.عنوان الكتاب: قلم ومتاريس. مقالات في تاريخ الزمن الحاضر
الكاتب: فوزي الصدقاوي
مطبعة حسن بلكاهية ببنزرت
سعر الكتاب: 8 دنانير
المقدمة
كان التونسيون إلى سنة 1987 قد انتظروا تحت حكم بورقيبة، ثلاثين عاما قبل أن يشرعوا في قراءة تاريخ حركة التحرر الوطني ضد الإستعمار الفرنسي، إلى أن رُفع الحصار عن الذاكرة الوطنية واُبرمت إتفاقيات خاصة لجلب أرشيفات فرنسا الإستعمارية بتونس، وجُهِّزت لمباحثه مراكز للتوثيق وبُعثت للذاكرة وحدات للتاريخ الشفوي وسُخر لكل ذلك موارد وجُنِّد له مشتغلون في الحقل من بين المتخصصين، غير أن تلك الجهود وإن لبّت بعضاً من حاجة التونسيين في إنتاج تاريخٍ للحركة الوطنية يستوفي شروط البحث العلمي، ويستلهم الذاكرة الوطنية بروح نقدية، ويوفر مناخاً لإعادة تشكيل وعي التونسي بذاته، فإن “حركة التدوين” التي نشطت على نحو تصاعدي منذ بداية تسعينات القرن الماضي، ظلت حريصة على أن لا تمنح بورقيبة من البريق أكثر مما يمكن للـ” عهد الجديد” القادم من تحت جبّة بن علي أن يمنحه لنفسه، وأن لا تهدِر تلك المراجعاتُ النقدية للتاريخ الرسمي رصيدَ بورقيبة إلا بالقدر الذي يَفسح المجال لـ”صانع التغيير” أن يستوعب ذاك الرصيدَ، فيواري سوأته ويؤسس به شرعيته ويمنحنا حَسب زعمه “عهداً جديداً” مشبَعاً بعقلانية المدار وحداثية الخيار ووطنية المسار.
إلا أن التونسيين عينَهم منذ سنة 1987 وجيل جديد على إثرهم، سينتظرون أيضا طوال ثلاثة وعشرين عاما قبل أن يشرعوا في قراءة تاريح حركة النضال الوطني ضد الاستبداد، ذلك أن نظام بن علي قد نصب لهم حصاراً حول الذاكرة الوطنية المناضلة، فأخرس صحفاً وشرّد أحزاباً وألجم مثقفين وسجن سياسيين ثم إن “العهد الجديد” ضربَ حُجُباً على الفضاء الافتراضي، وصادر تقاليد ثقافية ومنابر فكرية وحركة أدبية ومراكز بحثية وأبرم إتفاقات مع أقلام مؤجورة ومؤسسات وهمية ورموز إعلامية رخيصة وأحزاب سياسية مستنسخة وطيئة.
وإذا كان بورقيبة قد إستحق برصيده ذاك، عند سواد التونسيين، لقب الزعيم والمجاهد الأكبر، فإنه ليس لرجل مثل بن علي أن يرضى بأقل من أن يكون إلهاً.ولم يكن عجباً أن يسمع الناس جموع التجمّعيين يهتفون بـ ” الله أحد.. ألله أحد ..بن علي ما كيفو حد” وهي إستعارة لـ ” ليس كمثله شيء ” (الآية).
والواقع أن الهاجس الذي دفع هذا العمل إلى أن يستجمع مقالاتٍ كتبتُها خلال السنين الماضية مع تعدد موضوعاتها،كان مسكون بمشغلين هما :
أولهما: لماذا يتوجّب علينا دائماً أن ننتظر عصراً للتدوين حتى نعقل تاريخنا؟ بينما كان يمكن لكل فجر جديد من أيامنا أن يكون عصراً للتدوين وعقلاً للتاريخ عند كل لحظة؟ لماذا يجب أن يستمر السياسي عائقاً دون تدوين الذاكرة الحيّة الناطقة والفاعلة، بينما إنتظار عصر التدوين كان دائماً يجري بغاية، قمع صنّاع التاريخ، فاعلاً بعد فاعل وقضم الذاكرة شاهداً بعد شاهد،وطمس السياقات النفسية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية، حيث بها يتشكّل المجال التأويلي للحدث التاريخي المخصوص، فيتيسر إستعاب منطقه الداخلي، وهي شروط لو غابت عن باحث التاريخ لصار التاريخ عنده حمّالَ أوجهٍ.
وإذا كان ظهور عصر التدوين تاريخيا، دليل على ما بلغته الحواضر العربية الإسلامية من نضج ورشد في شتى العلوم الشرعية و العقلية، وكانت الحاجة إلى التدوين قد جاءت بها سعة أفق رجال السلطة وشغفهم بالعلم والمعرفة، فإن “عصور التدوين” اليوم في تونس تجددت تحت سلطات رجال جاءت بهم حركة التحرر الوطني أو حركات إنقاذ وطني مزعومة،لم تكن مشغولة بغير زعامتها وترميم شرعيتها، ولم يكن لكتابة التاريخ عندهم من حظ إلا بقدر ما ينفخ في صورهم ويعظّم صنيعهم، ويواري طبائع الاستبداد في مسيرتهم.
وقد انشغلت المقالات التي إستجمعها هذا العمل بتدوين لحظات من تاريخ/حاضر البلاد، فرصدت صور من صفحات اليومي من حياة الناس تحت سلطان غاشم، فشخّصت وشرحت وحاكمت وإنتقدت واقترحت وتدبرت و بكت وأبكت و تضامنت وأسندت وصالت عند الميادين وجالت ثم خطت لتاريخ كل لحظة عبرة و عبارة، وجعلت من الحاضر وقد إستوطن كل لحظة همّها ومن المستقبل يَنـبُتُ عن كل فجر شغفَها وإهتمَامَها، وإجتهدت من أجل أن يكون التاريخ، محضنة الأمس واليوم والغد، ومَربط الهنا والهناك، وموطن الفرد والجماعة وحمّال ألوان الطيف وجِماع الفكرة والفرح والمحنة .
ثانيهما: أن تلك المقالات إستفادت من تحقيقاتنا المباشرة في الجمعية الدولية لمساندة المساجين السياسيين، ففاض بها الفكر والشجن وجادت بها القريحة والعقل، بعد أن ضاق بها خطاب بيان الجمعية وإنضباطُه، إذ كان عليه أن يلتزم مراقبة الإنتهاك ثم إدانته ويستند للعهود الدولية ومواثيق حقوق الإنسان وإليها يحتكم. فجاءت تلك المقالات، بمقاربة جديدة لتاريخِ محنة المجتمع وأفراده، و هي تدوّن وتصوّر عند اللحظة ومنعطفِها معارك صغرى في مواجهة حُكمٌ غاشم غالَبَه الجوع و شهوة السلطة، فهي مقالات مشغولة بهاجس الإجتماع البشري و تاريخ نضاله لحظة بعد لحظة، فكانت تلاحق التاريخ في كل موطىء، وتتأمل الأغوار النفسية والاجتماعية في الرأي والحركة، من أجل تاريخ حيّ، الآن وهنا، وهي في الأخير مقالات لا تثقُ اليوم بـ “عصر التدوين” ولا تنتظره، لأنه هو ذاته عصر العوائق الإبستيمولوجية، فتعهّدت تلكم المقالات في حينها بتدوين تاريخ اللحظة وتصويرها وإن حاصرتها السياسات الغاشمة و طوقها بوليس الفكر والرأي والضمير …فمنتهى القصد تحرير الذاكرة عن السياسي وكتابة تاريخنا اليوم… وليس غداً…/
الخاتمة
حبن يتحوّل الحاضر إلى مشغل من مشاغل التاريخ ويُدرَج هذا التاريخ/ الحاضر ضمن أولويات جدول أعمال المشتغلين في شتى حقول العلوم الإنسانية و المؤسسات العلمية والمراكز البحثية، فإن آليات البحث العلمي بعقلانيتها النقدية في الإنسانيات ستُسهم في تطوير معرفتنا التاريخية ونحت تصوّرٍ للذات أكثر واقعية وستحفّز الحاضر من أجل إستنهاضه وستستشرف المستقبل من أجل الوقوف على احتمالاته.
وحين يَبلُغ وعيُّ التونسيين نضجَه على نحو يُدركون معه أن تصفيح المعركة ضد الإستبداد يقتضي تشريح تاريخه وإكتشاف وسائله ومناهجه المعتمدة بغاية السطو على إرادة المجتمع أفراده وهيئاته، فإن ذلك لامحالة سيُسهم في:
تنمية الحياة السياسية في تونس بعد عقود من التصحر.
نقل الفعل السياسي من دائرة الفعل الحزبي بمستواه البرغماتي إلى مستوى الوعي بأنه فَعلٌ يَصنع التاريخ الآن ويُدوّنه.
والواقع أن الاستبداد المعاصر”عندنا”لم يُدَوَّن بعدُ، إذ لم يَكن من تقاليد الأجيال السابقة من التونسين أن يدوِّنوا تجربتهم السياسية مع الإستبداد ماضياً وحاضراً ولا كان من تقاليد البحث في العلوم الإنسانية ولاسيما مادة التاريخ المعاصر أن يُدوِّنَ هذا البحث ماضيَه وحاضرَه، ولا كان من مقاصدِه أن يَكتُبَ له تاريخاً علميّاً.
ومع أن تقاليد العلم “عندنا” وغايته هو أن تحُصِّل الذاكرةُ من العلم والمعرفة ما شاء لها أن تحصّل، فإن تقاليد السياسة “عندنا” هو أن تمحو ما راكمته الذاكرة من سياسة ما شاء للإستبداد أن يمحو وأن تتنكر لتجربتها وأن تنسى عذابات الجسد والروح ومراراتها.
لم يَكتب الزيتونيون يوميات إضطهادهم ولا كتب اليوسفيون سجلات تصفياتهم ولا دوّن رجال محاولة 1962 الإنقلابية عذاباتهم ولاحبّر العروبيون أسفارأً لتشريدهم ولا أعد اليساريون للسرّية دفاترهم ولا كراريسَ لسجونهم ولا خط النقابيون لمصادماتهم مع السلطة وَرَقاتهم ولا أبّن الإسلاميون قوافل الموت البطىء من إخوانهم ولا رتبوا قائمات بعشرات الآلاف من سجنائهم. ولم يخرج من ذاكرة كلّ تلك الجدران الصامتة إلا بعضاً من العناوين اليتيمة لم تبلغ بعدُ حد تشكيل رصيدٍ للذاكرة الجماعية يُضاهِي حجم التجربة الزاخرة لعقود خمسة من نضالات التونسيين في مواجهة الاستبداد.
ولعل أكثر المشكلات المستعجَلة التي تثيرها اليوم مسألة كتابة تاريخنا الحاضر هي تلك التي تتعلق بمصادر بحث التاريخ الحاضر، لاسيما وأن هذا النوع من التاريخ يجد في تونس اليوم إسنادا شعبياً عبرتْ عنه كل أشكال الاحتجاج التي شهدتها البلاد منذ الأيام الأولى لسقوط بن عليّ ضد عمليّات تهريب وإعدام أرشيفات المؤسسات الرسمية، السياسية والاقتصادية والأمنية ناهيك عن أرشيف التجّمع الدستوري الديمقراطي (الحاكم بأمره).
إن التاريخ الحاضر عِلمٌ فتيٌ يتلمس طريقه للإعتراف به بين مصاف العلوم الإنسانية، ويحمل آمالاً لترقية وعيٍ، ويَعقد وعوداً لترشيد سياسة و يرسم في الأفق طموحاً لتصفيح معركتنا المستمرة ضد الاستبداد، أيِّ استبدادٍ سواء أكان استبداداً ينتعل التقدم ويتزيَّى بجبّة الحداثة أم كان استبداداً يَتعمّمُ الشرعية التاريخية ويَتربَعُ على حصير الوطنية، أو كان استبداداً يَقُدُّ لنفسه من الدين تأويلاً لا تستقيم به كرامة ولا يَنهض عليه عدل و لا يُشاع به خبز ولا زيت. وسيظل رهانُنَا كبيرًا على هذا التاريخ الحاضر في أن يؤسس أولى لبِنات ثقافة القطع مع الأنظمة الدكتاتورية.
غير أن الصحف التونسية وهي إحدى مصادر هذا التاريخ، لئن استطاعت في العهد البورقيبي، أن تستفيد من بعض هوامش الحرية في مراحل متقطعة لتعكس حيوية الواقع التونسي وتكون شاهدة عليه، فإن عهد بن علي كان عهدًا أصفرَ على الصحافة أغبرَ على حرية التعبير خسرت فيها الصحافة التونسية ماء وجهها وقُدرتها على المساهمة في رصيد الذاكرة. أما وزارة الداخلية وهي التي أصاب الإتلاف بعض أرشيفاتها، فإنها مدعوة اليوم، وهي تعمَل، على حد قولها، على إحداث إصلاحات هيكيّلية، مدعوة إلى أن تفتح أرشيفاتها لجمهور الباحثين، لعهود قَطََعَ معها اليومَ الشعبُ التونسي وعياً وثقافةً وسياسةً، كما على مؤسسة الإذاعة الوطنية ومؤسسة التلفزة التونسية أيضا أن تمنح التونسيين إعلاميين وسينمائيين وأدباء وباحثين في شتى تخصصات العلوم الإنسانية، بدورها بطاقة عبور للوصول إلى كل المواد السمعية والبصرية التي أنتجتها. و يَنسَحب هذا الكلام بصورة خاصة ومستعجلة أيضا على مدونات التونسيين والمواقع الإلكترونية التونسية لاسيما منها تلك التي كانت تتعرّض للحجب و القرصنة خلال العشرية الأولى من الألفية الثالثة. والتي واكبت المخاضات الحقوقية والاجتماعية والسياسية في تونس قلماً وصوتاً وصورة، لتجميع أرشيفاتها الالكترونية في بنك معلومات يصونها، كما يتعيّن عدم إهدار ما يتيحه محرك البحث غوغل والصفحات الإجتماعية كـ”تويتر” و”يوتيوب” (youtube) وتجميع ما جاء فيها من أخبار وفيديوهات قصيرة وسجالات في صفحات التونسيين الاجتماعية بـ”الفايس بوك”…فيُخشى أن يُحرَم التونسيون من مصادر معلومات حية ومهمة لبحث تاريخهم الحاضر لو أن صاحب الفايس بوك مثلاً قرر يوماً غلق بواباته في وجوهنا وفتحَ بدل الفايس بوك… محلات بِقَالَة…أو لمُجَة خفيفة.. فأي مآل سيَكون لمصادر تاريخ التونسيين الحاضر حينئذ؟.
iThere are no comments
Add yours