لست من المهووسين بنظرية المؤامرة، ولكن تستهويني القراءات المنطقية للأحداث في هذا السياق أو ذاك. وفي ظل غياب المعلومة الدقيقة نضطر إلى الحكم على الأحداث في سياقها التاريخي من خلال ما يتبع هذه الأحداث من إجراءات، أو توجيه للرأي العام و صرف نظره عن المعارك الحقيقية المتعلقة بمصالحه و مصيره إلى قضايا هامشية.
و البحث في قضايا الإرهاب و المجموعات الإرهابية والتصدي لها، يتطلب البحث في طبيعة هذه المجموعات و علاقتها بمخططات القوى العظمى و أهدافها في المنطقة، و الأدوار القذرة التي تلعبها أجهزة المخابرات الدولية ذات الصلة، وبارونات التهريب وشبكات تجارة الأسلحة و السوق الموازية.
لقد حدثني مرة أحد الأقرباء في الجزائر من المهتمين بالشأن السياسي العام والمنخرطين فيه قائلا :
في إطار الصراع الذي طال في الجزائر بين الجيش وأجهزة المخابرات الأمنية والعسكرية من جهة، والجماعات الإرهابية من جهة أخرى، صرنا نحن الجزائريين نعلم أنه إذا وقعت عملية إرهابية جنوب الجزائر، تتوجه أنظارنا إلى العاصمة لفهم أسبابها وأهدافها معا، والعكس بالعكس.
نعم أمام كل عملية إرهابية تحدث هنا أو هناك يتوجب علينا اجتناب العجلة في فهم أبعادها و الحكم لها أو عليها، فالعرب كانت تكنيها (أي العجلة ) “أم الجهالة”، لأن صاحبها يقول قبل أن يعلم، و يجيب قبل أن يفهم، ويعزم قبل أن يفكر، ولن يصحب هذه الصفة إلا الندامة.
و الفطن في هذه الحال عليه أن يأخذ بمأثورة أرسطو :« الجاهل يصدق، والعاقل يشك، والحكيم يفكر »، فيكون حكيما، وهذا يتطلب البحث في مقاومة هذه الظاهرة بفهم أبعادها والإعتماد على الإمكانيات المادية و البشرية للبلاد و الإستفادة من التجارب القريبة و إدراك جوانب القوة في مجتمعاتنا و نقاط ضعف العدو.
إذا سلمنا بأن الإرهاب واحد سواء كان عرقيا أو دينيا أو طبقيا، و أن أبشعه و أشده دموية هو الذي ارتبط بالدولة، سواء منها الدولة العرقية أو الدولة الدينية أو الدولة الطبقية، والأمثلة على ذلك كثيرة عبر التاريخ، فمن دولة الخلافة وغزوات الفتح المبين.. إلى غزوات المغول والتتار.. إلى الخلافة العثمانية.. إلى مرحلة الإستعمار المباشر و الحربين العالميتين في مرحلة الرأسمالية و حكم الطبقة البورجوازية.
في هذه المرحلة الأخيرة، تشكلت قوة جديدة تطورت بسرعة كبيرة، وانظمت لصفوفها قوى غفيرة متنوعة الاعراق و الديانات، قاومت إرهاب الدولة بجميع أشكاله وانحازت إلى جانب المستضعفين :إنها “الحركة النقابية”. و تشكلت اتحادات عمالية ونقابات مستقلة و أخرى مرتبطة بمشاريع سياسية سرعان ما تحولت إلى قوة عالمية تقاوم الفاشية والنازية و تقف في وجه وحشية رأس المال، و جشع الدوائر الإمبريالية العالمية لكسر الحدود، و تدجين شعوب العالم لخدمة مصالحها بالقانون تارة و بقوة السلاح تارة أخرى. وشهدت هذه المرحلة التاريخية أبشع مظاهر إرهاب الدولة الطبقية و العرقية، وتظل الحربان الكونيتان الأولى والثانية.. و ثورة الجزائر.. وحصار سان بترسبورغ.. و حرب فيتنام.. من اكبر الشواهد على ذلك.
في هذه الفترة تشكلت إتحادات عمالية ونقابات سعت إلى توحيد مقاومتها، حيث تكونت جبهة موحدة من الحلفاء : روسيا،أمريكا، فرنسا، أنقلترا لمواجهة النازية الألمانية و الفاشية الإيطالية، بالإتحاد مع اليابان، وأسست ” الإتحاد العالمي للنقابات ” في” باريس” و اشتركت في بعثه أغلب الإتحادات العالمية الكبرى، الذي انشق عنه في 1949 ” الإتحاد الدولي الحر للنقابات ” وأتخذ “بروكسل” مقرا له بسبب خلاف حول مشروع” مارشال”.و بجوار هذين الإتحادين الدوليين، يوجد اتحاد دولي ثالث ليس بنفس الحجم للنقابات المسيحية و مقره في “لاهاي” بهولندا تأسس عام 1920.
كان لهذه الحركة، والتطور السريع، و التنظم، تأثير كبير في أوساط النخبة التونسية التي سعت منذ فجر القرن العشرين إلى بعث النقابات، متأثرة بما يدور في العالم حولها، و آخذة بعين الإعتبار خصوصيات الواقع التونسي في مقاومة آلة الإستعمار الإرهابية، و الربط بين المطالب الإجتماعية لفئات الشعب التونسي ومسألة التحرر الوطني، فكانت تجربة( محمد على الحامي) 1925، وتجربة جامعة عموم العملة الثانية 1936-1937 بقيادة (بلقاسم القناوي) و النقابات المستقلة بالجنوب 1944(أحمد التليلي). والتي نجحت سنة 1946 في تأسيس الإتحاد العام التونسي للشغل على يد الزعيم (حشاد) الذي اغتالته العصابة الإرهابية المستعمرة. وقد لعب الإتحاد دورا حاسما في ربط المسألة الإجتماعية بالوطنية ونجح في تحرير البلاد ووقف في فترات لاحقة في وجه ديكتاتورية بورقيبة 1978 و 1984 و في تأطير حركة 2011 التي أطاحت بنظام بنعلي. وتظل الحركة النقابية في تونس منحازة إلى قضايا الحرية والعدل مدافعة عن الدولة المدنية الحديثة رغم ارتفاع منسوب التوتر من مرحلة إلى أخرى بينها وبين أجهزة الحكم.
بعد انتخابات 23 أكتوبر، وجدت الحركة النقابية نفسها بجميع روافدها ومكوناتها في مواجهة مشروع الدولة الدينية بقيادة النهضة، و اصطدمت مع أطراف هذا المشروع في عدة محطات و انتصرت عليهم، رغم أن ذلك كلفها الكثير (أحداث 9 أفريل، الهجوم على مقر الإتحاد، حرق بعض المقرات الجهوية، أحداث الرش في سليانة، استشهاد شكري والبراهمي، والتهديدات بالقتل والتفجير التي طالت قياداته ومقراته.
و اليوم بعد خروج النهضة و حلفائها من الحكم نسبيا، لم يسقط مشروع الدولة الدينية وتواصل السعي لإعادة وضعه على الطاولة من جديد بطرق ملتوية : تقسيم البلاد شمال جنوب، مسلم علماني، عميل وطني…إلخ.
و تتوتر العلاقة و يزداد التوتر بين الحركة النقابية و الفريق الحاكم اللذان يعاديان مشروع الدولة الدينية الذي يهدد نجاحه وجودهما من أصله.
إن دعم النقابات و تحسين ظروف عملها و الإستجابة لمطالب الفئات الشعبية الفقيرة و تشريكها في أخذ القرارات المناسبة هو الكفيل بالتصدي لمشروع الدولة الدينية و مظاهر الإرهاب، فالحركات الدينية ظلت دوما نقيضة الحركة النقابية، وحاولت كل الأنظمة الديكتاتورية و الإرهابية القضاء عليها و لكنها فشلت.
إن الحركة النقابية نتاج للصراع الطبقي داخل المجتمع، فقد ساهم فكر اليسار و ثقافته في تطويرها. وأصحاب الفكر الديني يعادون هذه الثقافة ويقاومونها لأنها تتناقض مع وجودهم. فكلما كانت الحركة قوية في بلد كان المشروع الديني ضعيفا وغير قابل للتحقيق.
إن نمو الحركة النقابية ونشاطها في ظروف أفضل مما هي عليه الآن، والتنسيق معها في بناء
الجبهة الوطنية لمقاومة الإرهاب يتطلب حدا من الثقة و الإيمان بريادتها في هذا المجال، و بنجاحها عبر التاريخ في التصدي وإفشال المشاريع الفاشية و الإرهابية. فهي المؤهلة إلى تحويل المشروع إلى جبهة عالمية تقاوم الفكر التكفيري في جميع بلدان العالم.
إن أي إضعاف للحركة النقابية، و تكبيل نشاطها، و الزج بها في صراعات هامشية، يقوي شوكة الأعداء، و يفتح لهم المنافذ للسيطرة على المجتمع، و تحقيق مشاريعهم المعادية للشعب والوطن
iThere are no comments
Add yours