلاعبه بمصيره.
في الذكرى 62 للاستقلال، أصبح طرح مسألة السيادة الوطنيّة حاجّة ملّحة في ضوء التغييرات الجيوسياسيّة التّي أدّت إلى تهافت القوى الدولية على المنطقة، ليتحوّل المتوسّط إلى ساحة حرب وتنافس بين أصحاب المصالح المختلفة. هذا البحر المطلّ على أهمّ مخزونات الطاقة ومعابر تصديرها، يزدحم اليوم باللاعبين الكبار الذّين جعلوا من تونس ساحة لاختبارات موازين القوى وقواعد خلفيّة لمعاركهم المحتملة. بدءا بالنفوذ المالي للمانحين الدوليين والإقليميّين والاستجابة الكاملة والغير مشروطة لبرامج الإصلاح الاقتصاديّة المسقطة من هيئات النقد الدوليّة مرورا بالانصياع التام لجزرة الهبات الخليجيّة والانخراط في التحالفات السياسية والعسكرية وتشكيل جبهات الصراع السياسيّ المحليّ. انتهاءا بما كشفته نواة في شهر مارس 2015 عن فحوى الاتفاق بين الحكومة التونسيّة ونظيرتها الأمريكيّة بخصوص تمكين أفراد الجيش الأمريكيّ من التواجد على الأراضي التونسية وتقديم كلّ التسهيلات اللوجستيّة الممكنة. في الأثناء لا تبدي القوى السياسيّة التونسيّة مقاومة تذكر أمام الاستلاب التدريجيّ لقرارها السياسيّ وسيادة البلد، لتنخرط بدورها في منطق تجارة المواقف والاصطفاف السياسيّ في لعبة الرقص مع الذئاب دون أن تأخذ بالحسبان ميعاد انتهاء الوصلة.
مقال جميل . و السفير الفرنسي حديثه يضحك . شيء طبيعي أن فرنسا تتعامل مع تونس بكل شفافيۃ .. الوثاءق تكتب و كل دولۃ تمضي.. واحد يمضي باش يربح و الآخر يمضي علی قصان رأسه .. هل غابت الشفافيۃ هنا ؟ لم تغب أبدا .. الأمر لم يتعلق بالشفافيۃ .. الأمر يتعلق بعدالۃ الإتفاقيات .. الكلام يطول هنا . و الجانب الفرنسي يعرف أكثر من الجانب التونسي الذي أمضی معه الإتفاقيات أن الأمر فيه هيمنۃ إستعماريۃ .. و حكومۃ أو نظام تحت الإستعمار لا يحق له رهن البلاد .. العقل يقول أن بعد الثورۃ كل ما صنع تحت عهد الإستعمار و تحت عهد الديكتاتوريۃ يسقط .. كيف يمكن أن نعيد النظر في تلك الإتفاقيات حتی تكون أكثر عدالۃ و تشرف قيم الثورۃ الفرنسيۃ و قيم الثورۃ التونسيۃ و تدفع لبناء عالم شراكۃ جديد من أجل الشعوب ؟ ذلك أمر آخر . و النقاش و الحوار و التفاوض يبقوا مفتوحين .. الشعبان ليس فيهم شعب عدو للآخر , النظامان أيضا.. نحن نعيش في عالم مفتوح .. عار علی دول تتشدق بحقوق الإنسان و حق الشعوب في تقرير المصير ثم تبقي علی إتفاقيات مثل تلك .. الكلام يطول و نتمنی الخير لكل شعوب العالم . بن علي هرب . يحيا الشعب التونسي.
اللي ما فهمتوش هو كيفاش بورقيبة يطالب بجلاء فرنسا من بنزرت و يخوض حرب خاسرة في 61 و من بعد يقوم بتأميم الأراضي الزراعية عام 1962 و يخلي ها الإمتيازات الغريبة للشركات الفرنسية و الأدهى و الأمر كيفاش فرنسا تسلم في الفوسفاط و حقول الكروم وتخلي الملح الحكاية فيها واو
المحاسبة