خلافا لما راج قبل أسابيع، جاء خطاب الرئيس بن علي – الذي ألقاه بمناسبة مرور خمسين سنة عن استقلال تونس – خاليا من إجراءات سياسية لافتة من شأنها أن تحدث حيوية طالما انتظرها الكثيرون.
ومع أن المشاغل الإقتصادية والإجتماعية استأثرت بالإهتمام، إلا أن الملفات السياسية لم تكن غائبة تماما عن الصورة.
لقد اعتبر البعض أن هذه المناسبة كانت تشكل فرصة لتقييم مسيرة الدولة التونسية، التي مرت بتطورات هامة وبأزمات حادة منذ أن تم الإعلان عن تأسيسها يوم 20 مارس 1956. وإذ تميزت هذه المسيرة بتحقيق مكاسب استثنائية بسبب رهان القيادة السياسية على عدد من الاختيارات الاستراتيجية مثل النهوض بالنساء، والتحكم في نسبة الولادات، ودعم الطبقة الوسطى والاستثمار في مجال التعليم، إلا أن هذه الدولة الصغيرة بقيت محكومة بخلل كامن في نظامها السياسي. فهذا النظام بقي يرفض منذ تأسيسه الفصل بين الحزب والدولة، مما أعاق المؤسسات، وأبقى المجتمع المدني في حالة هشاشة دائمة.
من هذا المنطلق، ونظرا للاحتقان السياسي الذي يشير إليه عديد المراقبين، توقع البعض بما في ذلك أطراف قريبة من السلطة، أن يحمل خطاب الرئيس بن علي توجهات وقرارات جديدة تخلق حراكا يكون شبيها بالذي حصل على إثر توليه السلطة قبل حوالي 19 عاما.
إشارات وتلميحات
لكن بالرغم من أن الخطاب طغت عليه نبرة الثقة في النفس واستعراض ما تحقق من إنجازات في المجالين الاقتصادي والاجتماعي، إلا أنه تضمن عددا من الإشارات والتلميحات السياسية، التي بدت وكأنها رد على بعض ما تردد في تونس منذ أشهر عديدة. ويمكن الاكتفاء في هذا السياق بالإشارة إلى مثالين:
يتهم شق عريض من أحزاب المعارضة النظام بأنه حاصر العمل السياسي المستقل، ويهب بعضهم إلى حد القول بأن السلطة قد “قتلت السياسة” في تونس. لكن الخطاب الرئاسي تضمن تأكيدا على أن المرحلة السابقة شهدت “مسارا ثابتا طور الحياة السياسية، ووسع نطاق المشاركة أمام الأحزاب، ومكن مختلف الألوان السياسية والفكرية من الاضطلاع بدورها”. وبينما اعتبرت المعارضة أن التعديل الدستوري الذي فتح المجال أمام عدد لا محدود من الدورات الرئاسية بمثابة “الانتكاسة الخطيرة”، أكد الخطاب من جهته أن “الدستور الجديد أرسى أركان جمهورية الغد وكرس إرادة الشعب”.
تحمل الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان وعديد من منظمات المجتمع المدني السلطة مسؤولية تعثر نشاطها، من خلال المحاصرة الأمنية، والهرسلة القضائية، والعمل على تهميشها. وهو أمر ينفيه النظام، مؤكدا من جهته بأنه قد “فسح سبل العمل أمام المنظمات الوطنية العتيدة ومكونات المجتمع لتضطلع بدورها في الحياة العامة”.
قد يرى البعض في ذلك استمرارا لحوار الصم، حيث لكل من السلطة ومعارضيها رؤية وأولويات مختلفة عن الآخر. ففي الوقت الذي تعالت فيه أصوات احتجاجية معلنة بأن نظام الحكم يقترب من نهاية عهد، وأن البلاد مقدمة على أزمة اقتصادية وسياسية، جاء الخطاب الرئاسي مفعما بالثقة في المستقبل، ومبرزا أنه بفضل النتائج التي حققتها العشرية الماضية فإن تونس “ستلتحق سنة 2009 بكوكبة البلدان ذات المؤشر الأعلى للتنمية البشرية”. كما وعد بأن العشرية القادمة التي تمتد بين سنتي 2007 و 2016 التي سينفذ خلالها المخطط الحادي عشر للتنمية، ستشهد ارتقاء تونس إلى مصاف الدول المتقدمة.
مع ذلك، لم يهاجم الرئيس بن علي هذه المرة منتقديه، في وقت يشن فيه أبرز كوادر الحزب الحاكم (التجمع الدستوري الديمقراطي) حملة سياسية قوية ضد قد أطراف “هيئة 18 أكتوبر للحريات والحقوق”. هذه الهيئة التي أصبحت تشكل إزعاجا قويا للنظام، ليس فقط بسبب الجسور التي مدتها مع الإسلاميين، ولكن أيضا بسبب إصرارها على تغيير أسلوب الاحتجاج، وتحريض التونسيين على التظاهر والنزول إلى الشارع.
“18 أكتوبر” تزعج السلطة
فالنظام الذي نجح في تحقيق حالة استقرار أمني دامت أكثر من ثمانية عشر عاما، غير مطمئن لهذا النمط غير المعهود من التحريض، خاصة في مناخ اجتماعي واقتصادي ينحو تدريجيا إلى شيء من الاحتقان نتيجة عوامل عديدة، بعضها هيكلي والآخر ظرفي.
فبالرغم من أن عدد التونسيين الذين يستجيبون لنداءات التظاهر لا يزال محدودا، إلا أن مستوى التعبئة الأمنية التي تقوم بها السلطة لتشتيت المتجمعين والذي قد تستخدم خلاله القوة، سرعان ما يلفت نظر المواطنين، ويشد اهتمام وسائل الإعلام، وربما يدفع ببعض الأطراف الدولية إلى التعليق بأسلوب يثير انزعاج السلطات التونسية. وقد حدث ذلك في مناسبات متكررة مع الجهات الأمريكية، التي انتقدت منع المعارضين من ممارسة حقهم في التجمع والتنظيم والتعبير.
وقد تجلى انزعاج السلطة من أصحاب مبادرة 18 أكتوبر المتأثرين بتجربة حركة “كفاية” المصرية، في ما ذكره السيد عبد العزيز بن ضياء وزير الدولة المستشار لدى الرئيس بن علي والناطق الرسمي باسم رئاسة الجمهورية.
لقد اعتبر أن الخلاف الأساسي بين السلطة وهذا القسم من المعارضة هو ما وصفه بـ “الاستقواء بالخارج”، الذي سبق وأن أدى إلى “دخول الاستعمار إلى تونس”. وبناء عليه لم يتردد بن ضياء في اتهام خصوم النظام بكونهم “منعدمي الوطنية”. ويعكس ذلك خشية السلطة من أن يتمكن هؤلاء من الصمود، وكسب مزيد من المؤيدين و “الحلفاء”، مما قد يجعل منهم قطبا معارضا يتمتع بقدرة أعلى على التعبئة، وبتأييد إعلامي وسياسي واسع النطاق على الصعيد الدولي.
ولعل هذا الخوف المتزايد من قبل السلطة، هو الذي دفع بـ “المقدوح في وطنيتهم” إلى تأكيد استقلاليتهم السياسية والمالية، لكن مع الاستمرار في محاولات تكثيف الضغط الخارجي على النظام. وبعد الجولة الأوروبية التي سبق وأن قام بها بعض الذين شاركوا في إضراب 18 أكتوبر، يستعد السيد نجيب الشابي، الأمين العام للحزب الديمقراطي التقدمي الذي رفض قبول مساعدة مالية أمريكية في حدود 500 ألف دولار لدعم صحيفة “الموقف” الناطقة باسمه، للتوجه إلى واشنطن بدعوة من مركز دراسات تابع لمؤسسة أمريكان إنتربرايز (American Enterprise). وهو لا يخفي أن الهدف الرئيسي من هذه الزيارة هو التعريف بوجهة نظر المعارضة فيما يسميه بـ “المأزق السياسي لنظام الحكم في تونس”.
بعيدا عن الأضواء
أما بالنسبة لملف سجناء حركة النهضة، الذي كان يتوقع البعض بأن يغلق نهائيا بمناسبة خمسينية عيد الاستقلال، فقد مر الحدث دون اتخاذ إجراءات إضافية، ما عدا الحط من مدة العقوبة لعديد المعتقلين السياسيين، بمن فيهم الأمين العام السابق للاتحاد العام التونسي للطلبة المنحل (عبد الكريم الهاروني).
وبالرغم من إصرار الحكومة على اعتبار من تبقى منهم “مساجين حق عام”، إلا أن بعض المؤشرات تدل على وجود توجه نحو معالجة الملف بعيدا عن الأضواء الإعلامية والسياسية. من ذلك ما تناقلته أوساط قريبة من أوساط حركة النهضة، أن هناك من أجرى اتصالات بعدد من اللاجئين السياسيين المقيمين منذ أكثر من 15 عاما بفرنسا، وأبلغهم بأنه مكلف من قبل السلطة لإعلامهم بأنه في إمكانهم العودة إلى تونس لتسوية أوضاعهم.
قد يكون ذلك غير كاف للقول بقرب حصول انفتاح سياسي، خاصة إذا تمت مقارنة الحالة التونسية بما يجري في دول الجوار، لكن مع ذلك فإن متابعة جزئيات الحياة السياسية والاجتماعية، تشير إلى أن السنوات القليلة الماضية قد شهدت تغيرا طفيفا في المناخ العام. لكن المؤكد أن نظام الحكم لا يزال بعد خمسين عاما من الاستقلال، يعطي الأولوية للملف الاقتصادي والاجتماعي على حساب الإصلاح السياسي. كما أنه يتمتع بدعم خارجي ملحوظ رغم تواتر التحفظات تجاه أسلوبه في إدارة الشأن الداخلي. ولا يزال يتمتع بقدرة على الاستفادة من الأوضاع الإقليمية والدولية، إلى جانب ضعف أحزاب المعارضة وتعاون الاتحاد العام التونسي للشغل، حتى يواصل سيطرته على أجهزة الدولة.
لكن من جهة أخرى، يكاد يجمع المراقبون على الاعتقاد بان نظام الحكم، إذا لم يبادر إلى إعادة ترتيب أوضاعه الداخلية، ولم يتخذ إجراءات ملموسة في الجانب السياسي، فإن السنوات القليلة القادمة ستكون مغايرة ومليئة بمختلف أنواع الصعوبات والتحديات.
صلاح الدين الجورشي – تونس
المصدر : موقع سويس أنفو
iThere are no comments
Add yours