في الوقت الذي تستعد فيه تونس لاستضافة الندوة الدولية للاستثمار أواخر الشهر الجاري، تسارعت وتيرة الزيارات المتبادلة بين كبار المسؤولين التونسيين والأوروبيين ومنها خاصة الزيارة الأخيرة التي أدّاها إلى باريس رئيس الحكومة يوسف الشاهد وقبلها الزيارة التي أدتها إلى تونس الممثلة السامية للاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية والأمنية فريديركا موغيريني في إطار الاعداد لانعقاد القمة الأوروبية التونسية مطلع شهر ديسمبر القادم ببروكسال.
هذه المواعيد الهامة، في سياق العلاقات بين تونس وشركائها الاستراتجيين في أوروبا، تستحق التوقف عندها تمعنا وتحليلا، لاسيما في ظل الآمال العريضة المعلقة عليها من قبل المسؤولين التونسين لإعادة دفع حركيّة الاستثمار المعطلة منذ سنوات والتخفيف من وطأة أزمة المديونية والأزمة الاقتصادية والمالية.
وقد جاءت تصريحات المسؤولين الفرنسيين والأوروبيين كعادتها معبّرة عن الاستعداد للمساعدة على إنجاح التجربة الديمقراطية بتونس والمساهمة في تفعيل ندوة الاستثمار من خلال المساهمة فيها و التسويق لها، كما تمت إعادة التأكيد على ما أعلن عنه سابقا بخصوص تكثيف المساعدات المالية لتونس.
هل حصل تحول في موقف الاتحاد الاوروبي ازاء تونس؟
وفيما يتعلق بالعلاقات مع الاتحاد الأوروبي تجدر الإشارة إلى تصريحات المسؤولة الأوروبية للشؤون الخارجية والأمنية المؤكدة على عزم الجانب الأوروبي على تعزيز الدعم المالي لتونس مضيفة أن دول الاتحاد مجمعة على إسناد تونس وضع «الشريك المميّز والخاص». ولكنها لم تبيّن بدقة ماهيّة ولا مضامين هذه المكانة المميّزة والخاصة المزمع منحها إلى تونس وهل هي مختلفة عن المفهوم القديم المتعارف عليه للشراكة المميّزة وهو يعني وفقا للمنظور الأوروبي استكمال منطقة التبادل الحر مع تونس من خلال إبرام إتفاق التبادل الحر الشامل والمعمّق المثير للجدل.
ويجدر التذكير بأن هذا الاتفاق الجاري التفاوض بشأنه هو آخر حلقة في سلسلة الاتفاقيات الموقعة بين تونس والمجموعة الأوروبية بعد الاستقلال، انطلاقا من اتفاق «المشاركة» لسنة 1969 ثم اتفاق التعاون المبرم سنة 1976، فاتفاق التبادل الحر للسلع الصناعية الممضى سنة 1995 الذي يمهّد لبناء سوق اوروبية تونسية مشتركة تؤدي لإدماج كلي للاقتصاد التونسي في الفضاء الأوروبي من خلال توسيع منطقة التجارة الحرة إلى كافة أصناف السلع غير الصناعية و كذلك السماح للمستثمرين ورؤوس الأموال الأوروبية بحرّية العمل في كافة أوجه النشاط الاقتصادي الصناعي والفلاحي والخدماتي إلى جانب حق الإقامة والتملّك وحرّية الحركة والسفر.
و هكذا يتضح ان اتفاق التبادل الحر الشامل و المعمق يختلف كليا عن سابقيه من حيث انه لا يقتصر على توسيع دائرة التبادل التجاري الى كافة المنتجات الصناعية و الزراعية و الخدماتية، و لكنه يتكامل مع مجلة تشجيع الاستثمار ليفتح سوق الشغل و كافة مجالات الانشطة الاقتصادية امام المستثمرين الاوروبيين بما يؤدي فعليا الى اقامة سوق تونسية اوروبية مشتركة.
خلفية علاقات تونس غير المتكافئة مع الاتحاد الأوروبي
وكان من المفترض ألا يثير هذا الاتفاق تحفظات من الجانب التونسي طالما أنه يندرج في إطار التبادلية ويفتح بالتالي المجال أمام الشركات والمستثمرين التونسيين للاستفادة بنفس الامتيازات في الأسواق الأوروبية الشاسعة إلاّ أنه يطرح في واقع الأمر اشكاليات عديدة من أهمها أنه لا يأخذ بعين الاعتبار الفوارق الشاسعة في مستويات التنمية الصناعية والعلمية والتكنولوجية وكذلك محدودية الطاقات الانتاجية التونسية التي تجعل تونس غير قادرة فعليا وواقعيا على الاستفادة من السوق الأوروبية على النحو المطلوب كما أثبتته التجربة مع اتفاق 1995 الذي أفضى على العكس إلى مزيد تعميق العجز في الميزان التجاري وميزان المدفوعات وإرتفاع المديونية التونسية إلى مستويات قياسية فضلا عن مساهمته في تدمير جزء هام من النسيج الصناعي والإنتاجي التونسي.
وهذا ما يفسّر موقف الأطراف التونسية التي تدعو إلى عدم المضي في توسيع التبادل الحر مع أوروبا قبل إجراء تقييم شامل لحصيلة اتفاق 1995 كما تطالب بمراجعة جذرية لكافة الاتفاقيات المنظمة لمسيرة العلاقات بين تونس والمجموعة الأوروبية منذ الاستقلال للوقوف على الاخلالات الهيكليّة والأسباب العميقة الكامنة وراء فشل هذه الأطر القانونية في بناء تعاون وشراكة حقيقية ومتوازنة ومفيدة للجانبين.
ولعلّ من أبرز العوامل التي تفسر هذه الحصيلة السلبية للعلاقات و للتعاون التونسي الفرنسي ألأوروبي، إلى جانب التفاوت في مستويات التنمية، الطابع غير المتوازن لاتفاقيات الشراكة والتعاون والتبادل التجاري المذكورة من حيث تضمنها لضمانات وامتيازات تفاضلية عديدة لفائدة المستثمرين الأوروبيين لتحفيزهم على نقل أنشطتهم وتوسيعها بتونس بحجة توفير مواطن الشغل وهي نفس المقاربة، المغلوطة في تقديري، التي تم اعتمادها بعد الاستقلال بقانون 1972 لتشجيع الصادرات الصناعية الأجنبية وكافة التشريعات المماثلة وآخرها مجلة الاستثمار التي تم إقرارها مؤخرا في إطار «الاصلاحات الهيكلية» المتفق عليها مع صندوق النقد الدولي.
و في حقيقة الأمر إن هذه القوانين، التي تراهن على الاستثمارات الأجنبية كمحرّك أساسي للتنمية بتونس منذ أكثر من أربعين سنة، تتكامل مع اتفاقيات التبادل الحر التجاري الموقعة او الجاري التفاوض بشأنها، لتشكل الركائز الأساسية لما يسمّى بالمنوال التنموي الذي إنخرطت بموجبه تونس منذ اكثر من اربعين سنة في منظومة اقتصاد السوق والعولمة الاقتصادية السائدة منذ مطلع الثمانينات كأسلوب وحيد لإدارة الشأن الاقتصادي على المستوى الدولي.
منظومة الامتيازات الخاصة للأجانب (système des capitulations) هو مفهوم موروث عن الحقبة الاستعمارية
وفي واقع الأمر إن نظام الحوافز و الاستثناءات الخاصة بالأجانب موروث عن منظومة الامتيازات الخاصة بالأوروبيين التي منحت بموجبها الامبراطورية العثمانية لمواطني الجاليات الفرنسية و الاوروبية امتيازات و اعفاءات استثنائية، وقد تم تطبيقها بتونس بضغط من فرنسا قبل الاحتلال المباشر ثم وقع تقنينها بادراجها في وثيقة عهد الأمان لسنة 1857 و كذلك دستور 1861 المتضمنين لبنود عديدة تتعلق بمنح إمتيازات وضمانات وحقوق خاصة للفرنسيين والأجانب من مواطني البلدان الأوروبية الذين كانوا قد هيمنوا على مفاصل الاقتصاد التونسي وعلى قطاعاته الحيوية في مجال الصناعة والفلاحة والتجارة الداخلية والخارجية.
و إذا كانت تركيا، بعد انهيار الامبراطورية العثمانية و اقامة الدولة التركية الوطنية الحديثة قد الغت هذه المنظومة باعتبار انها تمس من سيادتها، فان تونس قبلت بادراجها باتفاقيات الحكم الذاتي الموقعة سنة 1955 القائمة على مبدأ الحفاظ عل الاوضاع الاقتصادية المهيمنة للفرنسيين دون تغيير و كذلك منحهم استثناءات و ضمانات عديدة بما فيها عدم الخضوع للقوانين التونسية…
لكنه تبين من خلال التجربة التونسية و غيرها ان المزج بين التبادل الحر غير المتكافئ ونظام الأوفشور و الحوافز الاستثنائية لفائدة الأجانب لا يشكل منوالا للتنمية بل يخلق ازدواجية اقتصادية مدمرة للصناعات و للقطاعات الانتاجية التونسية خاصة وان المستثمر الأجنبي غير مطالب بالاندماج في البرامج و الأولويات التنموية الوطنية. كما انه عادة ما يستغل تفوقه العلمي و التكنولوجي و حاجة تونس الى التمويلات الخارجية لتكريس تبعيتها و مصادرة استقلالية قرارها السياسي و الاقتصادي فضلا عن توسيع نطاق سطوته على القطاعات الاقتصادية الاكثر ربحية و مردودية وهو ما حصل مع تونس.
و هكذا يتضح ان الانفتاح الاقتصادي التونسي لم يكن مدروسا بل كان سابقا لأوانه لانه تمّ دون أن تكتسب تونس، على غرار الدول الصاعدة، مقومات الدولة الصناعية المتطورة ذاتيا من الناحية العلمية والتكنولوجية، بسبب تخليها المبكر عن الخيارات الاستراتيجية التي تم إقرارها مطلع الستينات في اطار الآفاق العشرية للتنمية والقاضية ببناء منظومة انتاجية وطنية صناعية وفلاحية عصرية ومتطورة. و قد حل محله خيار الليبرالية الاقتصادية والسعي لاستقطاب الاستثمارات الأجنبية كأولوية قصوى والعمل على تحفيزها بسياسة الاعفاءات الضريبية العبثية والإغراءات المختلفة المتسعة باستمرار بما فيها الدعم المالي والسماح للصناعات «المصدرة كليا» ببيع نصف منتوجها بالأسواق التونسية.
ضرورة التعمق في الجذور التاريخية للعلاقات غير المتوازنة مع اوروبا
و اعتبارا لما سبق ذكره ارتأيت ان احاول انطلاقا من هذا المقال ان أغوص في الجذور التاريخية للعلاقات غير المكافئة بين تونس وشركائها الأوروبيين التي ثبت أنها تعود إلى ما قبل إقرار الحماية بفترة طويلة، وقد كانت تستند إلى مبدأين أساسيين هما التبادل الحر وحرية النشاط الاقتصادي في كافة القطاعات الاقتصادية لفائدة الأجانب وهي الأسس التي نجدها اليوم حاضرة بقوّة في اتفاق التبادل الحر الشامل والعمّق والقانون الجديد للاستثمار.
وهكذا وجدت تونس نفسها فترة طويلة قبل الاستقلال محشورة في إطار توزيع دولي غير عادل للأدوار الاقتصادية يجعل منها دولة متخلفة أبديا من الناحيتين الصناعية والتكنولوجية وكذلك غير قادرة على تحقيق استقلالها الاقتصادي و بناء منظومة انتاجية تخول لها الاستفادة من التبادل الحر على غرار الدول الصناعية الصاعدة. و هذا الواقع المرير هو نتيجة حتمية لقبولها بالاكتفاء بدور الورشة الصناعية المرتبط مصيرها بمدى اقبال الاستثمارات الغربية عليها لاستغلال أياديها العاملة الرخيصة وثرواتها الطبيعية والطاقية والهيمنة على أسواقها التجارية وقطاعاتها الاقتصادية ذات الربحية المرتفعة وكل ذلك استنادا إلى اتفاقيات وأطر قانونية غير منصفة وغير عادلة.
سأكتفي في اطار هذا الجزء الأول بتسليط الأضواء على اتفاقيات الحكم الذاتي المبرمة سنة 1955 التي أدرجت كوثيقة مرجعية في بروتوكول 20 مارس 1956 للاستقلال التام الذي لم يكن في واقع الأمر سوى إعلان مبادئ يرتبط تجسيده على أرض الواقع بمفاوضات تفصيلية لاحقة تتعلق بنقل مقومات السيادة إلى تونس بصفة مرحلية ومجزأة.
الامتيازات والضمانات الاستثنائية الممنوحة للأجانب في إتفاقيات الحكم الذاتي لسنة 1955
منذ أن تحصلت تونس، بموجب بروتوكول 20 مارس 1956 على الاستقلال، كان عليها أن تخوض مفاوضات ومعارك مضنية مع فرنسا إستمرت قرابة العشر سنوات سعيا لتجسيد البرتوكول المذكور في حدوده الدنيا على أرض الواقع علما أنه لم يكن في واقع الأمر سوى مجرد إعلان نوايا ينص على إجراء مفاوضات لاحقة لترجمة هذه المبادئ إلى اتفاقيات مفصلة تنقل بموجبها مقومات الاستقلال الفعلية إلى تونس مع الإبقاء على علاقات خاصة مع فرنسا عملا بمبدأ التكافل و”التبعية المتبادلة” الوارد ذكره أيضا بوثيقة الاستقلال.
كما ينص بروتوكول 20 مارس على الإبقاء على بروتوكولات الحكم الداخلي الموقعة بتاريخ 3 جوان 1955 سارية المفعول على أن يقع التفاوض لاحقا بين الطرفين للنظر في تنقيح أو حذف البنود الواردة فيها التي «قد تكون متعارضة» مع مبدأ الاستقلال.
وللتذكير فقد تسببت هذه البرتوكولات في خلافات حادة صلب الحركة الوطنية بين الشق المساند لها بزعامة الحبيب بورقيبة والشق المعارض لها بزعامة صالح بن يوسف الذي كان ينادي بضرورة الاستمرار في الكفاح ضد فرنسا إلى غاية الحصول على الاستقلال التام الحقيقي رافضا القبول بوثيقة الحكم الذاتي لاسيما وأنها تبقي على اتفاقية الحماية لسنة 1881 سارية المفعول، فضلا عن كونها تبقي على الهيمنة الاقتصادية الفرنسية وتعطي ضمانات إلى الفرنسيين والأجانب بعدم المساس بأوضاعهم المكتسبة في ظل الاحتلال والحماية الفرنسية.
وتجدر الإشارة الى أنه لدى التفاوض مع تونس حول اتفاقيات الحكم الذاتي كانت فرنسا حريصة على ضمان استمرارية موقعها الاقتصادي المهمين والمتميّز في القطاعات الحيوية كالصناعة والفلاحة وغيرها، كما سعت إلى إسناد ضمانات خاصة بالأجانب من ذوي الجنسية الأوروبية الفاعلين أيضا بقوّة في الدورة الاقتصادية للبلاد. ومن أبرز الضمانات الاقتصادية الموكولة للأجانب إقرار مبدأ مساواة الأجنبي بالتونسي في ممارسة الحريات الاقتصادية والمهنية والاجتماعية دون قيود أو حدود وهو نفس المبدأ الوارد في قانون الاستثمار الجديد الذي تم إقراره أخيرا وكذلك في إتفاق التبادل الحر الشامل والمعمّق الجاري التفاوض حوله مع الاتحاد الأوروبي.
ومن ضمن الحقوق والضمانات الممنوحة أيضا للأجانب وتم لاحقا إدراجها بقانون 1972 والقوانين المحفزة للاستثمار الأجنبي حرية تحويل الأرباح وملكية الأرض بالدينار الرمزي وعدم الخضوع للقانون التونسي لحل الخلافات والضمان بعدم المصادرة والتأميم…
وهكذا يتضح أن تونس أخفقت في التخلص من تبعيتها إزاء الاستعمار الاقتصادي الفرنسي و تبعيتها المفرطة ازاء رؤوس الأموال والاستثمارات الخارجية التي كانت من ضمن الأهداف الاستراتيجية للآفاق العشرية للتنمية لمرحلة الستينات وهي إزالة الاحتلال الاقتصادي من خلال بناء منظومة إنتاجية وطنية عصرية صناعية وفلاحية لتعويض الهيمنة الفرنسية والأجنبية على هذه القطاعات الاستراتيجية.
كما فشلت تونس في إدماج الاستثمارات الأجنبية في الدورة الاقتصادية المحلية بما يجعلها في خدمة الأهداف التنموية التونسية بل أن رؤوس الأموال الأجنبية ظلت تعمل على هامش الاقتصاد الوطني المتخلف علميا وتكنولوجيا كما حافظت فرنسا و الدول الاوروبية على ضمان استمرارهذا التفوق لتأبيد هيمنتها واستغلالها للأجزاء وللقطاعات الأكثر ربحية.
وفي الجزء الثاني من هذه السلسلة من المقالات، سنتطرق باكثر تفصيل للجذور التاريخية لهذه السطوة الاقتصادية الغربية على تونس التي تعود في واقع الأمر إلى بداية القرن التاسع عشر وتحديدا الفترة الموالية لاحتلال فرنسا للجزائر وشروعها في تنفيذ مخططاتها التوسعية و الاستعمارية بالمنطقة.
iThere are no comments
Add yours