في الرابع عشر من شهر يناير/ جانفي 2011،أسقط الشعب التونسي نظام الرئيس المخلوع زين العابدين بن على، باعتباره نظاماً استبداديّاً تحول إلى حكمٍ «كليبتوقراطي» – أيّ نظام قائم على السرقة والفساد – مستنداً إلى سلطةٍ فرديّة قمعيّة. وقد تجسّد حكم بن علي في سيطرة عائلات مافياوية نهبت المجتمع التونسيّ ، أبرزها عائلة زوجته ليلي الطرابلسي.
كان المحرك الرئيس لهذه الثورة التونسية جيل الشباب الجامعي و المتعلم ، الذي يعتبر الأكثر ثقافة من سابقه، ويعيش أكثر في إطار عائلات نواة، وينجب أولاداً أقل، لكنه في الوقت نفسه عاطل عن العمل أو يعيش في وضع اجتماعي متدنٍّ. إنه جيل الشباب الأكثر اطّلاعاً، ويملك في معظم الأحيان إمكانية الولوج إلى وسائل الاتصالات الحديثة (شبكة الأنترنت)التي تتيح التواصل من فرد إلى آخر من طريق الشبكات من دون المرور بوساطة الأحزاب السياسية (المحظورة في مختلف الأحوال).
إنه جيل الشباب التعددّي ،المنتمي إلى شعبِ هو من الأكثر تعليماً والأرقى علمانيّةً في العالم العربيّ .ماميّز جيل شباب الثورة التونسية ، أنه جيل متحرر من قيود المدارس لأيديولوجية التي سادت في القرن العشرين ، فهو جيل جديد لا يهتم بالأيديولوجيا: فشعاراته كلها براغماتية وملموسة «إٍرحل». هذا الجيل من الشباب الذي فجّر الثورة تفوق في استخدام الأنترنت على نظيره في دول أكثر تقدماً من تونس ، على سبيل المثال، الأرجنتين وتركيا وتشيلي، حيث أن الانترنت تحول إلى سلاح المجتمع المدني التونسي في مواجهة الديكتاتورية البوليسية.
لم تكن الثورة التونسية هذه ،ثورة إسلامية ،لأن شباب الثورة لم يستعينوا بالإسلام كما فعل أسلافهم في الجزائر في أواخر الثمانينات، ويعبّرون قبل كل شيء عن رفض الديكتاتورية البوليسية الفاسدة ويرفعون مطلب الديموقراطية. لا يعني هذا بالتأكيد أن كل الذين قاموا بالثورة هم علمانيون، بل يعني ببساطة أنهم لا يرون في الإسلام أيديولوجيا سياسية قادرة على خلق نظام أفضل: إنهم في مساحة سياسية علمانية. و ما ينطبق على الأيديولوجيا الإسلامية ، ينطبق أيضا على الأيديولوجيات الأخرى، فالثورة التونسيية لم تكن ثورة يسارية، و لا أيضا ثورة قومية ،رغم أن شباب الثورة هم قوميون (يظهر ذلك من خلال الأعلام الوطنية التي يلوّحون بها) لكنهم لا ينادون بالقومية العربية التي اختفت من الشعارات.
فالثورة التونسية هي بكل بساطة ثورة الحرية بالمعنى الدقيق للكلمة،و العدالة الاجتماعية، و المشاركة السياسية، وما ميّزها هو اختفاء نظريات المؤامرة: حيث أن الأنظمة العربية في تحليلها لأي حراك اجتماعي و سياسي تشير دائما إلى الدول الغربية وإسرائيل بأنهما السبب وراء مصائب العالم العربي. و هكذا حسم الشعب التونسي مسألة الحرية و العدالة و المشاركة السياسية ، من خلال إزاحة العوائق البنيوية المانعة للحرية ، التي تفتح له الباب أمامه لخوض المعركة الأخرى التي مدارها: بناء مؤسسات النظام الديمقراطي الجديد، و بالتالي الدولة الديمقراطية التعددية .
لقد قدمت الثورة التونسية نموذجاُ يحتذى به عربياً، لجهة أنها شكلت نهاية للخضوع والإذعان في صفوف المواطنين العرب العاديين، الذين ظلوا على خنوعهم على امتداد عقود من الزمن في مواجهة دول عربية تسلطية يدعمها الغرب، وأنظمة تقوم على أساس ديكتاتورية الأجهزة الأمنية والجيش. إضافة إلى أن الثورة التونسية هي مرآة أفول النموذج الاقتصادي الريعي الذي ساد في العديد من الدول العربية، باعتباره نظاماً أنتج البطالة ، و ارتفاع الأسعار،و العجز في خلق وظائف جديدة، و ممارسة الإنكارعلى الشعوب العربية للحقوق الإنسانية الأساسية في التعبير وتمثيل أنفسهم بشكل صادق والمشاركة السياسية والمساءلة السياسية وإمكانية الوصول يشكل عادل إلى موارد الدولة والفرص التي تتيحها السوق الحرة.
لكنّ مزايا هذه الثورة التونسية ، لا يجوز أن تخفي عنها نقاط ضعفها الأساسية، فهي ثورة لم تفرز حزبها السياسي الثوري ، و لم تكن لها قيادة موحدة، ، ولا برنامج سياسيّ، ولا مشروع مجتمعي بديل لكي تكون لها القدرة على النهوض بشؤون المجتمع بعد الإطاحة بالرئيس المنبوذ. و إذا كان إسقاط الديكتاتورية البوليسية ، و تفكيك المنظومة الحزبية و الأمنية التي كان يعتمد عليها الرئيس المخلوع بن علي ، يعتبر مكسباً مهماً للشعب التونسي، فإن نتائج انتخابات المجلس الوطني التأسيسي التي جرت في 23 أكثوبر 2011، أفرزت فوز حزب «النهضة» الإسلامي ، الذي شكل الحكومة الإسلامية الجديدة بمشاركة هامشية من قبل حزبين آخرين: حزب «المؤتمر من أجل الجمهورية»، والذي اختير منه عضو ليكون رئيساً موقتاً للجمهورية، وحزب «التكتل من أجل العمل والحريات»، والذي اختير منه عضو ليكون رئيساً للمجلس التأسيسي،وانتهت بمطاف الثورة التونسية إلى تبديد الكثير من الحرّيّة التي تمّ الاستحواذ عليها.
ومعظم هذا التبديد جاء نتيجة النجاح الذي أحرزته الحركة الإسلامية بزعامة الشيخ راشد الغنوشي ،التي شاركت في اللعبة الديمقراطية، و أصبحت في السلطة، لكنها في ظل انعدام خبرتها في إدارة الحكم، و ضعف ثقافتها الديمقراطية، لايبدو أنها مهيأة لإنجاز الطور الثاني من الثورة ، ألا وهو مسألة النظام السياسيّ البديل، و بناء الدولة الديمقراطية التعددية.
لا يزال حزب «النهضة» الإسلامي متذبذاً لجهة تبنيه فكرة «الإسلام الليبرالي» ،التي تؤمن بالموائمة بينها و بين الديمقراطية، حيث كانت الديمقراطية تُعَدُّ بدعة غربية في المرجعية الإسلامية ، و على أساس أن الإسلام- في زعم معظم الحركات الإسلامية على اختلاف مسمياتها-لا يعرف سوى نظام الشورى.
والواقع أن فكرة الإسلام الليبرالي سبق طرحها في أدبيات العلوم السياسية منذ الثمانينات.
ويمكن أن نقرر أن رائد بحث هذا الموضوع هو عالم السياسة الأميركى ليونار بايندر، في كتاب بالغ الأهمية صدر عام 1988 عن دار نشر مطبعة «جامعة شيكاغو»، وعنوانه «الليبرالية الإسلامية: نقد لأيديولوجيات التنمية».وقد قرر بايندر أنه يبدو أن هناك نوعين من الليبرالية الإسلامية: الأول يرى أن وجود دولة إسلامية ليبرالية ممكن ومرغوب فيه، ليس فقط لأن مثل هذه الدولة تتفق مع روح الإسلام، ولكن لأنه ليست هناك نصوص محددة في الفقه الإسلامي تتناول الأمور السياسية.
ومن المهم أن نشير إلى أن أصحاب هذه النظرة لا يذهبون إلى حد فصل الدين عن الدولة، غير أنهم يقررون أن صمت الفقه الإسلامي عن معالجة نظم الدولة، ما عدا الإشارة إلى «الشورى»، يسمح في الواقع بتأسيس دولة إسلامية ليبرالية يختار فيها المواطنون مؤسساتهم السياسية كما يريدون، ويغيرونها إذا شاؤوا حسب الظروف. غير أن ذلك لا يمنع من أن توصف الدولة بأنها إسلامية.
أما النوع الثاني من الليبرالية الإسلامية، فإنه يذهب في تبريره تأسيس مؤسسات سياسية ليبرالية (كالبرلمان والانتخابات والحقوق المدنية) بل وحتى بعض سياسات الرعاية الاجتماعية، على أساس أنها لا تتناقض مع أي نصوص دينية، بل إنها يمكن أن تعد تطبيقاً لبعض المبادئ الإسلامية المنصوص عليها في بعض النصوص القرآنية، والتي يمكن استخلاصها أيضاً من سِيَر الخلفاء الراشدين.
ولعل هذه الاتجاهات المتنوعة في مجال الليبرالية الإسلامية هي التي جعلت بعض الباحثين المتخصصين في الشأن الإسلامي أكثر تفاؤلاً بنمو تيار الإسلام الليبرالي وتصاعده. ويقول بعضهم إن الإسلاميين الحداثيين أصبحوا أكثر إسلاماً، في حين أن الإسلاميين الأصوليين أصبحوا أكثر ليبرالية!
وهذه الإشارة البالغة الذكاء التي سجلها بايندر في كتابه الصادر عام 1988، ربما كانت نبوءة مبكرة تحققت في عام 2011، بعد قيام ثورات الربيع العربي، والتي شهدت صعوداً مؤكداً للإسلام الليبرالي في كل من تونس والمغرب، وأكدت التصريحات القاطعة التي صدرت عن زعماء حزبي «النهضة» في تونس و «العدالة والتنمية» في المغرب قبولهم للفكر الليبرالي( ).
مخاوف من انتكاسة الثورة التونسية
رغم أن مسار الثورة التونسية وشعاراتها ومطالبها رسمت طريقاً واحداً يفرض نفسه بقوة تاريخية يصعب مقاومتها. طريق يؤدي، أو ينبغي أن يؤدي الى بناء دولة ديموقراطية تعددية تحترم الحريات العامة و الحريات الفردية ، وتستند إلى قيم العدالة والمساواة للجميع، فإن الثورة التونسية لم تنتج في سيرورتها ذلك الجدل الفكري حول شكل وطبيعة الدولة الجديدة التي يجب أن تحل محل النظام القديم الذي سقط.هل هذا يعني أن الثورة التونسية لم تكن لها هوية فكرية و سياسية بعينها ؟
تنظر الأوساط السياسية التونسية بشيء من التفاؤل الحذر الذي يرتقي إلى درجة الخشية من «انتكاس الثورة»، خلال المرحلة الانتقالية التي دخلتها تونس تحت حكم حركة النهضة الإسلامية المدعومة بائتلاف من حزبيين أساسيين في المجلس الوطني التأسيسي المنبثق عن انتخابات 23 أكتوبر الماضي. وتكاد مختلف الأحزاب السياسية التونسية تجمع على ضبابية هذه المرحلة التي لم تحدد مدتها، مشيرة إلى أنها قابلة لأن تفرز معطيات متعددة لن تنسجم بالضرورة مع أهداف الثورة التونسية التي اندلعت في 17 ديسمبر من عام 2010.
وترى المعارضة التونسية أن حركة النهضة الإسلامية «ضاق صدرها بالديمقراطية» خلال الأيام الأولى من ممارستها السلطة، فيما ذهب البعض من أركانها إلى حد اتهام حركة النهضة بالعمل من أجل «إعادة إنتاج ديكتاتورية من نوع جديد». ودفعت هذه الاتهامات التي بدأ صداها يتردد بالمقاهي على ألسنة المواطنين العاديين، نوال الهميسي عضو المكتب السياسي لحزب الاتحاد الديمقراطي الوحدوي إلى القول، إن ثورة 14 يناير التي أطاحت بنظام بن علي، «لم تكتمل بعد».
يعترض بعض غلاة العلمانية التونسيين و العرب على الموقف «الانتهازي» و«الوصولي» للإسلاميين من الديموقراطية ونظرتهم الأداتية لها ،التي تجردها من مضمونها الثقافي وتحولها إلى مجرد آليات للوصول الى السلطة ـ وإضمارهم النية في الانقضاض عليها بعد اعتلاء السلطة، والعودة بالحياة السياسية إلى نفق العلاقة التلازمية بين الدين والدولة، والى إنفاذ مشروعهم القاضي بتطبيق الشريعة الإسلامية، أو بدعوى موقفهم المتزمت من حقوق المرأة ومن حرية الرأي، و حرية الإعلام ، ومن الحريات الفردية التي يرون فيها انتهاكاً لنظام القيم الإسلامية.
بإمكان حركة النهضة الإسلامية التي أصبحت في السلطة في تونس، و تشهد نمو نزعة نحو الليبرالية في ممارساتها، فيما يتعلق بهذه المواضيع كافة، أن تصبح مكوناً أساسياً من مكونات المجتمع المدني الحديث ، على غرار الديمقراطية المسيحية في أوروبا، و هذا يقتضي منها أن تعمل بشكل جدي من أجل بناء الدولة الديمقراطية التعددية، و أن تتبنى رؤية علمانية غير مناهضة للإسلام، وبذلك تسهم في بناء نموذج حقيقي في تونس يُحتَذَى به عربياً، بدلاً من التغني بالنموذج الأردوغاني التركي .
فعلى الصعيد العربي المتسم بالغياب الكلي للديموقراطية، وللرقعة الثقافية على حد سواء، فإن شعار العلمانية يطرح الآن ضمن فراغ ثقافي، وانعدام وجود حداثة فكرية وعقلية، باعتبارها الوسيلة الأكثر إلحاحاً لطرح الأسئلة الجذرية على الواقع، والتاريخ، والإسلام، وإحداث مجابهة فكرية وثقافية خصبة بين الرؤيا العقلانية والعلمانية للعالم والحياة، والرؤيا الدينية للعالم والحياة. وظل شعار العلمانية يطرح في نطاق السجال الإيديولوجي مع الإسلام السياسي، ومرتبط ارتباطاً عضوياً بالأحزاب القومية واليسارية الراديكالية، التي تسعى للتخفيف من هيمنة الإسلام في الرمز السياسي والأيديولوجي للدولة، دفاعاً عن حقوق الأقليات الدينية التي لها حساسية مفرطة إما بسبب تفوق الإسلام كدين للأكثرية في الحياة العامة، وإما رغبة منها في التحديث الاجتماعي، معتبرة تجربة الغرب نموذجاً يحتذى به على الصعيد الكوني. ولا يمس هذا الطرح العلماني بشكل مباشر المعضلات الأساسية التي يعاني منها العرب في طورهم الراهن، خاصة إنجاز الثورة الديموقراطية.
لم تستطع الحركات الأيديولوجية في العالم العربي بجميع تفرعاتها أن تنجز الثورة الديموقراطية. ونحن الآن لا نستطيع أن نفكر بإنجاز الثورة الديموقراطية، دون أن نفكر بدحر الاحتلال الاستيطاني الصهيوني على أرض فلسطين، وأشكال التبعية المباشرة وغير المباشرة، وبالوجود الإمبريالي الأميركي ـ الصهيوني الذي تعهد بضمان بقاء مخلفات القرون الوسطى، وبتزويد الدولة التسلطية العربية بمقومات البقاء والاستمرار، لأنه يرى فيها الضمان الحقيقي لبقاء حالات التمزق والتبعية والتخلف الراهنة، وحتى الأحزاب العربية على اختلاف مرجعياتها الإيديولوجية لم تكن تملك مفهوم ثورة ديموقراطية شاملة، ولم تكن تتبنى قيما وتقاليد ديموقراطية.
ومع ذلك كله، فإننا نستطيع أن نقول جازمين أننا لم ننجز ثورة ديموقراطية قومية، ولا حتى ثورة ديموقراطية في جزء من المنطقة العربية.وتختلف الثورة الديموقراطية في العالم العربي عن الثورات الأوروبية، لأن هذه الأخيرة قادتها البرجوازية الرأسمالية الصاعدة، والبرجوازية العربية ليست طبقة قائدة، وليست مؤهلة، ولا مستعدة ولا تعتبر هذا دورها، لأنها جزء من العولمة الرأسمالية الجديدة، تنمو على هامشها، وفي ظلها وترتبط بمصالحها، لأن اعتمادها الأساسي قائم على القوى الرأسمالية العالمية.
ولذلك فإن ثورتنا الديموقراطية تحتاج الى بناء أوسع تكتل تاريخي بالمعنى الغرامشي من الشرائح الثورية والديموقراطية من الطبقة الوسطى والعمال والفلاحين. وستكون الطبقة الوسطى هي الطبقة المؤهلة لقيادة الثورة الديموقراطية بعمقها الإنساني. وتعني ثورتنا الديمقراطية.
أولاً: إنجاز تحرير الوطن كله من الاحتلال، وكل أشكال التبعية المباشرة وغير المباشرة، وتحقيق الانصهار القومي، باعتباره لازمة ضرورية للتقدم العربي، وقاعدة للبناء القومي، وشرطاً لازماً للممارسة الديموقراطية.
ثانياً: تصفية مخلفات القرون الوسطى وبقايا الإقطاع والطائفية والقبلية، وكل من يعيق تحرير المواطن والوطن، خاصة النسيج المجتمعي العربي التقليدي.
ثالثاً: إنجاز الوحدة الوطنية ، وبناء الدولة الوطنية الديمقراطية الحديثة.
رابعاً: إقرار حقوق الإنسان والمواطن، وحقوق الأمم، والنضال لتعميمها، حرية الرأي، حرية العبادة، حق الاجتماع والإضراب، حرية إصدار الصحف، حق تكوين الأحزاب، وضمان الحريات الشخصية.
خامساً: إعلان الدولة دولة المواطنين، دولة الحق والقانون.
ولكن عملية البناء الديموقراطية هذه، ستواجه عقبات ليست بالهينة حسب تعبير ياسين الحافظ، ذلك لأن الديموقراطية، هذه الوافدة البرانية، لم تجد التربة والمناخ المجتمعين والإيديولوجيين الملائمين لانغرازها وازدهارها.
العقبات البنيوية
العقبة الأولى: التي عرقلت تارة أوصدت تارة أخرى عملية البناء الديموقراطي هذه هي افتقار مجتمعاتنا العربية الى القيم التعددية، إن المونوليتية أوالتكتلية السائدة في البنيان الأيديولوجي للبلدان العربية تناقض على خط مستقيم البنيان الإيديولوجي للديموقراطية الذي يقوم على تسوية أو حل وسط بين آراء أو مصالح متعارضة.
أضف إلى ذلك أن الأساس الإيديولوجي للديموقراطية إنما يرتكز على فكر دنيوي (وضعي)، علمي يرى الى الحقيقة كشيء نسبي يجري تخطيه جدلياً مع كل خطوة تخطوها المعرفة الى الأمام، في حين أن البنيان الأيديولوجي للبلدان العربية، يرتكز على فكر إيماني دوغمائي، يعتبر المعتقد الإيماني حقيقة كلية مطلقة، اجترحت مرة واحدة والى الأبد.
العقبة الثانية: التي عرقلت وتعرقل عملية البناء الديموقراطي، في بلد متأخر هي الانقسامات التقليدية أو (انقسامات المجتمع التقليدي العمودية، الفئوية، المحلية، الإقليمية)، التي تفتت أو تذرر الأمة، بل بالأحرى تجعل الأمة في حالة تفتت وتذرر.
سادساً: إن المشروع العروبي الديموقراطي يناضل من أجل علمانية غير مناهضة للإسلام التاريخي، لأن الإسلام في العالم العربي والإسلامي، ليس فيه كنيسة، وحتى المؤسسة الدينية الرسمية المرتبطة بالدولة التسلطية العربية وتوظفها أنظمة الرأسمالية التابعة في نطاق المحافظة على الإيديولوجية التقليدية، والواقع المجتمعي التقليدي، ليست هي وحدها موجودة في المجتمع، بل إنها تجد منافسة قوية جداً من المعارضات الإسلامية التي تطعن في صدقية تمثيلها للإسلام، كما هي الحال في مصر والجزائر الخ… والإسلام إسلاميات هناك الإسلام الرسمي، والإسلام المعارض، وهناك الإسلام السلفي والإسلام الجهادي التنويري.
كما أن العلمانية التي عبرت عن الصراع بين النظام المعرفي الثقافي القديم والنظام المعربي ـ الثقافي الجديد، بوصفها إحدى خاصيات المجتمعات الغربية، التي انتصرت فيها البرجوازية الرأسمالية الصاعدة على الكنيسة، ونجحت في ترسيخ القيم العلمانية على صعيد الدولة والمجتمع، شكلت فتحاً برجوازياً غريباً لحداثة فكرية في تاريخ البشرية، مثلها في ذلك مثل الحداثة، التي تنتمي الى كل العصور التاريخية، باعتبارها الموقف الديناميكي النقدي التايرخي الذي تقفه الروح البشرية أمام الواقع والتاريخ، الذي يصنعه البشر في المجتمع. وهذا الموقف وجد في القرون الهجرية الأولى من أوج قوة الدولة العربية الإسلامية. فالدولة الأموية والعباسية هي دولة علمانية وعقلانية، وشهدت حركة تنويرية وعلمانية قل نظيرها تمثلت بحركة المعتزلة، التي طرحت مشكلة ما دعته «القرآن المخلوق». إنه يمثل موقف حداثة في عز القرن الثاني الهجري/أو الثامن الميلادي، وكان هذا الموقف التيولوجي المبكر الذي اتخذه المعتزلة يفتح حقلاً معرفياً جديداً قادراً على توليد عقلانية نقدية مشابهة لتلك العقلانية التي يشهدها الغربي الأوروبي بدءاً من القرن الثالث عشر لولا معارضة الأرثوذكسية الظافرة (الإيديولوجية الأشعرية) في القرن الخامس الهجري ـ الحادي عشر الميلادي..، خصوصاً على يد الخليفة القادر.
في ظروفنا المعاصرة، يمكن تطبيق علمانية غير مناهضة للإسلام، تقوم على دمج الإسلام في نسيج التاريخ الحديث، عبر دعوة الفكر الإسلامي الخروج من الأرثوذكسية الجامدة، أي الإيديولوجية الإسلامية التقليدية، على الثورة المعرفية التي حصلت في الغرب خلال النصف الثاني من القرن العشرين، والتي شكلت تدشيناً جديداً لحداثة فكرية، عقلية متزامنة مع ثورة علمية وتكنولويجة هائلة، أكثر اتساعاً وتجاوزاً للحداثة الغربية الكلاسيكية، لكي يصبح الإسلام قادر على مواكبة العصر الحديث، وامتلاك الوسائل الكفيلة لمواجهة التحديات التي تنهال على العالم العربي والإسلامي من كل حد وصوب، ويبني بشكل مبدع وخلاق وصادق علمانية منفتحة، تكون تجاوزاً للعلمانية المعاشة في الغرب، التي أصبحت بدورها تعيش أزمة عميقة نظراً لعودة العامل الديني، والتقارب بين الكنيسة والدولة العلمانية، خصوصاً بعد احتداد أزمة الاشتراكية المشيدة وانهيارها في البلدان التي قامت فيها، وتفشي الأزمة الأخلاقية في البلدان الرأسمالية في ظل سيادة النزعة المادية الصرفة، وإرهاصات المجتمعات الغربية في البحث عن توازن جديد في حياة الإنسان تجمع ما بين الروحي والمادي، ومن أجل علمنة جديدة تتيح إمكانية وجود روحانية جديدة على حد قول الباحث الفرنسي إميل بولا في علم اجتماع الأديان
مجتمع مدني مؤسس على العقلانية والعلمانية
ويقوم المجتمع المدني على أساس احترام حقوق الإنسان، وهي جزئياً الحقوق السياسية، ومضمونها يكمن في المشاركة السياسية في الدولة.ومن هذا المنظار، فهي تدخل في مقولة الحرية السياسية، وحقوق الإنسان هي حقوق عضو المجتمع المدني المتحرر سياسياً. أما مرتكزات إعلان حقوق الإنسان، فتتمثل في المساواة السياسية والقانونية، والحرية، والملكية الخاصة. وتشكل الحرية الفردية، والحريات العامة، أساس المجتمع المدني.
إن المجتمع المدني بهياكله الاقتصادية، وانقساماته الطبقية، والفئوية، وتبايناته الاجتماعية، وتكويناته السياسية والنقابية الذي تحكمه مبادئ المواطنة، والمساواة السياسية والقانونية، والحرية، والملكية الخاصة. وتشكل الحرية الفردية، والحريات العامة، أساس المجتمع المدني.
إن المجتمع المدني بهياكله الاقتصادية، وانقساماته الطبقية، والفئوية، وتبايناته الاجتماعية، وتكويناته السياسية والنقابية الذي تحكمه مبادئ المواطنة، والمساواة السياسية والقانونية، بين الأفراد في الحقوق والواجبات، والمشاركة السياسية للشعب من خلال الانتخابات الاشتراعية، والرئاسية، والبلدية، والمحلية، لانتخاب الممثلين عنه للإضطلاع بأعباء السلطة في الدولة الديموقراطية، باعتبار أن الشعب أوالأمة، هو مصدر السلطات الذي لا يتحقق كمبدأ الا في ظل سيادة الديموقراطية، بوصفها أيضاً المساحة التي يتقاطع فيها المجتمع المدني مع الدولة، فإن هذا المجتمع المدني عينه، هو مجتمع الاختلاف والتعدد، والتعارض، والتناقش داخل بنيانه وهياكله الاجتماعية والسياسية.
إن الاختلاف، والتعدد، والتعارض، والتناقض، صفات جوهرية متأصلة في الأفراد، والجماعات، والطبقات والشرائح الاجتماعية المختلفة، والأمم، والدول، والشعوب، والحضارات، وهي جميعها كظاهرات متأسسة بعضها على البعض الآخر في علاقة ديالكتيكية، تشكل قانون التغيير، والتطور والتقدم في حركة التاريخ بوجه عام، وتاريخ الديناميات الداخلية للمجتمع المدني بوجه خاص. فالاختلاف والتعدد والتعارض والتناقض للأنا مع الآخر، حسب مقولة الديالكتيك، هي هوية المعرفة، والمنطق، هي وحدة الأنا مع الآخر الديالكتيكية في هوية واحدة. فليست حقيقة الأنا انه في هوية مع نفسه، أو نفسه، أو أنه مختلف مع غيره، وإنما يشتمل على آخر هو ما هيته.
لهذا كله نقول أن تكوينات المجتمع المدني ومؤسساته، من أحزاب سياسية، ونقابات، ومجلس نيابي وصحافة، ووسائل إعلام، قائمة في وجوده المعين، على الاختلاف، والتعدد، والتعارض، والتناقض، بهذا تكون ماهية المجتمع المدني انعكاساً في الآخر، وفي وارتباطه الصميم بغيره من مقولات الاختلاف والتعدد، والتعارض، والتناقض، ومن هنا كان هذا الأساس هو الماهية الداخلية للمجتمع المدني، على نقيض النزعات الدكتاتورية، والتوتاليتارية، والفاشية، والظلامية. كما أن تعيينات المجتمع المدني تتحدد في الأمور التالية:
إن المجتمع المدني قائم على الحق أي حق الإنسان الواقعي، وعلى مبدأ العقلانية والواقعية في العلاقات الاجتماعية والسياسية. والمجتمع المدني بهذا المعني، هو المجتمع الحديث المتناقض جذرياً مع المجتمع التقليدي المتأخر تاريخياً، باعتبار هذا المجتمع المدني نزاعاً باستمرار وعلى الدوام الى مواكبة العصر، والمعاصرة في العالم، أو «المزامنة العالمية»، أي انه تسود فيه ديناميكية وروح التغيير والتجديد والإبداع في تناقض كلي مع نمط المجتمع التقليدي المتمحور على الماضي.
الإسلاميون والتحدّيات
على الرغم من الأهمية التاريخية لوصول الأحزاب الإسلامية إلى السلطة في كل من تونس والمغرب ومصر، فإن المحك الحقيقي سيكون مدى نجاحها في حل المشكلات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية الجسيمة السائدة في هذه البلاد.بعبارة أخرى الممارسة العملية هي التي ستثبت مدى صدق الشعارات الإسلامية المرفوعة.
وانطلاقاً من تجربة ربيع الثورات العربية في العالم العربي، ما معنى بناء دولة ديمقراطية تعددية في تونس، إن لم يكن هناك ضبط دقيق للعلاقة بين عالم المال ووسائل الإعلام والسياسة؟!
فما أقدم عليه رئيس الحكومة المؤقتة السيد حمادي الجبالي قبل نحو أسبوع لجهة تعيينه شخصياً القيادات الإعلامية في وسائل الإعلام الرسمية ، يعتبر استمراراً للسياسة السلطوية والإقصائية التي كانت سائدة في عهد النظام القديم ، والأمرعينه ينطبق على رئيس الحركة راشد الغنوشي الذي لم يتردد في اختيار صهره رفيق عبد السلام على رأس وزارة الخارجية على رغم ما يمثله هذا الاختيار من استفزاز لمشاعر الشعب التونسي، ومن محاكاة لنهج المحاباة و المحسوبية الذي كان سائداً في عهد الرئيس المخلوع بن علي.
فإذا ضاقت مساحة الحرية للإعلام في تونس، باعتبارها مكسباً مهما من مكاسب الثورة فإنه بإمكان بعض النخب المحلية المرتبطة بحركة النهضة أن تهيمن على الإعلام وعلى القائمين على السياسة، بل من الممكن أن نجد أيضاً نخباً من خارج البلاد ودولاً تستطيع أيضاً وبسهولة أن تغرق مالاً سياسيّاً وتسيطر على إعلامٍ أضحى بحكم الواقع عربيّاً عابراً للبلدان، وبالتالي التلاعب بالرأي العام التونسي ؟
كذلك ما هو النظام الاقتصادي و الاجتماعي الذي تعمل حركة النهضة على إقامته؟ هل هو النظام الاقتصادي الذي يلبي مطامح و أهداف الثورة التونسية في التحرر من التبعية للغرب، و في تشييد تنمية مستقلة و مستدامة ، أم إن خطاب حركة النهضة المتمسك بالنهج الاقتصادي الليبرالي ، و الذي يمجد النخب التكتنوقراطية على اساس أنها ستأتي ي بحلولٍ أشبه بالمعجزات ضمن حريّة الأسواق والاستثمارات والانفتاح.، لا يعدو أن يعيد إنتاج الاقتصادي الريعي الذي ارسي في تونس منذ عقود من الزمن؟وهل الاقتصاد حقّاً هو فقط موضوع تقنيّ؟
و يتساءل الخبراء التونسيون و العرب في مجال الاقتصاد، من أين سيأتي المال الضروريّ للسياسات الاجتماعيّة والاقتصادية ومشاريع البنى التحتيّة الملحّة لاحتواء البطالة المنتشرة في صفوف الشباب ولانطلاقة اقتصادية جديدة، قوامها الاستثمار في القطاعات الاقتصادية المنتجة ؟ الولايات المتّحدة كانت قد دعّمت الديموقراطية في أوروبا الغربيّة بعيد الحرب العالميّة الثانية عبر مشروع مارشال؛ والبلاد العربيّة، خاصّة الكثيفة السكّان، بحاجة لهكذا مشروع لترسيخ الديموقراطية؛ إلاّ أنّ أوروبا والولايات المتحدة مفلستين اليوم، وليستا قادرتين على الأمر. ربّما دول الخليج قادرة ماليّاً، ولكن ما نوع الديموقراطية التي ستموّلها هذه الدول؟ فهل ستقبل تلك الدول ببناء الدولة الديمقراكية التعددية في تونس؟
تونس تحولت من «الإسلام الأوروبي إلى الإسلام الأميركي»، بهذه العبارة يلخص مثقف تونسي النقلة التي يتوقع أن تكون حركة النهضة الإسلامية بصدد اجرائها، أو أنها تطمح إليها. وما يعنيه هنا أن الإسلام التونسي الذي لطالما لم يصطدم بما تمثله القيم الأوروبية من أنماط عيش وسلوك، مهدد اليوم بخيارات أخرى. فالشيخ راشد الغنوشي يقيم بين تونس وبين الدوحة تقريباً، وهو اختار الولايات المتحدة الأميركية قبل غيرها ليزورها ويطمئنها في أعقاب وصول حركته إلى السلطة، وهو إذ فعل ذلك، إنما فعله في سياق من الإشارات العديدة التي أطلقتها النهضة حول وجهتها، بدءاً من الرهان على دور الدوحة في امتصاص جزء من اليد العاملة التونسية، ومروراً بالدعوة إلى «تعريب مناهج التعليم» وهو ما يعني الحد من فرنسيتها، ووصولاً إلى عدم الاكتراث للحساسيات الأوروبية حيال الهوية الجديدة للدولة في تونس.
في مقابل هذه الوجهة، يرى خصوم النهضة أن ذلك سيمثل كارثة على تونس، فالعلاقة مع قطر لن تُغني تونس عن أوروبا، وتعريب المناهج فشل في معظم الدول التي أجرته، أما عدم الاكتراث للتوقعات الأوروبية من تونس الجديدة فسيعني حرمانها من شراكة لا يمكن لها أن تستمر من دونها وفق ما تؤكده الأرقام والحقائق.
ومن الواضح أن خبرة في الإدارة وفي السياسة تعوز جهاز الحكم الجديد في تونس، فالكثير من الوقائع تشي بأننا حيال «ثوار» أو معارضين، ولسنا حيال رجال دولة. الحضور الكثيف لحركة النهضة في الحكومة، وحرصها على احتكار المناصب التنفيذية يشيران إلى استعجالها الانتقال إلى حركة سلطة على رغم عدم استعدادها للمهمة، وكذلك شركاؤها في السلطة حزبا المؤتمر والتكتل، فرئيس الجمهورية المنصف المرزوقي ما زال يشعر انه في المعارضة، وهو على ما قال صحافي تونسي «لا يعرف غير هذه المهنة»، ومن موقعه في رئاسة الجمهورية يرعى نشاط زملائه في المعارضات العربية غير مكترث بما يحدثه من توترات في العلاقات بين تونس وبين حكومات عربية أخرى( )..
صفحتنا ترحب بكل التونسيين على اختلافهم و نحن صفحة لا نحمل فكر ايديولوجي و لسنا بوقا لاي حزب بل هدفنا خدمة مصلحة الوطن اولا و اخرا و ذلك من خلال السعي لتحقيق اهداف الثورة و ايصال صوت التونسي بكل حرية و مرحبا بكل تونسي يحمل العقلية الثورية و معا لخدمة وطننا و لن نخدم اشخاص و السلام.-
كلمة في الثورة التونسية في الذكرى الأولى للثورة التونسية : التحدّيات و العوائق : http://t.co/FjbjGdkJ