تنويه
عزيزي القارئ، لا تواصل قراءة هذا المقال فليس من الضّروري أن تتعب نفسك خاصّة إذا كنت ممّن تعوّدوا خطاب ”الأكادميّين“ و أدمنوا ”أطروحات“ جهابذة التّحليل الذين يملؤون البلاتوهات. أولئك الذين إحترفوا تسويق خطاب ”تبهيميّ“ تتخلّله مجموعة من المصطلحات (الإصلاح، تنقيح البرامج، الإرتقاء بمستوى التّعليم …) التي تُسْتَعْمَلُ للإيهام بجديّة طرحهم.
إذا كنت من أنصار المقالات التي تعتمد على الإحصائيّات ”الرّسمية“ لتشيد بالمستوى التّعليمي في تونس فإمض و لا تهتمّ بهذا النّص لأنّه مجرّد محاولة (بسيطة و ربّما فاشلة !) لفهم الأسباب التي أدّت – حسب رأيي المتواضع جدّا – إلى تدهور الوضع في المدارس، المعاهد و الكليّات.
التّلميذ هو أساس المنظومة التعليميّة !
إن سئلت والدك و أيّ شخص تعلّم في فترة السّتينات و السّبعينات سيخبرك أنّ المدرسة الإبتدائية أشبه بالمعسكر الذي تُلقى فيه الدّروس و يتعلّم فيه التّلميذ – لمدّة 6 سنوات – الانضباط و حسن المعاملة و احترام الغير. لقد كان المربّي يمثّل السّلطة التي يتربّى الصّغير و ينشأ على تقديرها و احترامها فهي مصدر المعلومة و عينا التّلميذ التي يكتشف من خلالهما حقائق المجودات في هذا العالم الذي لا يزال يشكّل لغزا لطفل لم يتجاوز عمره 12 سنة. لقد كان المعلّم في المدرسة الإبتدائية بمثابة همزة الوصل بين التّلميذ و الوالدان من جهة و التّلميذ و العالم من جهة أخرى. و الحقيقة أنّ من يطّلع على الكتب المدرسيّة القديمة يلاحظ أمرا مهمّا وهو أنّ التّلميذ مهمّته الأساسية هي الإنصات و قبول أكثر كمّ ممكن من المعلومات في القسم و هي طريقة تعتمد على منح كلّ الحيّز الزّمني المتوفّر للمربّي مع تكثيف للتّمارين المنزليّة ليستوعب التّلميذ.
إنّ السّؤال الذي يتكرّر يوميّا هو : ما الذي رسخ في ذهن التّلميذ من الحصّة ؟ هو سؤل محرج في الحقيقة لا يتجرّأ المعلّم اليوم على طرحه لأنّه يعلم مسبقا أنّ الإجابة ستكون : لا شيء! لقد وُضِعَ التّلميذ – في المناهج الجديدة – في قلب المنظومة التّربويّة أي أنّه و بلغة أخرى أصبح يتقاسم المهامّ مع المربّي الذي أصبح يسجّل حضوره فقط من أجل تصويب أخطاء التّلميذ التي يركتبها خلال العمل الجماعيّ أو مرحلة الإكتشاف أو غيرها من المراحل التي تمرّ بها الدّروس و التي لا نجدها في السّتينات و السّبعينات. لم تعد علاقة المربّي بالتّلميذ تلك العلاقة العموديّة القائمة على طرفي الباث للمعلومة و المتلقّي لها، بل أصبح المربّي (الخاضع للمناهج الجديدة و المجبر على أن يتّبعها) يمتنع عن إعطاء المعلومة و يرافق التّلميذ في مراحل البحث عنها و هو ما يتطلّب من هذا الأخير مجهودا مضاعفًا. و الحقيقة أنّه توجد فكرة متداولة تقول بأنّ مهمّة المربّي هي أساسا تربية الطّفل و مراقبة سلوكه ثمّ بعد ذلك تأتي المهمّة الثّانية و هي التّعليم، هذه في الحقيقة فكرة خاطئة فإيصال المعلومة له نفس أهميّة التّربية إن لم يكن هو الأهمّ. الأولويّة هي التّعليم !
أمر آخر نلاحظه في المؤسّسات التّربوية وهو اهتمام المربّين بحالة التّلاميذ النّفسية و وضعيّاتهم خارج مقاعد الدّراسة، لا أقول أنّ هذا أمر سيئ و لكن المبالغة في ذلك و التّصرف بدون أخذ إحتياطات قد يؤدي إلى إنهيار العلاقة بين المربّي و التّلميذ، إذ عادة ما يعتقد هذا الأخير أنّه بمجرّد مصارحة المربّي بمشكلة ما سيكون ذلك بداية صداقة تصل في بعض الأحيان إلى مناداة المربّي بإسمه مباشرة و هي ظاهرة موجودة في عديد المعاهد (قد يبدو هذا الأمر بسيطا و لكن الإحترام هو الأساس فألبير كامو عندما أهدى أولى كتبه إلى أستاذه كتب : ”إلى أستاذي …“ و لم يكتب الإسم مباشرة).
على التّلاميذ و المدرّسين أن يتعودوا على التّخلي عن مشاعرهم و مشاكلهم أمام باب المؤسسة التّربوية و أن يعيدوا أخذها عند الخروج. الكثير من المدرسين يشغلون رغما عنهم دور الآباء.جون بول بريغيلي
التطوّر التّكنولوجي، المدارس الخاصّة و إنحدار المستوى
لقد كان إنتشار الإنترنيت سببا في تغيّر العديد من المعطيات في منظومة التّعليم، فقد تعوّد التّلميذ على التّعامل مع التّكنولوجيا و هو ما أدّى إلى إهمال المطالعة و البحث في الكتب لإستخراج المعلومة (على عكس الأجيال القديمة) لا يتطلّب الأمر اليوم أكثر من دقائق معدودة لإنجاز بحث متكامل (قد يحتاج التّلميذ ساعات لإنجازه !)، لقد تحوّل الكتاب إلى مجرّد وسيلة ”متخلّفة“ للحصول على المعلومة و قد زاد إقتناع التّلميذ بعد ذلك أنّ المربّي لم تعد له تلك المكانة التي كان يحتلّها منذ عقود عندما كان يمثّل مسيّر القسم و المحتكر الوحيد للمعلومة. هذا التّصدع في العلاقة مع التلميذ و فقدان المربّي لمكانته سيؤدي إلى ما يسمّيه جون بول بريغليي بالضّجر (L’ennui)الذي يؤدّي إلى إنتشار ظاهرة الإنقطاع المبكّر عن الدّراسة و غياب التّركيز و العمل الجدي داخل القسم دون أن ننسى مشكلة الإرتقاء الآلي في المرحلة الإبتدائيّة و غياب الروح التنافسية بين التّلاميذ، وهي نظرية تهدف إلى مراعاة الحالة النفسيّة للطّفل (يساند الكثير من المختصين في علم النّفس هذا الطّرح !).
هذا التّراجع الذي تشهده المدرسة العموميّة سواء كان ذلك على مستوى النّتائج أو المناهج أدّى إلى إنتشار ظاهرة المدارس الخاصّة و هو ما يعلن نهاية ما تعوّدناه منذ عقود أي أنّ المدرسة العموميّة لم تعد تمنح الفرص الكافية للإرتقاء في السلّم الإجتماعيّ.
iThere are no comments
Add yours