فنّ الرّسم من أهمّ الفنون التي تجعلنا ننقطع عن رداءة العالم المحسوس، إذ يكفي أن يقف المرء أمام لوحةٍ ليجد نفسه هائما في عوالم مُتَخَيَّلَةٍ. و هذه هي نقطة إلتقاء الرّسم – في أحد جوانبه على الأقلّ – مع جوهر الفلسفة الأفلاطونيّة للبحث عن الذّات و معرفة حقيقة “الأنا” إذ أنّ أفلاطون يعتبر أنّ الحقيقة كامنة في عالم المثل و لبلوغها لابدّ من القطع مع كلّ محسوس؛ تماما كاٌلمُتَلَقِّي أمام اللّوحة فهو يَلِجُ إلى أدقّ تفاصيلها فتتحوّل بذلك إلى جسر يربطه مع عالم الرسّام أين تقبع مجموعة من الألغاز و الأسرار التي تنتظر من يقتحمها بعد القطع مع كلّ ما يحيط بنا. يجد المشاهد نفسه مرغما على إتّباع هذا التمشّي الذي لا يمثّل في واقع الأمر سوى ذلك الأثر السحريّ لللّوحة على المُشَاهِدِ. و لوحات حسام الدين سعاف تحملنا إلى عوالم مشابهة و أخرى مختلفة تماما. فعند التّمعن في أعماله، نلاحظ أنّ أكثر من لوحة تحرّك فينا تلك الرغبة في تحقير الجسد و تنزع بنا نحو التعالي عن كلّ محسوس. ههنا يتحوّل الجسد إلى “قبر النّفس” بعبارة أفلاطون. هذه الفكرة الأفلاطونيّة تبدو حاضرة في عدد من أعمال سعاف أو ربّما هي فكرة تُثَارُ دون أن يقصدها الرسّام. و تتداخل المشاعر أمام قتامة الرّسوم و سرعان ما يتحوّل الأمر لتصبح حيرة المشاهد مزدوجة : توهان في عالم الرسام السورياليّ من جهة و عجز عن فكّ لغز بعض اللّوحات و عدم القدرة على الإلمام بكلّ تفاصيلها من جهة أخرى.
اُلتِّيه
هرب من الواقع ؟ نسيان كلّ المحيطين بنا ؟
كلّها “عوارض” مُنْتَظَرَة إذا ما دخلنا و زُجَّ بِنَا ـ لا إراديّا ـ في عوالم سعاف الذي يُقْحِمُنَا في عالم نعجز عن تصنيفه. يظلّ المتمعّن في الرّسوم في حالة تيه أزليّ فيجد نفسه غير قادرٍ لا على الإستيعاب و الإندماج في المُتَخَيَلِ و لا على التّراجع إلى الحقيقة. شيء ما في هذه الأعمال يجعلنا نتأرجح بين المتخيّل تارة و الواقع طورا. يرسم حسام الدين عالما مجهولا لا نستطيع تتبّعه أو رصد ملامحه بدقّة لذلك قد تختلط علينا الأمور في بعض الأحيان و نحاول تقريب الصّور و مقارنتها بعالمنا الواقعي، لكن دون جدوى.
اٌلعجز
ما الذي تخبرنا به أعمال حسام الدين سعاف ؟
من الصّعب العثور على إجابة دقيقة لهذا السّؤال ذلك أنّ الرّسام إختار أن لا يعنون لوحاته و هو ما يفتح المجال واسعا أمام تدفّق عددٍ هائلٍ من التّأويلات، كما يؤدّي الإمتناع عن العنونة إلى إلقاء مسؤوليّة إستيعاب الرّسوم و تفكيكها على على كاهل المتلقّي. و يلاحظ المتمعّن في أعمال سعاف إيغالها في الإلغاز و يألف جانبها المظلم، فإنعدام الألوان مع غياب شبه كلّي للمساحات البيضاء يجعل كلّ التّركيز منصبًّا على السّواد الطاغي ( بمختلف درجاته ) في جلّ اللّوحات. تنشأ علاقة بين المشاهد و هذه اللّوحات القاتمة، علاقة تقوم على تفاعل ثنائيٍّ إذ يورّطنا الرسّام في عدميّة عالمه، نحسّ وجوده في البداية و مع االتوغّل في هذا العالم تتلاشى كلّ ملامح المألوف لِنُتْرَكَنا في مجابهة التّيه. هذه القتامة و الإنتصار للظّلمة تضفي بعدًا جماليًّا خاصًّا على الرّسومات. فيقف المشاهد منبهرا أمام أجساد مشوّهة و مواقف ذات بعد عجائبيّ تصدمنا منذ الوهلة الأولى ثمّ نعتادها رغم عجزنا عن العثور على تأويلات تجيب عن تساؤلاتنا المتعدّدة و حيرتنا اللاّمتناهية.
إنّ عوالم حسام الدين متعدّدة و متنوّعة لا بل هي تتجدّد في كلّ لوحة إذ يستفزّ أسلوبه و طريقة توظيفه للمساحات القاتمة فكر المتلقّي فيدخل في دوّامة من الشّك المرِحِ الذي يلقي به في طرق ملتوية من التّأويلات. ففي اللّوحات قدرة على التأثير و التّأثر في آن و ليس من السهل تجاوزها أو تجاهلها : إذ هي تتأثّر بنظرة المتلقي فتستحيل أدق تفاصيلها موضوعا للنقاش كما أنها تؤثّر فيه فتراه متأرجحا بين التيه في الأسرار التي تنبعث من الأعمال و العجز عن فكّ شيفرة هذا العالم العجائبيّ.
iThere are no comments
Add yours