في الحقيقة ينظر ماكس فيبر (عالم الاجتماع الشهير) للاخلاق الإسلامية في الفترة التي سبقت نشأة الدول الوراثية الرئيسية. أي أن فيبر كان يعتبر القرن السابع هو الفترة الحاسمة لتطور الدوافع الإسلامية. وهو في ذلك يرى أن الإسلام قبل الهجرة إلى المدينة كان مفهوماً توحيدياً نقياً يمكن أن يكون قد أنتج زهداً دنيوياً The world Iy Asceticism ولكن الإسلام كان قد اختلف عن هذه “الأخلاق التحولية” إذا ما استخدمنا عبارة ايزنشدات Eisenstadt بفعل قوتين إجتماعيتين. الاولى: المحاربين البدو الذين كانوا كما يدعي فيبر وهم من حملوا إجتماعياً وعلى نحو أساسي الإيمان الإسلامي والذين حولوا الإسلام الىدين شهواني يقوم على التكيف والامتثال Accommodation and Conformity والثانية الطرق الصوفية التي رفضت ملاذ العالم الإسلامي وخلقت عاطفياً أخروياً للعامة. وكانت النتيجة أن الإسلام إحتوى بداخله على أخلاق للمتعة المحسوسة وأخلاق تقوم على رفض العالم ولم يستطع كلا من المقاتلين أو الصوفية أن ينتجوا مجموعة من الدوافع التي تناسب احتياجات الرأسمالية العقلانية، وقد يكون من الضروري نقد كلا من هذين التفسيرين للإسلام.
لقد رأى فيبر أن “رغبة المقاتلين في هزيمة العالم” هي التي اعطت الإسلام نظرة مميزة خاصة ومجموعة من النظم. وفي تبني وحدانية محمد (ص) القرآنية للمصالح الإجتماعية الإقتصادية لأسلوب حياة المقاتلين، أعيد تفسير طلب الخلاص في ضوء فكرة الجهاد من أجل السيطرة على الأرض. وكانت النتيجة هي تحويل الإسلام إلى “دين قومي للمحاربين العرب” و “كدين مقاتلين” فإن فكرة الخلاص الداخلي لم توضح قط. أما العقيدة التقليدية واليقين الداخلي فكانتا أقل أهمية من العضوية في هذا المجتمع وقد انعكس هذا الموقف في فكرتي: دار الإسلام ودار الحرب وأصبح الإلتزام بالطقوس والشعائر الخارجية للدين ونظم المجتمع المحلي أكثر أهمية من الإرتداد الشخصي (Personal – conversion) “فالإسلام القديم كان يقنع بإعلان الولاء لله ولرسوله مع بعض الممارسات والطقوس كأساس للعضوية”. وفي الحقيقة أن مصلحة المحارب في الغنائم والإنتصار قضت على أي دفعة دينية للرده الجماعية حيث أن المسلم المرتد يستطيع دفع ضرائب باهظة كزميله الذي بقي على دينه والإسلام “كدين للسادة” على الرغم من جذوره اليهودية والمسيحية” “لم يكن قط دين خلاص”.
وكان إنكار فيبر للإسلام بأن يكون دين خلاص قد وجد دعماً له في مقارنته بين الشخصية الإسلامية والمسيحية المثالية (Puritan) العامة في مسالتين هامتين هما الشهوانية والترف الشخصي. فحينما عالجت المسيحية المثالية موضوع الممارسة الجنسية كشرط ضروري لحفظ النوع البشري ونظرت إلى الزواج كتشريع نظامي للعلاقة الجيوانية!، فإن الإسلام اعتبر النساء غرض المتعة الجنسية ومثله مثل الباحثين الغربيين في القرن التاسع عشر ذكر فيبر إشارات عادية عن حالة الشهوانية للنبي (ص) نفسه، وإذا ما أخذنا كيف يعامل المحاربون النساء كغنيمة مشروعة فإن موضوع الشهوانية كان سائداً في الإسلام المبكر الى درجة “أن فكرة الآخرة في الإسلام هي عبارة عن جنة شهوانية للجندي”. وهنالك تباين واضح بين موقف المسيحي المثالي تجاه الكماليات والحلى الشخصية وبين الدوافع الإسلامية. ففي الفرق البروتستنية نجد أسلوب الحياة عقلاني ومنظم واستخدام منسق لرأس المال الذي يحافظ عليه بصورة تقليدية رجال العمال الصغار والحرفيين وأصحاب المتاجر. أما في الإسلام فالمحارب والتاجر الشرقي يعتبر استخدام الكماليات الشخصية كمؤشر مناسب لوضعه الإجتماعي داخل المجتمع وكانت لديهم كلهم الرغبة في الإستهلاك المترف المميز للطبقة المترفة، أما المثاليون فقد طوروا مجموعة دوافع اعتبرت أن الرغبة في الربح كشيء غير عقلاني وغير لائق من الناحية الأخلاقية، والتقاليد الإسلامية تصور بسعادة العطور والبخور وتهذيب اللحية عن الأتقياء. وبالنسبة لفيبر شجعت الدوافع الخلقية عند المثاليين على استثمار رأس المال ولكن راس المال في الإسلام استهلك في سلع شخصية أو أنفق بسخاء على الحور.
ومما لا شك فيه أن أكثر نقاط الضعف وضوحاً عند فيبر كانت في تفسيره للكلمات السائدة عن الدوافع في “الإسلام القديم”. والفقرات الموجودة في كتابه الإقتصاد والمجتمع التي تعالج الإسلام محشوه بالعداء والكراهية وعدم التذوق الشخصي. وفي الحقيقة كان علم اجتماع فيبر لنشأة الاسلام والرسول أقرب للنقد الأخلاقي منها إلى النزاهة العلمية والحيدة، وعلى ذلك فإنني لا أنتقد فيبر لفشله في أن يحافظ على النزاهة العلمية بل لفشله في نقده الخلقي. فعلم اجتماع فيبر كنقد للإسلام يعكس كل صور التحيز الإيديولوجية التي كانت موجود في القرن التاسع عشر وما سبقه. فحتى فترة العظمة الأوروبية كان الإسلام يقدم على أنه الخطر الرئيسي العسكري والخلقي للمسيحية وذلك لأن الإسلام كان قوياً وبديلاً يافعاً للدين المسيحي. ولشرح انتشار الإسلام طور علم اللاهوت المسيحي نظرية دفاعية تبرهن على أن نجاح الإسلام كان نتيجة لعنف وهمجية ودهاء المسلمين. وعندما تغيرت العلاقة الاقتصادية والعسكرية بين الإسلام والمسيحية فإن نظرية القرون الوسطى عن الفساد الإسلامي تعدلت ولكن الأفكار الرئيسية حول التزفت والشهوانية الجنسية مازالت باقية.
وعلى الرغم من أن معلومات فيبر عن الاسلام كانت محدودة بالدراسات الألمانية في عصره، إلا أن تنميطه للتزمت والإباحية الجنسية في الإسلام لم تكن بعيدة جداً عن الصورة العامة عن الإسلام التي كانت شائعة في تراث القرن التاسع عشر الاوروبي.
وفي خلال القرون الثلاثة الأولى للإسلام ظهر هناك عدد من الإبتكارات الخلقية والفنية والصناعية والتوسع، وعليه وجدت مجموعة من المفردات للدوافع لوصف وتفسير وتبرير وشرح هذه النشاطات الجديدة والقديمة وببروز النخبة العسكرية الاجنبية ونمو النظم الوراثية ووقف التوسع الإسلامي تضاءل الوضع الإجتماعي للطبقة المتوسطة تقريباً إضافة إلى ذلك كان الإسلام في بداية القرون الوسطى مهدداً من الصليبيين والمغول والتمرد الداخلي، ولمواجهة هذه الصعاب بحثت القيادة الوراثية عن مفهوم سلفى وإيديولوجي للضبط الإجتماعي.
وفي ظل الأحوال الوراثية تكونت لغة للدوافع جديدة لدى العلماء عن طريق المدارس الجديدة المؤسسة على الاسلام السني، التي كانت مناسبة جداً لمتطلبات النظام والأمن للطبقة المسيطرة. وحيث أن ضبط النفس عن طريق الخضوع لقانون الهي قد أصبح الدافع الأول، أصبحت البدعة نشاطاً إجرامياً، وفي ظل هذه الظروف كان الإسلام يوصف كدين عبودي وجبري أو كدين يتفق والحكم الوراثي. وليس من السهل القول بأن مجموعة الدوافع البديلة الناقدة والمعارضة قد اختفت، فلقد حاولت الشيعة والحركة القرمطية والمعتزلة وبعض المدارس الفلسفية أن تحافظ على نوع من الحرية الإنسانية وبذلك التزمت بفكرة الإختيار الخلقي ولكن المفردات الدوافعية المسيطرة كانت السنية والمحافظة. إضافة إلى ذلك فإن النظرة للدافعية الإنسانية بقيت حتى الأزمنة الحديثة وبالذات في أجزاء العالم الاسلامي النائية.
وبذلك فإن هنالك عدداً من الإعتراضات القوية لمعالجة فيبر للأخلاق الإسلامية، فلقد بالغ فيبر في وصف الدور الإجتماعي للمحاربين المسلمين ولم يكن مدركاً لاهمية التجار في تشكيل قيم الإسلام الأولى، ومثلهم مثل أقرانهم من المثاليين (Puritan) فلقد خلق التجار رسالة في العالم أضفت على الدوافع التجارية الإعتبار الأعلى.
وعلى الرغم من أنه يمكننا أن ننتقد فيبر على ذلك إلا أنه من سخرية القدر أن المصلحين المسلمين في القرن التاسع عشر قاموا بتحديد مجموعة جديدة من الدوافع للإسلام في العصر الحديث.
وبينما كانت هنالك مواقف مختلفة أخذتها المجموعات الإصلاحية المختلفة فلقد كان هنالك موضوع مسيطر في الرد الاسلامي على السيطرة الأوروبية. وكان الرد أن الإسلام في نقائه الاول كان نشطاً ويهتم بشئون هذا العالم وأخلاقه الإجتماعية السياسية يمكن أن تتفق تماماً مع الحضارة الصناعية الحديثة ولكن هذا الإسلام النقي الصافي قد أفسد وخضع لمؤثرات خارجية. ولقد نجح المسيحيون لأنهم تخلوا عن دينهم الأخروي لصالح العقلية المادية، والاسلام في تراجع لان المسلمين تخلوا أو أفسدوا الاخلاق الإسلامية الأصلية. ويمكن تلخيص المسألة بهذه الصورة.
لقد أصبح المسيحيون أقوياء لأن الكنيسة نمت داخل جدران الامبراطورية الرومانية وأدخلت معتقداتها وفضائلها الوثنية فيها. أما الشعوب الإسلامية أصبحت أضعف لأن حقيقة الإسلام أفسدتها موجات الحركات الهدامة المتتالية، إن المسيحيين أقوياء لأنهم ليسوا حقيقة مسيحيين والمسلمون ضعفاء لأنهم ليسوا حقيقة مسلمين”.
ولكي تصبح “مسلماً حقيقياً من الضروري تخليص الإسلام من العادات اللاعقلانية والمؤثرات الأجنبية حتى يمكن اكتشاف الإسلام الأصلي والحقيقي الذي في نظر الإصلاحيين متوافق تماماً مع حضارة العلوم والصناعة. ومن هذا المنطلق فإن عدو الإسلام والمجتمع الحديث هو مجموعة المواقف _الجبرية والتقليد والسلبية _ التي طرأت على إسلام السلف عن طريق التصوف.
المصدر: علم الاجتماع والاسلام.
iThere are no comments
Add yours