بسم الله الرحمان الرحيم
بقلم محمد الفاضل
حين تغادر بلقيس القصيدة [*]
لََيْتَ بٍِلْقٍيسُ يَشْدُو بٍهَا نِزَارُ ** لَيْتَ أَحْلاَمَهَا تَنْظُُمُهَا القَصٍيدَة
ليت معلقات العُرْب تسمعها ** وليت الذي بين قوافيها حقيقة
وَيْكَأنَ نزاراً أسكتَ شِعرَه ** وجاءت غيبته بأقاصيص جديدة
وَيْكَأنَ أحلام الورى أضغاثٌ ** مُذْ غادرت بلقيس بيت القصيدة
منذ السنة الثانية من عمرها وإلى السنة التاسعة منه، أي بين سنتي[1991-1998] ، لم تكن بلقيس تعرف أي مشاعر يمكن أن تلفها عبارة ” أبي” ، فكل ما استطاعت أن تدركه ، هو أن رجلاً ما ينادى بـ”أبي” كان يجب أن يكون برفقتها و صحبة والدتها وأنّه، أسوة بالأطفال الصغار من أترابها ، كان عليه أن يلازمها إلى مداخل روضة الأطفال و إلى بوابة المدرسة وأن يتجوّل بها في حديقة الحيوان، فيذكر لها أسماء طيورها وأسماكها ، زواحفها ودوابها ، ويمييز لها لاحمها عن عاشبها عن كالشها وتأخذ معه صوراً تذكارية إن شاءت عند حضيرة الفيلة وأخرى عند حضيرة الدببة وثالثة عند قفص القرود ويصطحبها إلى مدينة الأطفال كلما طلبت منه، فيتنقل بها بين الألعاب بأنواعها و الأرجوحات بأشكالها. غير أن” أبي” هذا ، لم يكن يعني في نفس بلقيس أكثر من ذلك “الشيء” الضروري الذي لم تفقه كنهه بعد، وهي أيضاً تدرك بعض أطيافه من رسائل َسَلمتْهَا إياها والدتُها ، و كان يقال لها دوماً أنها وصلت في التو والساعة من وراء البحار : فهذه رسائل” أبيـــــ”ــكِ بعث بها إليك من بلاد هجرته ، تأملي حروفها ، تخيلي صورها ،تنشّقي عبق رائحتها فستجدين “أبا”ك واقفاً خلف حروفها ، شاخصاً إليكِ من بين صورها ، باسطاً إليكِ يداه يعانقكِ برائحتها ، لكن حذاري.. فإن كنتِ تطلبين له السلامة، فلا تشيعي حروفها و لا تفشي صورَها و لا تُذْرٍي ما تجدين من ريحها..
كان على بلقيس أن تأخذ بتوصيات أمّها و تغالب نفسها في وجه الإستفهام ، بل كان عليها أيضاً أن تتعهد بوأد السؤال تلو السؤال عن هذا الـ” أبي” كلما إشتدت عليها أسئلتها الحائرة: من… ؟ أين… ؟ ما… ؟ كيف… ؟ لماذا…؟ فقد كان هذا الذي يقال له”أبي” مُحرّم على السؤال، مُحرّم على الكلام، مُحرّم على الخيال…مُحرّم على الأحلام .فعلى بلقيس أن تكون أكثر إنضباطاً كلما تعلق الأمر بهذا” الشيء” وإلا أُلقى القادمون من وجوه الليل عليه القبض في غفلة الإستفهام ، أو هم إختطفوه من زلة اللسان ، وقد يقعدوا له، ومن يدري ،عند مجاري الخيال أو يعتقلوه من الجفون في المنام . كانت توصيات والدتها أن تغلق بلقيس كل المنافذ على السؤال وإلا أوقعت هذا الـ” أبي” في كمين قد ينصبه له القادمون عند الليل ، فيداهمون المنزل ويداهمون الغرفة بعد الغرفة ويداهمون الثلاجة ويداهمون صندوق الصاغة، ومحفظة النقود ويداهمون خوالج النفس وما تخفي الصدور. كانت بلقيس تدرك أن شيئاً عزيزاً يسمى “أبي” يجب أن لا يقع بين يدي وجوه الليل ولا بين فكي كلابهم ، ومن أجل سلامته ،عليها أن تخفي هذا “العزيز” بعيداً عن الكلام ، وأن تقصيه بمنأى عن الهُيام ، وأن تَلزَمَ الحيطة في الأحلام .
أدركت بلقيس يوماً بعد يوم ،أن هذا” الشيء” الضروري الذي يقال له “أبي” هو شبيه بأولائك الـ”أبي” الذين لم تُفلِتْهم أبداً بلقيس بنظراتها ولم يكن يوماً ليشغلها شيء عن مراقبتهم وهم يرافقون أترابها من الأطفال إلى بوابات المدارس .
وحين بلغت بلقيس سنتها التاسعة أخذت عليها والدتها موثقاً أن لاتفشي سراً إن همست به إليها ، ثم ما لبثت أن أدخلتها غرفة مهجورة في حديقة المنزل لتجد بلقيس نفسها أمام رجل قيل لها : أنه ” أبي” الذي كان يكتب إليكِ الرسائل ويرسلها إليكِ من وراء الجدران من مسافة بضع أمتار فقط ، وأنه ما كان قبل اليوم ولسبع سنين مضت ،وراء البحار، ولا غادر مذ دخل الغرفة تلك الجدران ، وهويحتمي بضيقها وحالك عتمتها ممن إن أظلمت الدنيا جاؤوا إلى أمّها يطلبون جلده وعظمه .
..إذاً كان ذاك “أبي…” وذاك مهجره… كان هذا إذن هو “أبي….وذاك مخبأه… أبي….أبي…هذا…أبي..تسعُ سنين تجمدت فيها أسئلة بلقيس..وتجمّد معها الشوق والإحساس ،.. فأبي..هي عبارة تعلمتها بلقيس لتطلقها على رجل جاء بها إلى هذا الوجود …. وهو الذي إن غاب إحتاجه كل طفل كلما وقف وحده عند مداخل رياض الأطفال أوعند بوابات المدارس ، وهو الذي لا يستغني عنه الأطفال إن هم إستدعتهم أحلامهم إلى التجوّل في حديقة الحيوان أو التنقل بين أرجوحات مدينة الألعاب. وأبي هوذاك الذي أخفته بلقيس عن نفسها حتى لاينطق به اللسان ولاتصل إليه مخابرات الأحلام .. وإن سمعت أصداء نداءاته من قاع وجدانها سكتت عنه و إن أضرم فيها الشوق أحياناً نيرانه أخمدت ألسنته ،وإن إنبعث منه، في نفسها، معناً للعيش بدد خوفها مُعْجَمَه .
صارت بلقيس تجتمع إلى أبيها في مخبئه…وإلتحق من بعدها أخوها الصغير شُعَيبُ بعد أن درّبتْه أمّه على الكتمان..وبدأت الفتاة الصغيرة بمعية أخيها يكتشفان أغواراً جديدة في نفس أبيهما ، فقد كان الرجل يعين زوجته على خياطة الجلود المعدة للأحذية وكان الأجر الذي يتوفران عليه من ورشات صناعة الأحذية مقابل تلك الخدمة ، إن لم يلبي الحاجة فسيكتفيان به لسد الرمق . وفيما عدا أعماله تلك لمساعدة الزوجة كان والد بلقيس يقضي في مخبئه أغلب أيامه صائماً وأكثر لياليه قائماً ، ومعظم وقته متدبّراً للقرآن، مطالعاً لكُتــُبُ العلم والعرفان. وإغتنمت بلقيس مايمكنها أن تغتنم من الوقت لتستعين بأبيها لتتدارك ما تهاونت عليه من قبلُ من دروس ، حتى أدركتها ، وصار المخبأ يستهويها فزالت لها جدرانه وترامت في نظرها أطرافه وامتدت في خيالها مساحته وانقلب ضيقه ،وهي تلازم فيه أباها، روضاً من رياض الجنة ،وأصبح وهي تستمع فيه إلى أبيها يروي سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وسير من كان قبله من أولي العزم ،داراً للأرقم ابن أبي الأرقم …كانت أيام المخبأ ،مع الخوف ،أجمل أيامها ومع الحيطة والحذر، أحلى خلواتها …ومثلما ملأ أبوها الغرفة بأنفاس الأنبياء وسير الأصحاب والصالحين فقد علمت بلقيس أن لأبيها رفاقاً يقول أنهم إخواناً له مسهم بأس شديد،و لا يزالون في قبضة وجوه الليل ، يسومونهم سوء العذاب ، يقبعون في أقفاص كتلك التي تُحْجَزُ فيها الهوام والدواب في حديقة الحيوان و يشتكي أبناءهم وأزواجهم قلة حيلتهم وهوانهم على الناس..ويعانون من قريب يتجهمهم ومن عدو تملك أمرهم .
وبعد أن تعرف الطفلان خلال تلك السنوات الثلاث إلي أبيهما، قرر الأب في سنة2001 أن يغادر مخبأه، ويفارق ملجأه، إذ لم تعد تحتمل نفسُه العزلة ولم يعد قلبه حريص على السلامة، واستوى عنده في طلب الحرية، الحبسُ والندامة ، بعد أن أنفق السنين الثلاثة كلها يهوّن على أهله البليّة و يوطّن في نفوس أطفاله النهج ويأصل فيهم القضية. ويوم خروجه ،كانت بلقيس وأخيها شعيب يقفزان ،يرتعدان ،ينتحبان وهما يراقبان أباهما يفتح الباب ويتأهب للمغادرة ، لم تكن بلقيس مع ذلك حزينة ، فقد اختلطت عليها مشاعرها ، بعضها خوف وبعضها فرح وبعضها الآخر ظلت معانيها مبهمة لديها .. ركض الطفلان إلى الباب يراقبان من بعيد خطى والدهما…..إنه يمشي في الطريق تماماً كما يمشي الأخرون.!!!….كان أمراً عجباً، فلأول مرة ترى بلقيس أباها يعبر شارعاً ، ويمدُ خطاه ويلتهم الفسحة تلو الفسحة ، لأول مرة ترى بلقيس أباها يغمره ضوء الشمس وتحرسه جميع الألوان القزحية ،لأول مرة ترى أباها ينساب في جموع الناس طيفُه وينغمس بين ظهرانيهم ظلّه ،كانت لحظة تكشّفت لبلقيس فيها زاوية نظر جديدة لأب تلازمت صورته في ذاكرتها مع الضيق والعتمة والعزلة والحذر من الناس واليوم تتملكها دهشة مشوبة بخوف، مخلوطة بأمل، مسكونة بفرح وهي ترى أباها يخطو حراً، خُطاً طليقة في المدى .
خلال العشر سنوات التي قضاها والد بلقيس في مخبئه ، كانت تقاسيم جديدة قد نبتت في وجهه ، لتختفي وراءها تلك الملامح التي كان وجوه الليل يتعقّبونها ، ومع قليل من الإجتهاد في تغيير الهيئة ، توارت بالكلية صورة الرجل المطلوب جِلده وعظمه ، وحين عاد بعد شهر إلى أهله في هيأته الجديدة قال أنه أصبح ” سي نجيب” وأنه منذ اليوم شريك “أم بلقيس” في ورشة صناعة الحلويات ، وأنه سيأتي كل يوم يأخذ كميات من الحلويات ليبيعها لحرفائه الكثر…كانت الحرية مطلبه وتوفير القوت حجته والقرب إلى الأهل والأطفال قرة عينه .. .وحين تحسنت المداخيل قليلاً غادرت العائلة بيت الأجداد لتتسوّغ في منطقة أخرى منزلاً يمكن أن تجتمع فيه تحت سقف واحد ،وكان “سي نجيب” كثيراً ما يجدد السقف ويرتحل من منزل إلى غيره كلما أحس أنه لم يعد يقدر على وقف سيل معارفه الجدد ، فهو إجتماعي بالسليقة ، خدوم بالفطرة ، طيّب المعشر بالطبيعة و حسن الخلق إلى مابعد الطبيعة .إلا أن بلقيس لم يكن يتسنى لها ، وبخاصة إن هي خرجت من تحت تلك السقوف ،أن تهنأ بأبيها “سي نجيب” فقد كان عليها مجدداً أن تُخَبٍِِّأ أباها في سراديب ذاكرتها و تتظاهر أمام الناس بمشاعر باردة تجاه رجل ما كان لها به من علاقة لولا الشراكة في الحلويات ،لكن إن جازف أبوها بالخروج بأفراد عائلته جميعهم للنزهة فسيستولي الهلع على نفوسهم ،كلما صادفهم صديق أوقريب أو إستوقفت طريقهم دورية حرس المرور وطلبت أوراق السيارة أو هوياتهم الشخصية ،كانت النزهة عندها دوساً على الأعصاب والجلوس بالمحلات العامة قطعاً للأنفاس ،كان الحذر يرافقها مثل الصاحب والجليس والخوف يلازمها مثل الصديق والقرين ، فلو كشف أحد ملامح أبيها الغائرة فربما بلغ وجوه الليل الخبر فحلت بها وبوالدتها الطامة ، فيُعَاقـبَ الجميع لفرح إختلسوه من غير إذن السلطات ، وسيُدَانُ الصغار والكبار على ما أخفتْ صدورهم وتحدثت به أنفسهم وهمست به شفاههم وأومأت به أطرافهم ….
وإلى سنة 2005 كان قد مضى خمسة عشر عاماً على محاكمة والد بلقيس غيابياً ،تلك التي فيها سلط القضاء عليه عقوبة بالسجن لإثني عشر عاماً،وربما كانت بعض أحلام والدها قد ذهبت به إلى أن عفوا عاماً، يُطبخ بليل أو أن رأفة أو تسامحاً قد يفيض بهما قلب الحاكم إن سلّم” سي نجيب” نفسه لوجوه الليل وأنهى مسلسل المطاردة …كان حالماً زادُه الخيال والقضية… ، وكان وجوه الليل ، وقد تحصنوا بولاء القضاء والتشريع لاستئصال ” الظلامية” ، يتربصون به الدوائر ، فَـنُصِبَتْ المحكمة وَوَضَعَ القُضَاةُ الميزان ورفعوا به “العدل والإحسان”.. ستة سنوات أخر عليه أن يقضيها في السجن….لكن بلقيس لم تفوّت مناسبة قمة مجتمع المعلومات التي إنعقدت في تونس في نوفمبر2005 لتخبر العالم كله أن لها أباً مثل الأخرين غير أنه سُرق منها منذ خمسة عشر عاماً وحُرمَت منه لحظة إكتشفت فيه ذاتها وإستردت منه النسبة والهوية وهي اليوم عليها أن تنتظر ستة سنوات أخر لتراه مجدداً يعبر شارعاً ويلتهم فسحة بعد فسحة ولأنها تظن أنها المستهدفة بالعقاب قبل أبيها ولأنها سُلِبَتْ أعزّ”أشيائها” أضربت بلقيس ووالدتها عن الطعام إثنى عشر يوماً إحتجاجاً على “عَدْلِ” وجوه الليل وتنديداً بـ”إحسانهم” وأسمعت وفود العالم إلى بلادها ظلمَ ” ذوي القربى” ، وأشْهَدَتْهُم على المُنَكرٍِ والبَغْي الذي كانت آلة القمع قد أتت به على عشرات الآلاف من الأبرياء [1] ممن سمعت أباها يوماً يصفهم بإخوانه…
في أول زيارة لأبيها بالسجن ، كاد صوت السجان يخطف سمعها وهو ينادي :حاتم زروق بصوت جهوري ، ففي السجن فقط سمعت بلقيس لأول مرة إسم أبيها ، لم تصدق أن هذا يحدث ، فقد حرّموا عليها نطقه وحرموا عليها سماعه و خط حروفه. لم تصدق أنها الآن يمكن أن تنادي أباها بإسمه، وأن أحدٌ لم يعد بعد اليوم مضطراً إلى أن يهمس به ،ومع رقة الإسم ولطفه فقد ثقُل على لسان بلقيس ،أول الأمر، نطقه، ثم بدأت تروق لها حروفه وتجد بين مقاطعه لحناً ألفتْه منذ الطفولة روحُها ، فقد نقشت السنون رَجْعُ أصداءه المكتومة في القلب والكبد..وإنقضت المقابلة الأولى دون أن تُحَدّثَ أباها في شيىء ،غير أنها أمضت الحصة كلها تلهج بإسم أبيها ، حـــاتم ..كيف حالك ياحــاتم..أنت حـــاتم زروق ..حقيقة، أنت حــاتم زروق..هذا أبي… حـاتم، أنت أبي…حـــاتم..وحين عادت إلى بيت جدها ملأت الدنيا أحاديثاً عن أبيها وجمعت حولها كل الصغار تروي لهم عن أبيها القصص ، وراحت تذكّر الأقرباء والجيران والصديقات بإسمه وتعيد بدل المرة ، ألف مرة : إن لم تسمعوا ، فإسمعوا وإن لم تعوا ، فعوا : أن أبي إستوطن أخيراً إسمه ومَبْنَاه و إنحازت التسمية إلى مسماه وزاوج اللفظُ معناه ، فحاتم زروق هو الرجل الذي “شَيَئَتْهُ” المحنة في عقل أبنائه ،وطمس ملامحه عَقدُ الجَمْرٍ ونصفه، وجعل منه عنواناً فارغاً ، ووشيجة بدون كبد ، ومواطن بدون وطن ، وقصة بدون بطل ، ومظلوم ليس له غير الظلمة في منتهى النفق. ففي عقد الجمر ونصفه سَكَنَتْ الفواجع قلوب الأهل والعشيرة و ضيّقت عليهم سبل المناسك والشعيرة ومُنعت عليهم طواحين الخبز والرغيف.وحين كانت بلقيس تلهج بإسم أبيها وتليّن على لسانها تـقـطّّّيعَ صواتمه ، كانت تتلهى بالبحث له في ذاكرتها عن موقع تنحت له فيها حروفه ، وترسّخ له فيها موطأ قدمه وتشحن صور أبيها بإيقاع تلك الحروف وأنغام مقاطعه …
كانت الزيارة الأولى والزيارات التي تليها قد مكّنت بلقيس من أن تتعرّف إلى إخوان أبيها ،كانت تسمع عنهم الكثير وتَعُـدُهُم أبطال المحنة و الشُمُ مِنَ المستضعفين في الأرض ، كانت تسمع عن الشيخ منصف الورغي [2] وبراعته الرياضية في فنون القتال حتى إلتقته بالسجن يوم زيارتها لأبيها وراء القضبان وكانت المنة أن تعرفت أيضاً إلى الهاشمي المكي [3]الذي لا تفارق الحمد لله لسانه ،فقد كانا كلاهما شريكان لأبيها في غرفة السجن ، وهي تذكر ما كان يهمس به أباها إلى أمّها: أن أخبري زوجته ، فالهاشمي يعاني من مرض عضال و لا أحد بإدارة السجن يهتم بأمره..وجميعهم منذ وقت يتهمونه بالتمارض .
حين اُطلق سراح الشيخ الورغي في فيفري2006 ، لازمت بلقيس مع بناته بيته واستوطنت بين عائلته منزله : كان “عم منصف” خفيف الظل ،طيب المعشر، مهاباً بين أهله وصحبه ،لا تفارق الإبتسامة وجهه . وهي أيضاً ،حين نُقل الهاشمي المكي إلى المستشفى بأريانة ، لم تتخلف بلقيس يوماً عن زيارته ، تحدثه عن أبنائه ويحدثها عن أبيها ، تشد أزره بالدعاء له بالشفاء والعافية ويواسيها ناصحاً بالصبر والتجلد قال لها : من مزايا السجن عليه أن عرّفه بأبيها حاتم زروق…أدركتْ بلقيس أن لأبيها إخواناً لم يكن يعرفهم قبل السجن وإنما الإنتماء للقضية والإبتلاء بالمحنة آخ بينهم. وهي لن تنس إن نسيت كيف يتمدد الهاشمي بالمستشفى مغلولة رجله إلى السرير و لن تنس إن نسيت قوله يوم داعبته إبنته بدغدغة رجله فلم يحرّكها ، فسألت ضحى أباها: ألا تشعرُ بشيء ؟ فأجابها قائلاً: (..قتلوا الإحساس فينا ** غيّبوا فينا الهوية.. ) [4]
تدرك بلقيس جيداً اليوم، أيُّ غُبن كان يَحفرُ قلبَ “عم الهاشمي” وهو الذي إثر تلك الكلمات الحزينة التي أجاب بها إبنته ، لم يزد بعدها غير أربعة أشهر ، ليتحرر من قيده ، ومن كل قيد بعد أن قتلوا فيه الجسد حساً بعد حس. وأيُّ حد يمكن أن يبلغه مظلوم بعد أن تُرك”عم الهاشمي” للمرض العضال ينهش لحمه وعظمه وأي نسف للذات و الهوية أَمَرّ من أن يَبْلُغَ بتعذيب المرىء حداً يُفقده الذاكرة و يُنسيه إسمه ويُمحوا من ذاكرته فلدة الكبد [5]. بلقيس تفهم ، مع الفارق، أن ما أصاب “عم الهاشمي” هو تماماً الوجه الأخر لما كان قد أصابها ، حين شيّؤوا الـ” أبي” في نفسها ومنعوها من أن تنسب نفسها إلى والدها مثل كل الأنام ، ونصبوا لها الكمائن في الأحلام ، وزرعوا لها الألغام في الكلام ..
لم تنتهي القصة بعد ، فبلقيس تعتقد اليوم أن من مزايا المحنة عليها، مع مرارتها، أََنْ عَدّدَ السجن لِلْْقِصَةِ أَبْطَالَهَا وَدَفَعَ إلى الرُشدِ المُبَكر صِغارَهَا وجعل شرفَ المِحنة عُنوانَها و مَدَدَ للوَشائِجَ أوصالها من الأصُولِ إلى الفروع إلى الفصول إلى المستضعفين والأحرار إلى كل أهل الأرض و المدائن وانكشفتْ حقيقة وجوه الليل وطغيانها .ولأنها أدركت اليوم أن محنة الكبار كانت لقطع نباتهم ووأد أنسالهم ، وقلع عروقهم ، ونسخ عروشهم وبتر أنسابهم ..فقد وعت بلقيس والصغار من أهل المحنة ، أنهم إن تخطوا الألم ساعة فستصبح المحنة وَعْيَ و قضيةَ كل ساعة . فالبراعم التي حُشرت مع الكبار في المحنة،صارت اليوم شهود المظلمة و شموع أخر النفق .
[*] هذه الأسطر ليست شعراً ولا تنتمي لأي بحر من بحور الشعر، وقد جاءت أول الكلام من غير ترتيب، فآثرنا أن تتصدّر المقال على نحو ما جاء بها الكلام عفواً، وبلقيس التي نروي حكايتها ليست تلك التي أذاعت القصيدة صيتها يوم كان نزار القباني يتغنى بها ، وإنما القصة التي نحن بصدد رواية فصولها ، تذهب في مداها بعيداً عن غنائيات نزار ، فمأساة الطفولة التي نعرضها لم يعد يسعها عمود الشعر ولا تفعيلاته . لذلك نتحدث عن بلقيس وقد غادرت القصيدة النزارية بكل إيقاعات أنغامها وإنتشاء أفراحها ونبض الحياة التي تسكنها و حين تغادر بلقيس القصيدة فلأن المحنة لم تسرق منها أباها فقط و لم ترسّخ في نفسها معاني الخوف والهلع والإعتداء على المحارم وحسب ولم تحاصر فيها المشاعر الإنسانية التي أنبتتها الأمومة و وشائج الأبوة أخيراً ،وإنما أيضاً عمقت فيها مشاعر الإستضعاف والقهر والغبن وهي التي كانت مع أطفال جيلها من أهل المحنة شهود على الموت البطيىء لرجال سمعت وأبصرت وتذوقت وأحست وعقلت محنتهم وخبرت خلقهم وإنسانيتهم.
[1] الأية التي شكلت الأساس الذي أقام عمربن عبد العزيز عليها حكمه منذ أول يوم تولى فيها الخلافة :‹‹ إن الله يأمر بالعدل و الإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعضكم لعلكم تتقون ›› الآية …سورة….
[2] الشيخ منصف الورغي سجين سياسي سابق ،( maitre) معلم فنون القتال ،إنتشرت شهرته في الأفاق لكفاءته العالية في هذا المجال ،جرى إعتقاله خلال حملة التسعينات ولم يطلق سراحه إلا في فيفري 2006.
[3] الهاشمي المكي جرى إعتقاله في تسعينات القرن الماضي ، أطلق سراحه بعد أن تأكدت حكومتنا الطيبة من أن سلامة البلاد لن تتضرر بخروجه لأن الداء الخبيث الذي سكن جسد سيقضي عليه ولن يسعفه طويلاً . وافته المنية في جويلية2006 أي بعد أربعة أشهر من إطلاق سراحه .
[4] من القصيد الغنائي الذي كانت فرقة عشاق الوطن التونسية تؤديه في الاحتفالات التي كان ينظمها الطلبة بالجامعة التونسية في ثمانينات القرن الماضي.
[5] نتيجة لما تعرض له خلال التحقيق فقد الهاشمي المكي الذاكرة ولم يعد يستطيع التعرف على زوجته وأبنائه وظل على تلك الحالة لسنتين عرض على خلالها على القضاء في تلك الحالة ليقضي في حقه 36سنة سجن
iThere are no comments
Add yours